كتاب علي جوك، للشاعر سالم العالم.
قراءات

شاعر المحكية الليبي يخترق منصة القاهرة الشعرية

كتاب علي جوك، للشاعر سالم العالم.
كتاب علي جوك، للشاعر سالم العالم.

حين اعتلى شاعرنا البهي منصة خيمة الراحل فؤاد حداد الشعرية بمعرض القاهرة للكتاب ذات مساء وغنّى تواشيحه الشعرية المحكية، كان الوقت حينها رائقاً، والقلب يخفق محتضناً صورة ليبيا الحبيبة وهي تتجلى في نصه الشعري الرشيق، فترتسم الأمكنة والتاريخ والمعاناة والآلام والأحلام والآمال مع كل دفقات روحه الهامسة، وتجلياته الحاضنة لدموعنا وآهاتنا وأيامنا الموجوعة ونفوسنا المنكسرة.

كان الشاعر سالم العالم نجماً ساطعاً ليس في فضاء الخيمة أو المعرض بأكمله فحسب، بل في سماء الكون الفسيح بأسره حين استطاع أن يخترقنا في العمق بنصه القوي المفعم بالقيم الإنسانية والروح الوطنية وصور المحبة المتدفقة في مضمونه وموسيقاه، ويزرع في كياناتنا وجداً، وحنيناً، ولهفة، ودموعاً اختلطت بدموعه المخفية واللامرئية، وبذلك فقد استحق شاعرنا البهي من جميع الحاضرين بالخيمة التحية والاشادة والتصفيق بكل جدارة.

وإن كان ما يميز الشعر هو الدهشة فنصوص سالم العالم هي فن الدهشة والمباغثة والمفاجأة الشعرية التي تجعلك تتوقف عندها بأحاسيس متداخلة بين الضحك والبكاء والقبول والإنكار. وإن كان الشعر ناقوساً يدق جدران الفكر بمطارق الأسئلة فإن نصوص سالم العالم مكتظة بها وبإثارتها خلالها العديد من القضايا العامة والخاصة.

إنّ شاعرنا البهي سالم العالم لا يستعمل حبراً أو مداداً عادياً في كتابة نصوص شعره المحكي، بل هو يستقيها من سيول الدموع الصادقة النقية، والأحاسيس والمشاعر الإنسانية النبيلة العميقة، والابتسامات العذبة والمواقف العابثة، ولذلك فلا يمكننا أن نوصد أبواب قلوبنا وعقولنا أمام جماليات نصه المحكي الجميل المبهر والرقراق.

وفي هذه المصافحة الرقيقة لنصوصه الزاخرة بالعذوبة اخترتُ بعضاً من ديوانه (على جوك) وهو قصائد محكية باللهجة الليبية تضمن ثلاثة وعشرين نصاً تفاوت النفس الشعري فيها بين القصير والمتوسط، ولكن جميعا ظهرت مواكبة لصور الحداثة الشعرية سواء في مضامينها وموضوعاته أو أسلوبها الفني المقتبس والمنقول بإمتياز من رحم حياتنا الليبية ومعاناتنا اليومية على المستوى الشخصي أو الوطني، وبلا شك فإن هذه النصوص تحتاج إلى وقفة مطولة للغوص في تراكيبها وموسيقاها وصورها التعبيرية الخلابة الممزوجة بالأسى والأمل والفرح من خلال أسئلة عميقة يطرحها شاعرنا سالم العالم في هذه الأعمال بكل وثوق في بلوغها الغايات المرجوة منها.

ففي نصه (مش مسموح) وبصوت المتكلم الواحد الذي لم يكن فرداً، بل صوتاً إنسانياً جماعياً، يعلن شاعرنا سالم العالم رفضه الصريح والمعلن للإقصاء والتهميش، حين يقر المساواة بين الجميع، ويحدد الحقوق والواجبات لكل طرف من الفرقاء، منحازاً في نصه إلى العقل والمنطق والوطن بجميع أطيافه حين يقول:

(مش مسموحْ

من أجل تحيَّ روحْ

تزهق روحْ

وصوتك بروحك ينسمعْ

وصوتي أنا مكبوحْ

مش مسموحْ

تكتم على أنفاسي

وتضحك على إحساسي

وتحسابني مرتاحْ

وأنا اللي مذبوحْ

مش مسموحْ)

أما في نصه (تساؤلات) الذي جاء في ثلاثة مقاطع يشاكسنا الشاعر سالم العالم بأسئلة تبدو للوهلة الأولى عابرة وبسيطة ولكن حين التوقف عندها نكتشف أنها تبحر بنا بعيداً في دهاليز الفكر والتأمل ونظل نلاحقها خارج فضاء النص الشعري المحكي، وهذا دليل على توغله فينا وسيطرته على مشاعرنا وإدارته محرك عقولنا بكل اقتدار وإمتاع:

(كم وجه

يعرفني ..

من غير

ما نتلاقوا ..؟

وكم شمس

ذابت

في الشفق ..؟

وكم عين

طاحت

في العرق ..؟

وكم وجه

ما يعرفني ..

في عيوني

غرق ..؟؟!!)

ولا يكتفي سالم العالم بنوع واحد من الأسئلة بل يظل يلهث وراءنا ويرواغ اللغة الرقيقة ليطرزها بجماليات تفرز أسئلة مركبة أخرى تبهرنا وتصدمنا في آن واحد، وإن كانت مريرة قاسية. ففي نصه (معروف عنك) لا نجده يوجه أسئلة عادية تملك إجابات محددة وجامدة، بل نوعية أسئلته تتفتح بالكثير من القضايا المادية والحسية المتشابكة التي تتلاقى فيها الذات المبدعة مع أطراف أخرى :

(شن فايدة

كلمة حدا كلمة

في كتاب

عمره ما انفتحْ

وشن فايدة

كل ما عرفته

وما كتبته

عالألم

لإنسان

عمره

ما انجرحْ)

إن اللغة عند شاعرنا سالم العالم هي المتعارف عليها بشكل شمولي أداة التواصل بين الناس ونقل المعارف والأخبار وتبادل الأحاسيس والمشاعر بصرف النظر عن الحروف التي تكتب بها، وفي هذا نجده في نصه (SMS) يوظف الموسيقى الصوتية (اس ام اس) للكلمة الانجليزية الاصطلاحية ليستفيد منها إيقاعياً وموضوعيا في إبداع نص زاخر بالجماليات التي تبرز برهاناً وصوراً من المواكبة الشعرية للمنجز التنكنولوجي وكذلك لتماشيه مع تطورات أساليب الحياة اليومية، وهذا دليل على أن الشعر المحكي لا يغرد خارج نطاقه الزماني والمكاني، بل هو صوت الحاضر فينا باللغة التي تتمدد داخلنا أفقياً وعمودياً وتعلن حضورها الواثق، ونحن نؤكد بدورنا ارتهاننا لها لأنها صوت الإنسان المستوطن ذواتنا.

(SMS

“ص.خ”

صباح الخير

صباح النور

“ص.ن”

قديش هللي اخترع هالهاتف

كاين إنسان حنونْ

خلى حكايات الغرام

تنحكى عبر الحروف

والتغى دور العيونْ

يا ترى كان شخص عاقل

ولا عاشق .. كيف حالي ..

صابته لوثة جنونْ …؟

SMS

“أنت حبيبي وبس”)

ولا تتوقف العذوبة اللغوية والمتعة الفكرية في نصوص الشاعر سالم العالم عند هذا المستوى، بل نجدها في قصيدته (نحنا الحياة) تصفعنا بقوة ولذة حتى نستفيق من واقعنا البائس ونجعل لوجودنا معنى في هذه الحياة لأنها بكل بساطة .. هي نحن:

(لما الحياة نحنا؟

ليش النفس مقطوع؟

ليش بالنا موجوع؟

ليش عايشين في جوع؟

ومحنة ورا محنة؟

مادام الحياة نحنا!!)

هكذا يبهرنا الشاعر الجميل سالم العالم بأسئلته التي لم تكن جديدة علينا لأنها أسئلة الماضي والحاضر الإنساني ولكنه بفطنته وبراعته استطاع التقاطها وتشكيلها في قوالب إبداعية بسيطة بعثت فينا اندهاشها والكثير من البهجة وإن ظلت فيها دموعنا صامتة وزفراتنا حارقة .. لأنها بكل بساطة .. هذه الحياة بكل تقلباتها والتفافها سلباً وإيجاباً.

إن الشعر المحكي في ليبيا وهو يحتضن العديد من الأصوات الرقيقة التي من بينها شاعرنا سالم العالم ورفيقيه محمد الدنقلي والصيد الرقيعي وغيرهما سجل ريادة وبصمة واضحة في المشهد الشعري الإبداعي في ليبيا لامس فيه مشاعر الناس وهمومهم ومشاغلهم، وبالتالي نال محبتهم واحترامهم وتقديرهم بكل اقتدار، وإن كان الحظ لم يحالفني بالاستماع إلى نصوص محكية غير قصائد الشاعر محمد الدنقلي وصاحب هذا الديوان (على جوك) شاعرنا سالم العالم فإني على ثقة ويقين تام بأنه يستحق الكثير من التوقف للاستمتاع بفيوض مباهجه وصوره الرقيقة الخلابة.

مقالات ذات علاقة

التليسي الشاعر

ناصر سالم المقرحي

إنّي أُصغي لندائك

مهند سليمان

رواية المُجنّد…أعراض أزمة الانتماء

مهند سليمان

اترك تعليق