غاندي
المقالة

حقيقة اللاعنف لدى غاندي

غاندي
غاندي

عادة ما تحاط الشخصيات المتميزة، من المراجع الدينية وقادة الثورات والمناضلين والزعماء السياسيين، بهالة تقترب بهم من الشخصيات الأسطورية، بحيث يُسلط الاهتمام على مناقبهم وخصالهم الإيجابية، ويُغض النظر عن نواقصهم وأخطائهم. وبذا يتم إظهارهم على أن ذواتهم تخلو، بالكامل، من أية شائبة.
من أمثلة ذلك الصورة التي تكونت عن السياسي الهندي، العظيم فعلا، المهاتما غاندي.

في كتاب ترجم إلى العربية مؤخرا لكاتب اسمه نورمان ج. فينكلستاين بعنوان “ماذا يقول غاندي؟ عن اللاعنف والمقاومة والشجاعة”* يحاول الكاتب “تخفيف” الهالة الأسطورية التي صنعت حول هذا المناضل، من خلال الكشف عن بعض تناقضاته الفكرية والسلوكية، وحتى عن البعد الشمولي في فكره.
يقول المؤلف أن غاندي يُذكر كثيرا، لكنه نادرا ما يقرأ( المقدمة ص 9). ويقول أنه لاحظ خلال تفحص مجموعة أعمال غاندي في “مكتبة جامعة بحثية أميركية راسخة، أنه لم يسبق أن اُستعير إلا مجلد واحد من أصل حوالي 100 مجلد يراوح حجم كل واحد منها 500 صفحة من تركة غاندي” (ن. ص).
فالصورة المثبتة لغاندي تطابق بين اسمه واللاعنف. فهو يقدم على أنه “قديس غريب الأطوار من عالم آخر لا يمكن أن يؤذي ذبابة، ويبدو أنه لا يستطيع حتى لو كان ميالا لذلك” (ص 10).
لكن الحقيقة أن غاندي كان “من أدهى العارفين بألاعيب السياسة، بحيث يستطيع أن يسبر أفضل من أي من معاصريه مكامن القوة لدى شعبه وخصومه وحدودها” (ن. ص).
وفي ما يتعلق بمسألة اللاعنف، التي ارتبطت بإبداعه النضالي في استحثاث الجماهير الهندية على المقاومة ضد الاستعمار البريطاني، يقول غاندي نفسه “اللاعنف الخالص الذي لا تشوبه شائبة مستحيل استحالة مستقيم إقليدس” (ص 19). كما إنه “جنَّد الهنود ليحملوا السلاح ويقاتلوا إلى جانب بريطانيا” (ص 20) في الحرب العالمية الأولى. بل إنه مضى إلى أبعد من ذلك بإجازته “استنفار الجيش وتعريض حفنة من الرجال لإطلاق النار” (ن. ص) لإيقاف أعمال الشغب بين الطوائف الهندية (ن. ص). وقد قال أنه مستعد لاستعمال العنف “ضد العالم كله إذا وجدت نفسي محشورا في زاوية لا أستطيع فيها إنقاذ فتاة عديمة الحيلة من الاغتصاب” (ن. ص). وهو يرى أن “الدفاع عن النفس حق أي كان بحكم المولد” (ص 45). ويقول “سيكون من المبرر أن تصفع المتسلط عليك في وجهه أو تتخذ أي إجراء قد تراه ضروريا دفاعا عن احترامك لنفسك” (ن. ص). وقد أيد المقاومة العربية المسلحة في فلسطين 1936- 1939(ن. ص).
وغاندي يفرق بين اللاعنف الناتج عن الجبن وذلك المنبثق عن الإيمان بالمبدأ نفسه حتى ولو كان المرء قادرا على العنف. ويرى أن الجبن أسوأ من العنف. فـ “عندما لا يكون هناك خيار إلا بين الجبن والعنف، أنصح بالعنف” (ص 48). ويقول أنه حين سأله ابنه الأكبر عما كان يتوجب عليه أن يفعل لو حضر واقعة الاعتداء عليه بشكل كاد يفضي إلى هلاكه عام 1908″قلت له إن واجبه كان هو الدفاع عني، ولو باستخدام العنف” (ص 48- 49). ويضيف “… أنا أدعو إلى تدرب من يؤمنون بأسلوب العنف على الأسلحة. أنا أفضل أن تلجأ الهند إلى السلاح دفاعا عن شرفها على أن تصبح أو تظل تقف بجبن شاهدة عديمة الحيلة على عارها” (ص 49). إنه يمقت الجبن مقتا بالغا، وفي هذا الصدد يقول “فأنا أفضل كثيرا أن تلقى حتفك ببسالة وأنت تسدد ضربة وتتلقى ضربة على أن تلقاه في رعب مخز” (52). ولذلك يعلي من شأن اصبرطا (53).
*
أما العنصر الشمولي في فكر غاندي فينكشف في تأكيده، عديد المرات، على أنه لا يعتمد على العقل في قراراته، حيث يقول “أنا لا أستهدي بالعقل… وإنما بغريزتي أو بعبارة أخرى بالصوت الداخلي، ولا يعرف المرء أبدا إلى أين يقوده ذلك الصوت” (ص 27). وجانب الشمولية هنا هو أنه لا تمكنك محاججة ‘‘صوت داخلي‘‘ (ص 28). وقوة اللاعنف لديه تنبع من “كفاءة لا سبيل لقياسها لذات إلهية لا سبيل إلى إدراك كنهها” (ن. ص) وبالطبع تستحيل مناقشة مثل هذه الذات.
البعد الشمولي لدى غاندي لا يبدو في فكره فقط، وإنما في ممارساته أيضا. فقد اعتبر نفسه المرجع الأوحد في ما يخص نظريته النضالية المسماة ساتياغراها [قوة الحق] (ص 29). كما قرر أنه لا يجوز لأحد الدخول في إضراب احتجاجي عن الطعام دون إذنه (ص 30). وكان أحيانا يطرد من يجادلونه من مجلسه (ص 31). وهو يقول “أنا واثق أن الله اتخذني أداة للتدليل على الطريق الأفضل” (ص 29). الأمر الذي يعني، ببساطة، أن الشك في غاندي شك في الله! (ن. ص).
*
يبدو أننا سلكنا، في هذا المقال، مسلكا يعاكس نهج توسيع الهالة حول غاندي، وهو، بالطبع مسلك خاطيء لأنه وحيد الجانب، لأن غاندي “كان أقل تعسفا وأكثر اتساقا بكثير مما كان يبدي في بعض الأحيان” (ص 31).

* نورمان ج. فينكلستاين، ماذا يقول غاندي؟ عن اللاعنف والمقاومة الشجاعة، ترجمة: أحمد زراقي، كتاب الدوحة، فبراير 2018. وجميع أرقام الصفحات الواردة في المتن تحيل إلى هذه الطبعة.

_________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

مومياءات ليبيا أكثر قِدَماً من المصريّة

منصور أبوشناف

نوار «بوقرعون»

محمد عقيلة العمامي

محكية بلا ضفاف

مهدي التمامي

اترك تعليق