غمر قلمي الفرح و زهت أحرفه و هي تعانق ما انتظم و نظم و ينظم في غياب و حضور خليفة التليسي ، ثمة عشق للأدب ينساب مع شيخ المؤرخين الذي زهت به الألقاب مترجما و قاصاً و شاعراً و جامعاً للأدب و أستاذا له .
ما وقعت عليه عيناي من أشعار له جنسته بأنه شاعر في قلب عاشق وله و خجول يمتطي الكلمات كدرع للبوح علي مكامن قلبه و قلما يتركها تنساب بحرية في أغوار الشعور يكبحها في مكامن عدة ، ربما لخجله و ربما لشيء يقتضيه لذاته كما أننا لا نشجع كونه شاعراً ، لوصم عقولنا بكون التليسي ناقداً مؤرخاً و قاصاً و متناسينا شاعريته .
و تعتبر شاعرية التليسي محط غموض و اختلاف لدي كثيرين كون الشاعر اختبأ طويلا و راء جدار النقد و لم يهتم بنتاجه الشعري بشكل بارز ، فمن ناحية العددية لقصائده فهي قليلة مقارنةً مع العدد الهائل لإنجازاته الأخرى ، و لكنها فنياً راقية النظم و رائعة التكوين و الصور ، فحافظ بنظمه للشعر على ركائز النظم و تكوينه مع ملاحظة أنه شغل نشاط النقد الشعري الكثير من وقته و حتى إبان خروجه بنظرية حول قصيدة (البيت الواحد)
في حيز من التصريح قال التليسي ليكون الشعر شعراً لا بد أن تتكامل عناصره من عاطفة و خيال و موسيقي شعرية و أسلوب شعري سليم و أجملها في:ـ
1 ـ الخيال و الشعور
2 ـ التعبير الصادق عن مشاعر الشاعر
3 ـ إبداع الصور
4 ـ الاهتمام بالصياغة و التعبير بالألفاظ
5 ـ وضوح العنصر التأملي الذاتي عند الشاعر
6 ـ عمق التجربة الشعرية و المعاناة
7 ـ جودة الأسلوب و قوة المعنى .
في عجالة و بعد هذه التوطئة البسيطة كان علي لزاماً أن أقدم لكم قلب التليسي في قالب مغاير من الأحداث فهو قاوم و بحزم خروج قلبه للعيان حمله مشقة الغوص ، في عتمة الكلمات التي تحاول أن تتحدث بمكنونات قلبه لكنها تغيبه في عمائمها و متاهاتها اللفظية .
ولقد اشتهر بقصيدته الرائية المعروفة “وقف عليها الحب” فكانت هذه القصيدة مثار جدل على مدار أعوام كثيرة و على حساب جُل ما كتب ، كونها خاطبت القلوب و العقول و تغزلت بالحب في ليبيا و كأنها فتاة تحمل في جعبتها الجمال و الفتنة و الأنوثة فما أن يذكر التليسي حتى تقفز بالأذهان :ــ
وقف عليها الحب شدت قيدتنا
أم أطلقت للكون فينا مشاعرا
وقف عليها الحب ساقط نخلها
رطبا جنيا أم حشيفا ضامرا
وقف عليها الحب كرمى عينها
تحلو منازلة الخطوب حواسرا
و في حين باتت محاولاته نقل كل مشاعره من خلال العام و نبذه غالباً للخاص بالرغم من أن قصائده التي عن المرأة أظهرت الكثير من ذلك و خصوصاً في مخاطبته الوطن كذات يحب و يحسن و يستنطق ، كما أن شعره المرتكز على المرأة أظهرت ذاتيته بشكل كبير للعيان في مطلع قصيدته ” ترَاجع” على لسان فتاة كانت تتحدث إليه كونه تقصى جانبا ً عنها و لم يحاول الغوص بحبها :ـ
قالت تراجعت في خوف و إجفال
من أول الشوط دون المطمح الغالي
إلى منتهى القصيد حين يقول على لسانها
فلم تراجعت و الأشواق مطلعها
يوحي بأن كمال الحب إذلالي
فهذا الحوار الذي ما بين الشاعر و ذاته و بوحه لما اشتكت منه الفتاة ، فغالبا ما تكون المرأة هي من ينشد الشاعر بها الشعر و الحب لا أن تكون الند كما يحاول التليسي ذلك رغم الصراع بين ذاته و عشقه ، يجعل من المرأة دوما مثار جدل و أخذ و تمن لا يقحمها داخل روحه و قلمه إلا من خلال مساجلات خجولة تدل على لفظية الشاعر الراقية و خجل ذاته المفرطة بجزئية كونه رجل .
في جدلية تامة تكون المرأة عند التليسي مثار استقصاء للشموخ و الحب و الند لأنه اختار مخاطبتها بضمير المخاطب في جل قصائده يحاورها و تحاوره وففي قصيدة ” الناقدة ” يقول عنها :
يزيدك عمرك عندي كلما رحلت
في عمق نفسك أثامي و أوزاري
و في قصيدته “الجنية”
فإن خبت أوقدت بالهجر جذوتها
وإن تعالت فبالإقبال تطفيها
و عند غضبتها شعر يصالحه
و عند رجعتها شعر يناغيها
و مغنم الفن من أوجاع فرقتها
كمغنم الفن من نعمى تلاقيها
المرأة في شعر التليسي أخذت الكثير كونها ملهمه ، واثقة و محاربة لما تحتويه من غموض و ثقة و نفائس فهي التي تعطي الحب و تنير القلب الخجول لشاعرنا و لكنه يحجم وجودها في إطار مصدر الإبداع له ولا أكثر من ذلك .
كانت هذه وقفة في عجالة على صاحب (وقفاً عليها الحب) ، فمن خلال منظور شاعريته أمتزج شعره بثلاثية الوطن و المرأة و الطبيعة ، كما خاطب الوطن الحبيبة و الحبيبة الوطن كثيراً في محاولة منه ، لإقصاء الخصوصية من شعره و الذاتية ، بشكل يصعب الفصل فيما بينها .
و أنهي عجالتي بقصيدة يخاطب فيها فتاة عن الكبر و المشيب و يتحدث عن جمال و روعة المشيب و وقاره و رهبته في جزء منها يقول :ـ
سمعتني أشكو الحادثات و أحنق
و أذم ما فعل المشيب المحدق
فتبسمت لطفاً و ساقت حكمة ً
إن المشيب رصانة و تألق
خلف المشيب عزائم و وقائع
يمضى الزمان و ذكرها لا يمحق