وَفِي مَقْطَعٍ آخَرَ مِنَ القَصِيدَةِ تُوَضِّحُ الشَّاعِرَةُ مَكَامِنَ ضَعْفِهَا فِي قِصَّةِ عِشْقِهَا لَهُ، فَتُوجِزُهَا فِي هَذَهِ الْمَعَانِي: فَضَعْفُهَا يَكْمُنُ فِي قُرْبِهَا مِنْهُ، حِينَ تَغْفُو يَدَاهُ فِي يَدَيْهَا إِغْفَاءَةَ حُلْمٍ دَفِيئَةً، فَهْيَ لا تَطْلُبُ مِنَ الْحَيَاةِ غَيْرَ هَذِهِ اللَّحْظَةِ الْحَالِمَةِ الأَثِيرَةِ، طَالِبَةً مِنَ الزَّمَنِ أَنْ يَتَوقَّفَ لِيَشْهَدَ لَحْظَةَ الْحُلُمِ الاسْتِثْنَائِيَّةَ المْسَكُونَةَ بِالدَّهْشَةِ وَالانْبِهَارِ، وَيَشْهَدَ عَلَيْهَا، فَالمشَاعِرُ فَيهَا اللَّحْظَةِ تَتَسَامَى فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْهَوَى الْعُذْرِيِّ، حَتَّى أَنَّ عَنَاءَ الْحُبِّ وَالأَشْوَاقِ وَالانْتِظَارِ تَرْتَاحُ مِنْ مُكَابَدَتِهَا، وَيَغْفُو جَفْنُهَا إِغْفَاءَةَ الْقَنُوعِ الْمُكْتَفِي:
ضعـفــــــــــــــــــــــــي كــــــــامن ** في وين ما لحظة بْقِرْبَكْ نامن
وين ما ايديك غفن في ايدي ونَامَن نقول للزَّمان خلاص هذا يكفي
بيَّا المشاعر في الغَلا يَسَّامَن يرتاح العَنَا مِنِّي وْجِفْنِي يِغْفِي
لِكَنَّ لَحْظَاتِ الفَرَحِ قَصِيرَةٌ، وَلَحَظَاتُ الحُلُمِ تَمُرُّ سِرَاعًا مِثْلَ طَيْفٍ، فَعُمْرُ الْهَوَى لَا يَدُومُ، إِذْ أَنَّ لَحْظَةَ سَحْبِ يَدَيْهِ الْغَافِيَتِينِ الْحَالِمَتِينِ مَنْ يَدَيْهَا تُشْبِهُ – تَمَامًا – لَحْظَةَ مُدَاهَمَةِ الكَابُوسِ لِلْحُلُمِ؛ فَسُلْطَةُ الْهَوَى أَبَاحَتْ لَهُ أَنْ يَغْتَالَ أَحْلَامَهَا الغَاِفيَاتِ بَوَدَاعَةِ طفلَةٍ، وَإِسْهَامِ عَذْرَاءَ بَتُولٍ:
فجأة علي غفله بعد نطَّــــــــامن ** تسحب ايديك ونار شوقي تطفي
لحظات من عمر الهوى ما دامن ** عطاك الغلا سلطة اتْقِضّْ وترْفِي
وَيَتَسَرَّبُ هَذَا العَاشِقُ الفَوْضَوِيُّ إِلَى إِحْسَاسِهَا مُحْصِيًا، علَيْهَا الزَّفَرَاتِ وَالآهَاتِ وَالأَنْفَاسَ، ويُطْلِعُهَا عَلَى سِرِّ الغَرَامِ الخَفِيِّ حَيْنُ تَغْزِلُهَا مَرَاوِحُ الشُّعَاعِ الْمَسَائِيِّ،؛ ثُمَّ يُوَسِّدُهَا ذِرَاعَ النَّجْمِ لِتَغْفُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ نُعَاسِهَا، وَيَشْرَعُ فِي سَرْدِ وَصْفِهَا عَلَى مَسَامِعِ اللَّيَالِي:
اتخِشّْ إِحْسَاســـــــــــــــــــــــــي ** وتحصي عَليَّا زفرتي وأنفاسي
تغزلني مَرَاوِح مِ الشَّعَاع الماسي ** وتطلعني علي سِرّْ الغَرَام المَخْفِي
اتوسِّدني ذْراع النَّجم وقت نْعاسي ** وتسرد علي سمع اللَّيَالِي وَصْفشي
لَكِنَّهُ لا يَتَخَلَّصُ مِنْ عَبَثِيَّتِهِ وَتَنَاقُضِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ السَّادِيَّةِ الغَرِيبَةِ الْمُرِيَبَةِ؛ فَقَدْ يَتَقَمَّصُ أَطْمَارَ القَسْوَةِ، وَيَتَجَهَّمُ وَهْوَ يَذُوبُ حُبًّا وولوعًا، وَيَقْبِسُ لِغَيْرِهَا نُورًا مِنْ نِبْرَاسِهَا، قَدْ يَكُونُ استلْهَمَهُ مِنْ تَوَهُّجِ الشِّعْرِ، وَاتِّقَادِ العَوَاطِفِ وَالأَحَاسِيسِ، مُخْفِيًا فِي عَيْنَيْهِ ابْتسَامَةً شَامِتَةً بِالرُّغْمِ مِنْ أَنَّ قَلْبَهُ وَعَيْنَهُ يَحْرُسَانِهَا فِي الْخَفَاءِ، وَهَكَذا يُحطِّمُ أَعْرَافَ الْهَوَى، مُسْتَعِيضًا عَنْهَا بِقَوَانِينِهِ الْمِزَاجِيَّةِ الحَادَّةِ:
ومرَّات تلبسْ ثوبْ عابث قاسي** تجَّهم وذايب في الغلاء من خلفي
وتقبس لغيري نور من نبراسي ** وبسمَةْ شماتةْ في عيونك تخفي
وقلبك وعينك في الخفاء حِرَّاسي ** وَيِسْرَنْ قَوَانِينَكْ وتكسِرْ عِرْفِي
وَيَغُوصُ أَعْمَاقَهَا زَارِعًا فِيهَا أَنْفَاسَهَ غَيْمًا، لِتُزْهِرَ خَمَائِلَ كَمَا سَتُحِسُّهَا، بينَمَا حَنِينُهُ الْمُتَصَاعِدُ يُبْحِرُ زَوْرَقًا عَلَى شَوَاطِئِ عَيْنَيْهَا:
تغـــوص أعمـــــــــــــــــــــــاقي ** وتزرع أنفاسك غيم في آفاقي
وتزهر خمائل بالأحساس الرَّاقي ** ويبحر حنينك في شواطي طرفي
وَبِالرُّغْمِ مِنْ قَسْوَةِ الْحَبِيبِ وَفَوْضَاهُ وَسَادِيَّتِهِ، إِلَّا أَنَّ هَمْسَهُ يَبْدُو لَهَا تَغْرِيدَ العَصَافِيرِ وَخَرِيرَ سَوَاقٍ تَنْمُو عَلَى مُوسِيقَا اِنْهِمَارهِ الرَّوَابِي حُبًّا مِنْ حُبِّهِ وَعَطْفِهَا عَلَيْهِ:
همسك عصافير وخرير سواقي ** ازدانت روابي من غلاك وعطفي
وَلَا يَتَوَقَّفُ عَنْ مِزَاجِيَّتِهِ؛ فَهْوَ أَحْيَانًا يَخْطِفُ لَهَا مِنَ الغُرُوبِ إِشْرَاقًا مُخْتَلِفًا، وَيُهْدِي مِنْ جَنَى عَطْفِهَا وَأَشْوَاقِهَا ثِمَارًا يَانِعَةً:
ومرَّات تخطف مِ الغروب إشراقي ** تشرق شموسك في الغياب المطفي
ومرات تذوي من جفاك أوراقــــــي ** وتذبل أثماري قبل موسمِ قطفي
#في_المخْتَتَمِ ..
تَبْقَى هَذهِ القَصِيدَةُ مِنْ أَرْوَعِ مَا أَبْدَعَتِ الشَّاعِرَةُ بَدْرِيَّة الأشهب مِنْ قَصَائِدَ لِجَمَالِ صُورِهَا، وَازْدِهَائِهَا بِعَوَاطِفَ شَفَّافَةٍ، وَازْدِحَامِهَا بِمَشَاعِرَ أَبْكَارٍ طَازِجَةٍ ، لَا تَخْلُو مِنْ رَفِيفِ الرُّومَانِسِيَّةِ الفَاتِنِ المْتُمَاوِجِ بَيْنَ إِشْرَاقَةِ اللَّحْظَةِ الدَّافِئَةِ؛ وَمَسْحَةِ حُزْنٍ يُلْقِي بِظِلَالِهِ الرَّمَاديَّةِ عَلَى مَسَاحَاتِ القَصِيدَةِ فَيَجْعَلُ مِنْهَا سُمْفُونِيَّةً مَاتِعَةً دَامِعَةً كَأَنَّها بُكَاءُ كَمَانٍ حَزِينٍ فِي خَصْرِ لَيْلٍ هَادِئٍ صَمُوتٍ..
وَالقَصِيدَةُ تُعَدُّ – بِحَقٍّ- أُنْمُوذَجًا مِثَاليًّا لِلْقَصِيدَةِ العَامِّيَّةِ الرُّومَانِسِيَّةِ لِإكِثَارِ الشَّاعِرَةِ تَرْصِيعِ أَبْيَاتِهَا بِعَنَاصِرِ الطَّبِيعَةِ وَسِيلَةً لِلتَّعْبِيرِ الفَنِّي، مِثْلُ:
الشَّعَاع الماسي، النَّجم، اللَّيَالي، النُّور، الغيم، الآفاق، الخمائل، الشَّوَاطِئ، العصافير،خرير السَّواقي، الرَّوَابي، الغروب، الإشراق، الشُّموس، الأوراق، الثَّمار.. وغيرها.
فَضْلاً عَنِ النَّزْعَةِ الذَّاتِيَّةِ لِلشَّاعِرَةِ؛ فَهْيَ ذَاتُ طَابِعٍ وِجْدَانِيٍّ تُعَبِّرُ عَنْ ذَاتِهَا فِي مُجْمَلِ أَبْيَاتِ القَصِيدَةِ. مَعَ اهْتِمَامِ الشَّاعِرَةِ بِالْمَعْنَى وَالفِكْرَةِ دُونَ إِهْمَالِ الْمَبْنَى، وَالاعْتِنَاءِ بِحُسْنِ الصِّيَاغَةِ، وَتَأْنِيقِ التَّعَابِيرِ، مَعَ عِنَاقِ الْخِيَالِ وَالْأَحْلَامِ فٍي جُلِّ تَعَابِيرِهَا.
وَنَلْحَظُ تَمَسُّكَ الشَّاعِرَةِ بِالْوِحْدَةِ العِضْوِيَّةِ لِلْقَصِيدَةِ، فَهْيَ لَمْ تُغَادِرْ تَيْمَةَ النَّقِيضَيْنِ اللَّذَيْنِ بَنَتْ عَلَيْهِمَا القَصِيدَةَ: تَعْذِيبِهِ وَإِسْعَادِهِ لَهَا، بِيْنَ الحَنِينِ إِلَيْهُ وَالتَّعَذُّبِ بِهِ:
(قادر تعذِّبني وقادر تعفي ** عارف غرامك هُوّْ نقطة ضعفي)
كَمَا يَظْهَرُ اِعْتِنَاؤُهَا بِالْمُوسِيقِا الدَّاخِلِيَّةِ، بِتَعَمُّدِهَا تِكْرَارَ حُرُوفٍ بِعَيْنِهَا، وَكَلِمَاتٍ بِذَاتِهَا تَتَقَارُبُ فِي بُنْيَتِهَا، وَتَخْتَلِفُ فِي مَعَانَيهَا، وَاعْتِمَادِهَا عَلَى صُوَرِ الْجِنَاسِ الِجَمِيلَةِ مِثْلَمَا نَلْمَحُهُ فِي هَذِهِ الأَبْيَاتِ لِلشَّاعِرَة بدريَّة الأشهب:
ضعفي كَامِــــــــــــــــــــــــــــــــنْ ** في وين ما لحظة بقربك نامن
وين ما إيديك غفن في ايدي ونَامَنْ ** نقول للزَّمَان خلاص هذا يكفي
بِيّ المشاعر في الغَلا يسَّــــــــــامَنْ ** يرتاح العنا مِنِّي وجفني يغفي
إِذْ أَنَّ بَيْنَ كَلِمَتِي: (كامن، نامن ) جِنَاسٌ نَاقِصٌ، وَبَيْنَ (نامن، ونامن) فَـ(نَامَنَ) الأُولَى بِمَعْنَى (نأمن) أي الشُّعُورُ بِالأَمْنِ وَالأَمَانِ، وَ(نَامَنْ) مِنَ النَّوْمِ.
وَمِنْ مَلَامِحِ المَدْرَسَةِ الرَّومَانِسِيَّةِ اِسْتَعْمَالُ الرَّمْزِ – نَوْعًا مَا – لِصِيَاغَةِ التَّجْرِبَةِ الشِّعْرِيَّةِ لِلشَّاعِرَةِ، تُعْينُهَا عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الْمُبْتَغَى ثَقَافَةٌ مُعْتَبَرَةٌ، وَاطِّلَاعٌ كَبِيرٌ عَلَى الشِّعْرِ الفَصِيحِ بِفَضَاءَاتِهِ الشَّاسِعَةِ الرَّحِيبَةِ، وَالاتِّكَاءُ عَلَى لُغَةٍ شِعْرِيَّةٍ بَسِيطَةٍ مُعَبِّرةٍ، تَخْلُو مِنَ التَّعْقِيدِ اللُّغَوِيِّ، وَصِيَاغَةُ أَفْكَارِهَا بِأُسْلُوبٍ وَأَلْفَاظٍ مَأْلُوفَةٍ مُوحِيَةٍ ذَاتِ دَلَالَاتٍ عَمِيقَةٍ، وَمَجَازَاتٍ عَالِيَةٍ.
وتَتَحَقَّقُ هَذهِ الرُّومَانْسِيَّةُ الْمُشْتَهَاةُ فِي القَصَائِدِ العَامِّيَّةِ لَدَى بَدْرِيَّةِ الأشهب، وَفي هَذِهِ القَصِيدَةِ خَاصَّةً، بِسَبَبِ جَزَالَتِهَا، وَاتِّسَاعِ مَسَاحَةِ الحُلُمِ بِهَا، وَلَتَوِفُّرِ الخَيَالِ الجَانِحِ فِيهَا، وَلِرَوْعَةِ العِبَارَاتِ الشِّعْرِيَّةِ الْمُخْتَارَةِ بِدَقَّةٍ وَعِنَايَةٍ فَائِقَتَيْنِ.
___________________________
من مخطوط كتابي #في_رحابِ_قصيدةٍ، قراءاتٌ في قصائد شعبيَّةٍ.