منذ صغري، وقد تربيت في منطقة ريفية، كنت معجبا بالحمام. وقد لفت نظري، على وجه الخصوص، مشيته المتهادية الواثقة تلك. لذا أنا أعذر الغراب الذي أعجب بمشية الحمامة فحاول تقليدها. وحتى إن لم يستطع تعلمها ونسي مشيته، كما يقول المثل، فإنه لم ينس المشي، وربما أصبح يمشي على نحو أفضل من مشيته الأصلية. وفي جميع الأحوال، ينبغي أن يحمد للغراب حسه الجمالي المرهف.
في الجامعة كان ثمة طالبة تمشي مشية الحمامة. لفتت نظري وكنت دائما، عندما أراها، أتأملها وهي تمشي متمهلة متهادية كالحمامة في ثقة وكبرياء، محتضنة كتبها على حمامتي صدرها وحقيبتها النسائية تتدلى على جانبها الأيمن. يبدو أنها تدربت على هذه المشية بعزم وتقصد. وبذا أصبحت جزءا من شخصيتها، ولم يحدث لها ما حدث للغراب المسكين.
كما أن الحمامة تقلع بأناقة. تتراجع بجسدها إلى أن تلامس الأرض بذيلها، رافعة صدرها، ثم تندفع طائرة. ولكم شدتني عبارة أمل دنقل في إحدى قصائده التي تشبه النهد النابر باليمامة وهي “تهم بانطلاقها”.
والحمامة، رغم أنفتها واعتدادها بنفسها، تعتبر كائنا متواضعا بسيطا. ولقد انتبه السيد المسيح إلى هذه الخاصية فقال: “كونوا بسطاء كالحمام”. فعشه من أبسط الأعشاش تصميما واختصارا، ويمثل اقتصادا في الجهد واستهلاك مواد البيئة. فهو مجرد أعواد ترتب بشكل أفقي وتوضع فوقها أعواد بشكل عمودي. وفي نص لي قلت:
“ليس رابياً،
هو منبسطٌ بسيطٌ، كعش الحمام”.
في طفولتي كنت أنصب فخاخا للحمام، والطعم المفضل لاصطياده هو القمح. فلا تسمح له رفعته بأكل الديدان والنمل وما إليه.
كنت أحز حبة القمح وأربط خيطا حول الحز وأثبتها على عمود المنداف وأموهه بالتراب. تأتي الحمامة، متهادية كالحسناء التي تعلم أن الرجال يصوبون نظرات الافتنان نحوها، وتنقر حبة القمح بثقة وهدوء (ذلك أنه ليس من طبع الحمام كثرة التشكك) فينطبق الفخ على عنقها. تتخبط قليلا محاولة الإفلات. ثم تهدأ وتستسلم لمصيرها.
لكن أطرف ما وقع لي مع الحمام أنه خدعني مرات عديدة!. كنت وأنا أتجول بين أشجار الزيتون تقع حمامة أمامي على مسافة مني وتظل تتخبط كالمريضة، فأسارع بالجري نحوها كي أمسك بها. تسرع مبتعدة متخبطة على الأرض، وتلبث قليلا، وحين أحاول الاقتراب منها تبتعد من جديد. تُكرر هذا الفعل عدة مرات وفي مرحلة معينة ترتفع طائرة طيرانا حقيقيا.
قلت لأمي هذا. فقالت لي: “هاذي اتْذَهِبْ”!.
تقصد أنها تقوم بذلك من باب التمويه وإبعاد الخطر عن عشها الذي به صغارها!.
_____________
نشر بموقع 218