المقالة

مصير النحت في العالم الإسلامي

تاريخيا نشأت الفنون في إطار المعتقدات السحرية، ثم الدينية، لتؤدي وظائف سحرية ودينية تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة، في حالة السحر، والتقرب إلى المعبودات المختلفة لتجنب سخطها ونيل رضائها ومعونتها، في حالة الدين.

من هذه الفنون النحت، الذي جسدت من خلاله المعبودات في أشكال منظورة، تتخذ هيئات بشرية أو حيوانية.

كان النحت سائدا في الحضارات القديمة في المناطق المحيطة بشبه الجزيرة العربية، مثل حضارات وادي الرافدين من سومرية وآشورية وبابلية وكلدانية، وكذلك الحضارة الفرعونية. إضافة إلى الحضارة الإغريقية والرومانية في اليونان وروما بأوروبا.

لكنه لم يكن معروفا في المنطقة العربية التي كانت مهد ظهور الإسلام.

سنؤجل الآن الكلام عن النحت ونتطرق إلى العوامل الأساسية التي مكنت فنين، هما الشعر والغناء، من النجاة من تحفظ (وبخصوص الغناء والموسيقى قدر من المعاداة) الإسلام ومحاصرته للفنون.

فالبنسبة إلى الشعر كان فنا سائدا وكان سجلا لتاريخ العرب ومجالا للتعبير عن خلجات النفس الفردية. كان ساريا في الحياة اليومية للناس سواء في تأليفه وارتجاله أو التمثل به في أحاديثهم، وحواراتهم، جادة ومصيرية كانت أو هازلة. وبالتالي لم يكن بمقدور الإسلام محاربته بشكل جذري، بل تألفه وحاول استخدامه “إعلاميا” ضد خصومه، الأمر الذي مكن الشعر من التكيف والتحايل والاستدامة.

أما الغناء، فما كان موجودا منه قبل الإسلام أشكال بسيطة تتمثل في الحُداء، وغناء الشخص المنفرد مع نفسه (كلاهما دون آلات موسيقية). كما وجدت ظاهرة القيان (غير عربيات) اللائي يغنين بمصاحبة الموسيقى. إلا أنها كانت ظاهرة محدودة الانتشار.

وبالتالي كان وجود الغناء والموسيقى يتحرك في حدود فردية ومجالات ضيقة، الأمر الذي مكن من أن تكون المواقف المضادة له (تلك التي تتدرج من الكراهة ووضع قيود على طبيعته ومحتواه، إلى تحريمه) أوسع انتشارا وأكثر صلابة. وهذا الأمر أحدث انقساما بين الفقهاء بحيث وجد تيار يحرمه وتيار يضيق عليه وتيار يبيحه.

هذه النقاشات الفقهية دارت مع ترسخ الدولة الأموية بعد توسع الفتوحات وتكون طبقة أرستقراطية مترفة لاهية وظهور مغنين (رجالا ونساء) من غير العرب (الموالي والجواري والقيان) رأت في وجود المغنين وجلسات الطرب والسماع أمرا لازما.

وهذا مكن الغناء، وبالتالي الموسيقى، من النجاة والازدهار، وإن بمشقة أكبر بكثير مما كان عليه الأمر في حالة الشعر.

نعود الآن إلى النحت، الذي لم ينفصل، في المنطقة التي ظهر فيها الإسلام أول ما ظهر، عن الدين. إذ كان ما وجد منه مرتبطا ارتباطا كاملا بالمعتقدات الوثنية التي كان العرب هناك يعتقدونها. وتنقسم ضروب النحت هذه إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: الأصنام، وهي منحتوتات تجسد المعبودات وتتخذ أشكالا بشرية أو حيوانية.

النوع الثاني: الأوثان، وهي منحتوتات حجرية غير محددة الشكل.

النوع الثالث: الأنصاب، وتذبح عليها القرابين استرضاء للمعبودات.

وحيث إنه لم يوجد نحت دنيوي مستقلا عن الديني تمكنت الرؤية الإسلامية من ربطه بالوثنية بشكل تام وتحريمه تحريما مطلقا، بحيث لم تنفع التحولات الحضارية العامة، ومن ضمنها تلك الحادثة في مجال الفنون، من تغيير نظرة الفقهاء إلى النحت حتى تاريخه، بل إنها تزداد انغلاقا وضراوة كأن مكة فتحت بالأمس!

وقد تمكن الإسلام من القضاء على تطور النحت قضاء مبرما حتى في البقاع التي تواجدت فيها المنحوتات بشكل كبير، مثل مصر وبقية شمال أفريقيا. ويبدو أن السبب أنه في مصر بدأ انقطاع تطور الحضارة الفرعونية منذ غزو الإسكندر لها سنة 332 ق. م. وحدث بشكل تام مع الاحتلال الروماني لها سنة 30 ق.م. أي عدة قرون قبل الإسلام. الأمر الذي انقطع معه النحت، أو ضمر، بسبب عدم استمرار الديانة الفرعونية.

أما في بقية شمال أفريقيا فكان النحت قائما في المستوطنات الإغريقية والرومانية ولم يكن موجودا أو شائعا لدى السكان الأصليين. وبذلك تم التغلب عليه بسهولة.
هذا يختلف عن حالة المسيحية في مهدها في فلسطين، ثم في أوروبا. ففلسطين وما حولها كانت خاضعة للرومان وكان النحت عموما شائعا. وحين دخلت المسيحية أوروبا واجهها عدوان: الفلسفة 2 والنحت الذي كان منتشرا منذ قرون من خلال الحضارتين الإغريقية والرومانية. وفي الحالتين كان عليها أن تروضهما وتحاول تمسيحهما. ولذا استطاع كلاهما التحايل والاستدامة، على غرار الشعر والغناء والموسيقى في الحالة الإسلامية.

___________________________________

1- للاطلاع عل معلومات وافية حول هذا الموضوع تنظر: شيرين العدوي، الحياة الاجتماعية في كتاب “الأغاني” للأصفهاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012

2- ينظر عمر أبو القاسم الككلي، الفلسفة مقاومة وغازية، بوابة الوسط، 22 مايو 2016. http://alwasat.ly/ar/news/kottab/106491/

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

عرق الضفدع

محمد عقيلة العمامي

IBM

المشرف العام

مقالات قصيرة

محمد دربي

اترك تعليق