المقالة

IBM

محمد الطياري

من أعمال التشكيلي الليبي_ عبدالرزاق حريز

حكاية قديمة: أن الأجانب -غير المسلمين- يعيبون علينا ثلاث عبارات تبدأ بما يقابل الأحرف اللاتينية (I) و (B) و (M) ويجمعونها تهكما في اسم شركة الحواسيب الأمريكية العملاقة IBM، وهذه العبارات هي: إن شاء الله، وبكرة، ومعليش.

فهم يعيبون علينا التأجيل والتسويف في قولنا “بكرة” لكل شيء يطلب منا، أو يجب علينا عمله، ويرون ذلك سببا لبطئنا، وتأخرنا، وقلة إنتاجيتنا.

ويعيبون عليانا التسامح المفرط، وقولنا “معْليش” في كل خطأ نرتكبه، ويرون ذلك سببا في كثرة أخطائنا، اعتمادا على كرم الآخرين وتسامحهم معنا، ومن ثم اعتيادنا على عدم المحاسبة.

أما “إن شاء الله” فهم يرون فيها عزما على عدم الإيفاء بتعهداتنا، ويتوقعون منا بعد مضي وقت إنجاز ما وعدنا به أن نقول لهم: “ألله غالب، ما سخرش ربي”.

ولذلك فإننا نجد أن هؤلاء الأجانب إذا كانوا رؤساء لنا، وطلبوا منا إنجاز عمل ما، وقلنا لهم “إن شاء الله”، فإن الرد الآني للصرحاء منهم كثيرا ما يكون: “No, not Inshaallah. You will do it”.

وهم مع كفرهم بالله -إذا لم يكونوا مؤمنين- يكونون على حق فيما ينكرونه علينا من قولنا “إن شاء الله” بالمعنى الذي عهدوه منا، إذ أن كثيرين منا يظنون أن “ألله غالب” و “ما سخرش ربي” مبرر كاف لعدم الإيفاء بالالتزامات، في حين أن أي قاض مسلم، عادل، يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، لن يقبل منهم الاعتذار بهاتين العبارتين.

واقتران عبارة “إن شاء الله” بعدم إيفاء بعضنا بعهودهم ناتج عن سوء فهم هذا البعض لما جاء في الآيتين 22 و 23 من سورة الكهف {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ …} ومن ثم سوء استعمالهم لهذه العبارة.

ولكي نفهم فهما صحيحا هذا الأمر الإلهي في هاتين الآيتين الكريمتين بقول “إن شاء الله” في حديثنا عما نعتزم القيام به في المستقبل، يجب علينا أن نعرف السياق الذي ورد فيه هذا الأمر.

إذ أنه جاء في سياق الحديث عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم، وفروا من المشركين الذين كانوا يؤذونهم في دينهم، والذين يبدو أنهم كانوا يطاردونهم ساعة الفرار، فرأوا في طريق هربهم كهفا، فلجأوا إليه واختبأوا فيه، وكان تقديرهم أنهم سيلبثون هناك مختبئين بضع ساعات من ذلك اليوم ريثما يذهب مطاردوهم ، فإذا بهم وبلا سابق تقدير منهم ولا إرادة ولا قدرة على تغيير ما حدث يمكثون فيه 309 سنين قمرية، {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}، أي ما يعادل 300 سنة ميلادية بالحساب التقريبي المعروف (100 سنة ميلادية لكل 103 سنة قمرية).

وما جعلني أرجح أنهم آووا إلى ذلك الكهف صدفة وأنهم كانوا مطاردين وفي حالة فرار، هو أولا: أنهم عندما بُعثوا من سباتهم {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ …} وهذا يرجح أن نومهم كان نهارا وإفاقتهم كانت نهارا أيضا، ولذلك فهم لم يستطيعوا أن يحددوا ما إذا كانت قد مرت عليهم ليلة وهم نيام أم أنهم استيقظوا في نفس النهار الذي أووا فيه لذلك الكهف،

وثانيا: أنهم لم يستغربوا نومهم نهارا، وإنما تساءلوا عن المدة التي قضوها نائمين، وهذا يرجح أنهم خلدوا إلى النوم نهارا بإرادتهم، ولا يخلد للنوم والشمس بازغة من كان في خطر محدق، إلا إذا كان متعبا مرهقا وقد شعر بشيء من الأمان.

وثالثا: أنهم لم يجلبوا معهم إلى الكهف طعاما؛ وعندما أفاقوا من سباتهم، وجدوا أنفسهم جياعا، فاضطروا لأن يتشاركوا في تجميع ثمن وجبة تسد رمقهم، وأن يخاطروا ببعث أحدهم ليشتريها لهم  {… فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} ولو كانوا أتوه قاصدين، وعن سبق تفكير وتدبير، وللبقاء فيه مدة تصل لحد أن يعضهم الجوع، لكانوا تزودوا منه بما يكفيهم لتلك المدة وأحضروه معهم.

ورابعا: أن الخطر الذي كان يتهددهم عظيم، وقد يصل لحد الإعدام رجما، ولذلك فقد تواصوا وهو يرسلون صاحبهم ليجلب لهم ما يقتاتون به قائلين {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} ومن يفر طوعا من مثل هذا البلاء يحتاط لطعامه وشرابه، ولا يضع نفسه في الوضع الذي يضطره للمخاطرة بكشف مكان اختبائه، وهذا ينم على أن فرارهم كان فجأة، الأمر الذي يزيد ترجيح أنهم كانوا مطاردين.

وخامسا: أنهم عندما اضطروا لإرسال أحدهم ليجلب لهم الطعام أوصوه بأن يختار من الأطعمة أكثرها زكاءً ونماءً عند طهيه، وذلك ليكون قليلا في كميته قبل الطهي، فلا ينم على عدد من سيقتاتون به، وخفيفا في حمله لا يمنع حامله من الفرار والروغان إذا أحس بأن أحدا يتعقبه، فلا يُكتشف مخبأهم وينالهم ما كانوا يخشونه.

وهذا كله شيء، وما حدث لهم بعد ذلك شيء آخر، إذ أنهم وجدوا أنفسهم في عالم آخر، عالم غريب بينهم وبينه ثلاثة قرون لم يستطيعوا فهمه ولا تصور العيش فيه، ففروا منه إلى نفس الكهف، وأدركهم فيه نفس السبات، ولكنه كان هذه المرة سباتا أزليا إلى يوم القيامة.

إذًا فهذا هو السياق الذي ورد فيه أمر البارئ عز وجل لنا بقول “إن شاء الله” عند الحديث عن أي شيء نعتزم أو نأمل حدوثه في المستقبل، فماذا نستنتج منه؟

نستنتج منه أن هؤلاء الفتية فرّوا من الموت رجما، فأميتوا رحمةً، وعملوا جهدهم على ألا يقبروا أحياء في ريعان شبابهم تحت الأحجار والصخور، فعاشوا تحتها أمواتا لثلاثة قرون، وأنهم يوم ظنوا أنهم عادوا إلى الحياة عادوا إلى الموت؛

وباختصار شديد: نستنتج من هذا السياق أن البارئ عز وجل يأمرنا بأن نأخذ القضاء والقدر في اعتبارنا عند حديثنا عن المستقبل وتخطيطنا له، وأن نتحسب لما يمكن أن يقع من أمور خارجة عن إرادتنا تماما، ولا نستطيع توقعها، ولا التحكم فيها، ولا تجنبها، فالقدر لا يستطيع أحد أن يتوقعه، أو يصنعه، أو يدفعه.

وهذا بالضبط ما يؤخذ في الاعتبار عند صياغة الاتفاقات والعقود والتشريعات والقوانين، ويشار إليه بالقوة القاهرة، أو Act of God (القضاء والقدر)، وذلك على اختلاف الدول والملل.

ولذلك لا يجوز أن نستخدم “إن شاء الله” في التهرب والتسويف والمماطلة، كما لا يجوز أن نعتمد على قولنا إياها، في تبرير عدم إنجازنا لتعهداتنا، معتذرين بأسباب يمكننا توقعها، ولم نأخذ الاحتياطات اللازمة لتجنبها، أو يكون لنا دخل في حدوثها، أو كان باستطاعتنا منعها أو الحد من تأثيرها علينا.

ويجب علينا في نفس الوقت أن نُفهم أي شخص يهزأ من قولنا “إن شاء الله” أنها تعني فقط التحسب للقوة القاهرة، وأن إنجاز الوعود والإيفاء بالتعهدات هو ما يأمرنا به ديننا، ويشدد علينا بأن نجعله ديدننا.

مقالات ذات علاقة

القبائل المتربصة

منصور أبوشناف

قطرة عطر.. في بحر الشعر

أسماء الأسطى

الحكمة وغضب الله!

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق