كانت وستظل “الأغنية” بجميع أنواعها وأشكالها علامة مميزة في نسيج الهوية الفنية الوطنية التي ترصد وتوثق مناسبات وأحداث وتاريخ المجتمع وثقافات شرائحه المتنوعة، وتوطن العديد من القيم والمعاني الإنسانية النبيلة في فكر وسلوك أبناءه، وتحشد الهمم المعنوية وترفع حماسة الروح الشعبية أثناء الأزمات والمحن والتهديدات والانتكاسات التي يتعرض لها الوطن الحبيب، وبالتالي فإن فرسان الأغنية مؤلفين وملحنين ومطربين يظلون أيقونات إبداعية تحظى بفيوض المحبة والكثير من الثناء، وتحصد التصفيق والاعجاب والإطراء على قدراتها الفنية الإبداعية المبهرة.
والفنان الراحل محمد حسن رحمه الله حتى وإن كان قد اختط مساراً مميزاً للأغنية السياسية أو الوطنية يمكن أن يطلق عليه الأغنية الايديولوجية الثورية التي صاغت الأفكار التحريضية والتوجهات السياسية، وعملت على تسويقها عبر نغمات وجمل موسيقية صادحة حد الهتافات الجماهيرية الهادرة مثلت طبيعة مرحلتها الزمنية وظروفها السياسية التي ولدت فيها، فألهبت جماهير ومحبي وعشاق فنه الجميل الممزوج بأصالة التراث والفلكلور الشعبي، وصارت أناشيد شعبية يومية يصدحون بها ويطربون لها، فإنه رحمه الله سيظل بسجله الغنائي والتلحيني الكبير يحتل مكانة مرموقة في إرشيف الأغنية الليبية المعاصرة بكل أصنافها الفنية موضوعاً وتلحيناً وأداءً مما سيمنحه حضوراً متواصلاً في المشهد الغنائي الليبي، لا أظنه سيتوارى أو سيغيب بعد رحيل جسده، حتى وإن كنا لا نتفق كلياً مع مضامين بعض أعماله الغنائية ومستوى ألحانه الموسيقية التي هي بحاجة إلى دراسة بحثية مستفيضة من المختصين في مجال الأغنية الليبية، وهو مجال لم نوليه للأسف اهتماماً جديراً به، لأننا لم نؤمن بعد بخطورة الأغنية ودورها في حياة المجتمع خلال كل المراحل والأزمنة.
وعلى المستوى الشخصي لا أدري متى تعلقتُ بأغاني وألحان الفنان الراحل محمد حسن الذي شكل لبنة مهمة وركناً أساسياً في مستوى هيامي وتذوقي وطربي للألحان والأغاني الليبية كافةً، ولكني سرعان ما تجاوزته حين وجدتُ روحي الشفافة تنساق بكل رهافتها إلى فضاءات اللون الطرابلسي الأصيل الذي صاغ كلماته كل من أحمد الحريري ومسعود القبلاوي وعبدالسلام القرقارشي وعلي السني ومحمد حقيق ومسعود بشون ونوري ضو وأحمد النويري وغيرهم كثير، مطبوعاً بألحان كاظم نديم ومحمد مرشان وعبداللطيف حويل وعبدالباسط البدري ونوري كمال وعلي ماهـر ومحمد الدهماني ومحمد الكعبازي وعمر الجعفري وسلام قدري وحسن عريبي وعطية محمد وعبدالمجيد حقيق وناصر المزداوي وغيرهم، تلك الأغاني المكتظة بالمفردة اللغوية الرقيقة، المنتمية إليّ، والمميزة بنكهة وتفاصيل المكان والبيئة فجاءت عبقة بأنسام البحر العليلة والمتهادية على موجاته الحانية، المتدلية بجوار عناقيد الداليا والمتكئة على أنوار القمر الصيفية، أو قناديل الأزقة والشوارع النظيفة، وكذلك المعطرة بعرق البحارة والصيادين والفلاحين والعمال والمزدانة بخيوط الحناء المرسومة على أكف الصبايا والعرائس، وصدى موسيقى ألحانها الهادئة التي ظل ايقاعها العذب متوارياً خافتا تضبطه آلتي “الدربوكة” و”الطار” الخفيفتين بدلا من آلتي “المقرونة” و”الدبدحة” ودقاتها القوية الطاغية في الجوقة الموسيقية حد الضجيج، وسط أصوات مدوية تؤدي الأغنية ولكنها لا تطرب نفسي ولا تحرك أو تهز مشاعري، إضافة إلى أن وقع كلماتها المنتمية إلى حياة بدوية أو صحراوية أساسها الخيمة والإبل والنار والنجع والفرس، وهي بيئة لا أجد لها أي حضور في حياتي المعيشية المدينية الشخصية، فأنا مديني ابن المدينة عاصمة هذا الوطن، ولذلك لم يأسرني اللون البدوي والصحراوي ولم أنجذب إليه كثيراً، رغم احترامي للمضامين الإنسانية النبيلة القيمة في بعضه.
ولذلك كان تعلقي بأغاني محمد حسن وألحانه الموسيقية التي أداها في بواكير سنواته الفنية قوياً، متأسساً على حبي للفن الطربي الأصيل، فعانقته مندفعاً بكل مشاعري وأحاسيسي المرهفة السابحة في فضاءات أنغامه الهادئة، والكلمات الجميلة الرقيقة التي تسجل مضامين وقيم الحياة الاجتماعية، ولا تغرق في وحل الايديولوجيا المقيتة بشكل لفظي سطحي مباشر ومبتذل، أو متوارية خلف أقنعة عديدة تجاوزت السياسة بكل مثالبها حين صارت تمجد شخص الحاكم وفكره ونظامه، وشوّهت صور الحياة الاجتماعية والفكرية، وأصابت هوّية الأغنية الليبية في مقتلٍ حين أقصت اللون الطرابلسي والبنغازي والأمازيغي والمرسكاوي، ونصبت أوتاد الخيمة البدوية على مسارح عديدة داخل ليبيا وخارجها بداية من قاعة “ألبرت هول” في العاصمة البريطانية لندن لمدة خمسة ساعات متواصلة، وحتى مسارح الدار البيضاء بالمملكة المغربية، ومسرح قرطاج بالجمهورية التونسية الذي أصر الفنان محمد حسن رحمه الله على مجانية الدخول لكل الجماهير، وتكفل الدولة الليبية بدفع جميع قيم التذاكر والمصاريف، بعد أن سخرت له رسمياً كل الإمكانيات المادية والتقنية من أجل تسويق الايديولوجيا، مغلفة في أثواب الهوّية الوطنية والأصالة والتراث، بينما حرمت وعرقلت العديد من الفنانين النوابغ والموهوبين، وأوصدت أبواب الإبداع أمام الكثير من الفنون الوطنية الأخرى كفن الموشحات، والمالوف الطرابلسي، والمسرح، والموسيقى العصرية التي وصفت خطأ بأنها “غربية” على سبيل المثال! وإن كان هذا الدعم يقدم للأغنية الليبية حقاً فلماذا لم يمنح للفنان محمد صدقي، وهاشم الهوني، وعادل عبدالمجيد، وابراهيم فهمي، ووحيد سالم، أو سلام قدري وناصر المزداوي وأحمد فكرون وعبدالحميد الشاعري وغيرهم كثير، الذين تمكنوا بجهودهم الشخصية وإمكانياتهم الفردية المحدودة، من نشر الأغنية الليبية الحديثة العذبة الرقيقة، فنالت من خلال إبداعاتهم حضورها العربي المتألق، واستحقوا احترام الليبيين جميعاً، رغم أن بعض المحسوبين على الفن وضعوا أمامهم الكثير من العراقيل التي وصلت حد التخوين والطعن في وطنيتهم، وما ترتب عن ذلك من مشاعر الآسى والألم في نفوسهم، وتأثر قدراتهم الابداعية جراء ذلك؟
تتعالى في الوسط الفني الكثير من الأصوات التي تقول بأن الفنان الراحل محمد حسن ملحناً ومؤدياً كان مجرد حلقة صغيرة ضمن مشروع فني كبير تولاه الفنان علي الكيلاني والشاعر عبدالله منصور يهدف إلى إرساء النمط البدوي للأغنية الليبية، وإصباغها به دون غيره من الألوان والأطياف الفنية الجميلة الأخرى، لأنه معشوق هرم السلطة ورغبته، حتى صارت الأغنية تؤلف وتلحن من أجل إرضاء شخص واحد لا غير، سواء بشكل صريح مباشر أو رمزي خفي، وبالتالي عمل ذاك المشروع غير المعلن على تصحير الأغنية الليبية بطمس العديد من مفرداتها وكلماتها، والإساءة إلى نقاوة الخيمة الأصيلة، وتسييس البداوة الطاهرة، وطمس الهوّية الحقيقية للأغنية الليبية وعناصرها وإيقاعاتها الثرية المتنوعة، وقد ظل ذاك المنهج الإقصائي ينفذ بوسائل دسيسة لا تنتمي إلى أساليب التنافس الشريف بين الفنانين، بل من خلال إغراءات المال وسياسات الاحتواء والإقصاء، لإسكات المعارضين وإبعادهم خارج الوسط الفني، وما مشاركة الفنانين الكبيرين حسن عريبي ويوسف العالم رحمهما الله في الجلوس وسط خيمة الفنان الراحل محمد حسن إلا مثال واحد على ذلك، وما تلاه من استقطابات طالت آخرين غيرهما.
ولذلك ظلت الأغاني الجميلة للفنان الراحل محمد حسن رحمه الله التي أبدعها في بواكير مشواره الفني مثل (ألمن خليتيني … غبتي ليش) و(يا ريح هدي مركبي ميالة … موج البحر داير معاها حالة) و(ينسينا الغوالي إن كان اللوم ينسينا الغوالي … ما في عين سهرانة الليالي) و(يا حمامة طيري طيري وعدي للمحبوب… قوليليه راني مسافر والشوق ذوبني ذوب) و(من طبرق طير يا حمام وهدي فوق برج الملاحة … تحت جناحك شيل سلام هني الشعب بيوم أفراحه) و(يا من تبكون على ناصر .. السيد كان صديق الشمس … فكفوا عن سكب العبرات … السيد مازال هنا .. يتمشى فوق جسور النيل .. ويجلس في ظل النخلات .. ويزور الجيزة عند الفجر ليلثم حجر الاهرامات .. يسأل عن مصر .. ومن في مصر … ويسقي أزهار الشرفات) و(كدا حط الشاهي عالنار .. احنا سمار .. أحنا سمار .. حكاوينا غالية وأشعار) تسكنني مضامين ودلالات كلماتها الجميلة، وعذوبة ورقة موسيقاها الشجية، وحسيّاً جدانياً وفكرياً عقلياً بكل عمق، وتتفاعل طربا في نفسي لسنوات عديدة فأظل أصدح بها كلما لاح لي طيف الحبيبة، أو فاض شوقي للوطن بكل موروثه وقيمه وأمكنته الجغرافية وقيمه الحضارية ومدنه الأصيلة.
ولكن بعد أن اخترقت الأيديولوجيا أدوات الموسيقى فجمع الرعاع آلات الجيتار والدرامس والبونجز والسكسفون وغيرها وحطموها وأحرقوها بشكل رسمي في احتفالية جماهيرية صاخبة وسط ساحة طرابلس، وسطحوا مفردات ومضامين الأغنية الليبية، وأحالوها إلى مجرد كلمات ركيكة وأصوات نشاز تهتف بلا عذوبة حسية، أو موسيقى إبداعية بارعة أو روح طربية تنتشي بها، فتعالى الضجيج الغنائي، وصارت ألحان وموسيقى وأغاني الفنان محمد حسن رحمه الله مثل (مطالب شعب الحرية مطالب شعب) و(لا الفرد يحكم لا لا … لا الرجعية) و(في غربتي يا ياااااااام) و(تهادي وسط النوار وميلي وسط النوار … ربيع منور .. وانتي فيه ربيع منور . ربي صور .. ليا سنين عليك ندور) و(أراك عصي الدمع شيمتك الصبر) و(عندك بحارة يا رايس) و(عظيم الشأن) و(لا تجرحيني) و(جيتك جيتك جيتك … شايل قصايد فرح في وجداني .. وفي القلب شايلك غلا حقاني .. اللي فات سامح فيه .. كان تودني اتسامح فيه .. وما تردني كانك صحيح تهواني..) هي نداءات مباشرة جافة، ينبعثُ منها الصياح الهادر اللاهث وراء ضجيج إيقاع متسارع، خالٍ من أي إحساس إنساني يعزز رسالة الأغنية، ويمنح الأداء الطربي نسقه الفني الطبيعـي، للتواصل مع المتلقي وتوطين رسالة الأغنية المنشودة وأهدافها النبيلة في أعماق فكره ووجدانه.
ومنذ انطلاقتها في أواخر سبعينيات القرن الماضي ظلت ملحمة (رحلة نغم) للفنان الراحل محمد حسن ورفاقه تؤنسني في مساءات السمر وليالي السهرات الطويلة رفقة الأصدقاء والخلان، رغم أن كثيراً من الفنانين انتقدوا الفنان محمد حسن رحمه الله منذ ذاك الوقت حول عدد من ألحانه وفواصله ومقاطعه الموسيقية فيها، والتي تجاوزت حد الاستعارة والاقتباس من مخزون التراث الشعبي الليبي إلى السرقة المباشرة كما في مقطع نوبة المالوف (طابت أوقاتي) بينما أصر رحمه الله على أن كل (رحلة نغم) هي من تلحينه الشخصي، وحين أصدرها في شريط كاسيت كتب على واجهة الشريط الخارجي بأنها من ألحانه، وهذا يتعارض مع مفهوم الإضافة والاقتباس في التراث الفني، فالفنان الحقيقي هو الذي يضيف لإرشيف التراث الشعبي الوطني بكل الفخر والاعتزاز، وليس الذي يقتبس لحنأ أو نصاُ منه وينسبه لنفسه. إضافة إلى أن الفنان الراحل محمد السيليني رحمه الله أكد اسهامه بالعديد من الألحان في (رحلة نغم) وكذلك موضوع الجدل حول عدم تسديد الفنان محمد حسن رحمه الله المستحقات المالية لزملائه الفنانين المشاركين في (رحلة نغم) ومن بينهم الفنان الراحل محمد السيليني نفسه الذي أعلن في لقاء صحفي عن رفعه دعوى قضائية أمام المحاكم حول هذا الموضوع، ولكن كل هذا سيظل للأسف بلا إجابات مؤكدة بعد رحيل الفنانين الكبيرين رحمهما الله تعالى.
كما أن موضوع تلحين الفنان محمد حسن رحمه الله أغنية الفنانة العربية وردة الجزائرية (ليالي الغربة) التي أدتها أثناء زيارتها لمدينة طرابلس، أثار تساؤلات كثيرة من حيث مستوى ذاك اللحن وتركيبته الفنية، والقول بأنه من ألحان زوجها الفنان الراحل بليغ حمدي وليس من ألحان الفنان محمد حسن كما توقعه الليبيون. وعند مقارنة لحن (ليالي الغربة) بألحان الفنان محمد حسن الأخرى يتضح لنا فارقاً كبيراً بينهما، لما تميزت به أغلب ألحانه الموسيقية الأخرى بغلبة إيقاعها الشعبي الصادح وجملها اللحنية القصيرة المتسارعة على خلاف لحن أغنية (ليالي الغربة) الذي جاء هادئاً رقراقاً وانسيابياً في جمله الموسيقية وإن تطعمت بدايتها بالموال ونهايتها بإيقاع البرول الليبي. إضافة إلى ذلك فإن الشركة التي طبعت الأغنية وأصدرتها على شريط كاسيت كتبت على واجهته أنه من ألحان الفنان بليغ حمدي، والغريب أن الفنان الراحل محمد حسن لم يتناول هذا الموضوع رسمياً لا من قريب ولا من بعيد في حياته ولن يتسنى له الآن بالتأكيد إضافة أي جديد حول هذا الشأن الشائك بعد انتقاله إلى مسكنه الأبدي رحمه الله، رغم أنه كان يؤكد في جلساته وخلواته الخاصة مع محبيه أنه ملحن ذاك العمل الفني الذي أثار الكثير من الجدل.
ها قد غادرنا الفنان محمد حسن… ويرقد جسده الآن في قبره هانئاً مطمئناً.. وتصعد روحه الطاهرة إلى بارئها. وها قد ودعه الكثير من محبيه وعشاق فنه… ولكن لابد لي من الاعتراف بأنني لم أكن ممن ودع الفنان الراحل محمد حسن الآن فقط، بل ودعتُه منذ سنوات بعيدة حين شعرتُ أن الكثير من القيم الفنية للأغنية الليبية صارت غائبة في منهجه اللحني والغنائي، ولم يعد في تصوري ذاك العاشق المتيم بالنص الغنائي النبيل والنغم والايقاع الشجي والتعامل بكل الصدق مع التراث والأصالة، بل احتوته الايديولوجيا المقيتة وصبغت معظم أعماله بلونها الأناني الوحيد، حتى صرتُ لا أرى فيها البانوراما الجميلة المتكاملة والشاملة لكل أرجاء الوطن الحبيب التي أحببتها في بواكير أعماله، وإنما صارت تقتصر على منطقة جغرافية معينة وصورة شخص واحد يخاطبه ويغني ويهتف له، وحتى إن راق هذا الأسلوب لغيري فإنه لا يروق لي، ولكنني أظل أحترم من يخالفني في ذلك. فالرحمة للفنان الكبير الراحل محمد حسن الذي أحبه الكثير من الليبيين… وأنا كنتُ واحداً منهم.
تعليق واحد
السلام عليكم
أتفق معك في بعض النقاط وأختلف معك في أكثرها.
علينا النظر لإبداع محمد حسن كإبداع بعيداً عن توجهاته الفكرية. يعني أن ننظر في جماليات الأغنية وهو الذي أبدع فيها لحناأ وأداءاً واختياراً للكلمات.