المقالة

نوار «بوقرعون»

تلك النوارة، الحمراء الرقيقة، التي تكثر في أشهر الشتاء، والتي نراها غالباً بين العشب، أو بين سنابل القمح، والتي نسميها (بوقرعون)، هي من مجموعة زهور يطلق عليها (الأقحوان)

يوم من أيام السنوات العجاف، التي كان لكل شيء قيمة، خصوصاً المواد الغذائية، وبالطبع كانت لحوم الضأن الوطنية منها. كنت رفقة زوجتي وصديق إنجليزي وزوجته الألمانية مدعوين إلى وجبة غداء بمدينة المرج. ظلت زوجتي صامتة، فيما قمت بدور «المرشد السياحي» ومترجم لما يقوله الإنجليزي لرفيقتي، وكان سهل المرج منبسطاً بمساحات جرداء بنية، وإن كانت آلة الحصاد لم تنل من بضعة سنابل ذهبية هنا وهناك، تتموج، مع تيجان نوار(بوقرعون) الحمراء المُلتفة حول حبوب لقاحها السوداء، وقطعان أغنام التي لم يجز صوفها البني بعد، تلحق بها خرافها البيضاء الصغيرة تتنقل ما بين ما تبقى من تبن وسنابل لم تحصد. لقد أخذنا جميعاً بمنظر ذلك السهل الذي لفّته سماء زرقاء ببقايا غيوم صغيرة تلهث نحو الشرق لتلحق بسربها

أشرت إلى صديقي (أرثر) إلى استحواذ لون الأقحوان على جمال اللوحة، وسألني عن اسمها وتحدثنا عن السهل والقمح، وعندما صمتنا، سألتني زوجتي، عما كنا نتحدث، فأخبرتها مؤكداً لها جمال بوقرعون، تبسمت، وقالت ساخرة: «بوقرعون؟ يا راجل تخيل فقط.. أن ذاك الخروف مسلوخ ومعلق على الشجرة.. ورائحة الشواء تعبق المكان.. وقدر المسلوق يغلي! هذا هو المنظر! (بوقرعون) لا يؤكل ولا ينشم!» ومطت شفتيها.
(جوزيف أديسون 1672-1719) الذي عاش في ذلك وقت لم يكن فيه سوى مسرح يعالج حياة الناس ومقالات طويلة كالتي تناولناها في موضوع سابق يقول بضرورة الاتجاه إلى المقال القصير: «الذي لا نقرأه للدراسة، بل للمتعة. فإن كان الموضوع هيناً، فكذلك يكون المقال قصيراً، وبذلك يجد المشغولون الوقت، ويجد الكسالى الصبر».
هذا في الواقع هو حال القراءة الآن، هكذا يريد الناس المقالات خفيفة قصيرة، لدرجة أن رئيس تحرير صحيفة ما طلب مني كتابة عمود لا يتجاوز ثلاثمئة كلمة، وهذا ما شدني تماماً إلى مقالات سمير عطا لله، فهو كما أرى سيد هذا النوع من المقالات.

للكاتب الإنجليزي (جوزيف اديسون) مقالاً حوالي 1000 كلمة فقط، عنوانه (التوليب) وهو جنس لزهرة زنبقية لها أكثر من 100 نوع، جميعها جميلة للغاية وأصلها من تركيا، ثم انتشرت في العالم خصوصاً في هولندا. والمقال قصير بمفهوم ذلك العصر، لأن المقالات كانت وقتها للدراسة بالدرجة الأولى، وليست للتسلية، ناهيك أنه لم يكن هناك لا (فيسبوك) ولا (تويتر) والمقال خفيف ومسلٍ بالفعل، ورأيت أن أقتبس منه ما يشبه قصة الأقحوان.

في المقالة يقول إن مطراً مفاجئاً باغته ذات صباح في الريف الإنجليزي، عندما لنا أستيقظ باكراً وخرج في نزهة رائقة، وصف الخضرة والنوار. احتمى رفقة مزارعين تحت مظلة كوخ قريبة من حقل بديع من ازهار التوليب. كان الرجال مستغرقين في مناقشة محتدة بينهم، اهتم بها عندما انتبه أنهم يتحدثون عن الإسكندر الأكبر وكسرى، وعدد من أبطال التاريخ يقارنون بين هؤلاء الأبطال ولكن من دون أساس حقيقي لهم، وذكر أحدهم أنه يفضل شخصية من قرون تسبق شخصية كانت في ذلك الوقت معاصرة، واستغرب كيف تتحقق المقارنة ومئات الأعوام تفصل بينهما! وتعجب بينه وبين نفسه كيف تسنى لهم معرفة هذه المعلومات خصوصاً عندما سمعهم يذكرون أسماء جنرالات كبار مثل (أمير هسة) وملك السويد وعندما أضافوا أن تاج فرنسا في غاية الضعف، وإن كان المارشال ما زال محتفظاً بألوانه، وافقهم في الحال. وبعدما توقف المطر وتهيأوا للانطلاق نحو حقولهم، استأذنهم في المضي معهم، فلقد كانت الأزهار بديعة. وعندما أخبره أحدهم إن كان مجيئه إلى هذا الحقل بسبب شغفه بالأزهار، فلقد وصل إلى المكان الصحيح فليس ثمة حقل للأزهار في طول البلاد وعرضها يضاهي حقلهم، ولما بدأ يستعرض أزهاره وأسماءها انتبهت أنهم كانوا يتحدثون عن أزهار التوليب، لأنها مسماة بالأسماء الكبيرة التي سمعها. ومن بعد أن أفاق من دهشته من منظر الزهور الأخاذ، امتدح زهرة بعينها فتعالت ضحكاتهم لدرجة السخرية، كان اسمها «رداء الأحمق» وهي ليست بتلك الجودة، وعندما حاول أن يخرج من مأزقه اختار سهرة أخرى، فتعالت ضحكاتهم مرة أخرى لأنها كانت نوعاً آخر من رداء الأحمق.

وعرف أن حوضاً صغيراً من زهور التوليب تبلغ قيمته أموالاً كثيرة، ولم تكن الزهرة هي الأجمل، ولكنها قسمتها كانت بسبب ندرتها وغرابتها. ولما عاد طفق يفكر في ثروات الناس الكبيرة، التي هي ليست أجمل ما في الوجود، وإنما الجمال هو جمال «الكرم الإلهي، الذي لا حدّ له، والذي جعل أجمل الأشياء في الوجود وأجلبها للبهجة، هي أكثر شيوعاً وأعمها للناس». ومع ذلك لا يتقاتلون عليها، وإنما يدوسونها بالأقدام!.

_________________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

فقدان

يوسف الشريف

ملاحظات حول ندواتنا الثقافية

إبراهيم حميدان

الهوية الوطنية والحضارية الجامعة

علي بوخريص

اترك تعليق