عبدالوهاب العالم
لا يمكن للمثقف الليبي ألا يكون مليشياويا!… لا أحاول بهذا التصريح إثارة ضجة وإنما لفت الانتباه –مجددا- للمليشيا باعتبارها احدى العناصر المؤسسة للثقافة الليبية، وبالتالي لا يستطيع المثقف التجرد من أثرها بنسب تتفاوت قتامتها حسب الظروف ووعي المثقف نفسه.. ذلك بأن مثقفنا -عبر التاريخ- تعامل مع المليشيات واقتبس بعض خصائصها.. بل ناصرها علنا كوسيلة لتحقيق انجازات تنموية!
وعندما نتحدث هنا عن المثقف، لا أقصد أفرادا هامشيين و”دمى مأجورة تحركها السلطة” وإنما نتحدث عن أشخاص لهم أثر فعلي في مجالات الفن والإعلام والفكر.
مثلا السنوسي الكبير -والذي يعتبر من أشهر مثقفي زمانه- أمر أتباعه بجمع السلاح لمواجهة الاحتلال الايطالي.. قبل مجيء الطليان لاحتلال ليبيا! وعندما احتلت بالفعل دعا المثقفان سليمان الباروني وعثمان الزاوي الناس لحمل السلاح.. وبعد تخلص ليبيا من الاحتلال أقامت جمعية عمر المختار معسكرات تدريب على السلاح لمتطوعين شباب للقتال في بلدان أخرى!.. كما لا يخفى على الناس نصرة مثقفين لقومية الجماهيرية.. بل وتبرير بطشها!
وسواء كانت (المليشيا) هنا، مجموعة فرسان يحاربون احتلالا أجنبيا، أو طرفا عسكريا في نزاع مسلح.. أو نظام دكتاتوري، فإن المليشيا -بخصائصها التي ناقشتها في مقالات سابقه- وُظفت لتأمين النظام الحاكم واُستعملت كوسيلة لوصول طرف سياسي للسلطة.. وهو تماما ما يجري اليوم.
لذلك، نحن مطالبون بتفسير هذا الارتباط الذي يبدو متناقضا في جوهره.
وبشيء من التدقيق.. يمكننا فعلا ادراك أثر البيئة المليئة بالحروب الأهلية والمقاومة المسلحة على نشاط المثقف، الأمر الذي يدفعنا للتسليم بهذه العلاقة كواقع لا مفر منه.
بيد أننا نعثر على نماذج اخرى لمثقفين يرون الواقع من زاوية تحليلية لجدلية (المثقف- المليشيا) لتمييز عنصر”المليشيا” داخل ثقافتنا.. بل داخل المثقف ذاته. وهي عملية معقدة كما يبدو من كتابات وتصريحات هؤلاء الأعلام والتي فيما أرى تمثل سقف الوعي الليبي لتجردها إلى حد تشخيص الأزمة واقتراح سبل علاجها باحترافية عالية.
ولاكتساب هذه الاحترافية، لايحتاج المرء فقط للاعتكاف داخل أروقة الاكاديميا.. وإنما عليه تأمل الحال من زواياه العديدة وأبعاده الخارجية.. وهو ما نجده متناثرا في كتب النيهوم، وتحديدا في اعمال علي عبد اللطيف احميده ودراسات مصطفى التير.. ومانفهمه اليوم من مقالات الكوني عن ثوره 2011 وما نستفيده من أعمال القويري.. وغيرهم كثر.
إذ استطاع هؤلاء تخطي العراقيل التي قيدت المثقف المناصر/ المتعاطف مع حَمَلة السلاح بمنهج يبدأ بتتبع أثر المليشيا انطلاقا من أنفسهم.. وصولا لتحليل السلوك الاجتماعي العام وعمق جذوره في التاريخ.. وبالتالي اتاحت أعمالهم الفرصه لجيلنا لتأسيس مفهوم متكامل للسلام.. ونحن نتحدث هنا بجدية عن السلام -وهو ما لا يحدث كثيرا هذه الايام- باعتباره إرث حركة التمدن في ليبيا والتي قادها جميع مثقفينا لتحويل السلام من مجرد فكرة لمشروع قابل للتطبيق.
ولكي نصل لهذه المرحلة علينا التمييز بين السلام كنتيجه وهو ما يذهب إليه المثقف “الملشياوي” والسلام كمبدأ عملي كما يفسره المثقف الواعي لـ”ملشياويته”!.. إذ كلما ابتعد المثقف عن رؤية المليشيا / الحرب كأحد مكونات الحل.. أدرك أنها ظاهره يستلزم علاجها.. فالطرح الهزلي لمفهوم السلام واستبعاد تحقيقه سوى بالسلاح/ المليشيا/ الحرب أعمى المثقف عن وقائع تاريخية وحالية تشير جميعها لكوراث حتمية الحدوث.. والأخطر من ذلك هو الاستخفاف بالدور الأساسي للكلمة والعادة والدين والفكر والفنون في تحقيق إنجازات تاريخية في ليبيا، يعد الإستقلال أبرزها، إذ أخفقت البندقية وكتائب القتال في جعل الإستقلال واقعا، بينما تحقق على يد المشتغلين في مجالات الفكر والكلمة والصحافه والفن.
إن الأمر من الصعوبة بمكان، خصوصا وأن أكثر دعاة السلام لايملكون أدوات منهجية لنقاش ادعائهم بذكاء.. كما أن أغلب دعاة الحرب لا يملكون ضمانات فعلية لتحقيق السلام عبر ادعائهم.
وبعيدا عن هذا المشهد اليائس، يلجأ المهتمين بدراسة واقعنا للزوايا الإلكترونية اللقاءات المنظمة لنقاش ما يجري برشد.. وهي أولى الخطوات لإنجاز سلام حقيقي.