السياسة عمل عقلاني، صلته المباشرة بما يحدث على الأرض بفعل الإنسان وبما يخص شؤونه اليومية، والعقيدة شأن تسليمي، لا علاقة له بمختبر العقل الإنساني على الأرض، ولا بدروس تجربته في الحياة. نجاحاته أو إخفاقاته. وحين تتحول السياسة إلى عقيدة تكف عن كونها عملا عقلانيا خاضعا لمتغيرات الظروف الموضوعية لاجتهادات العقل.
في حالة العقائد لا يمكن إقناع شخص، إلا ما ندر جدا، بعقيدة غير عقيدته. فالبوذي يعتبر عقيدته هي الحقيقة الواحدة، والمسلم أيضاً، أوالمسيحي، أو أية عقيدة سماوية أو أرضية، أو أي مذهب داخل هذه الديانات. وطبيعة هذه الاعتقادات غير قابلة للنقاش، أو حتى للمقارنة، فالكل على يقين أن الحقيقة الوحيدة في متناوله.
هذا الخلط المستحيل بين حقلين معرفيين مختلفين تماما، هو ما يربك اجتهادات الإنسان وهو يتطلع لحياة أفضل عبر إدارة شؤونه الدنيوية المتغيرة بوتيرة سريعة، وهو ما يلحق الضرر بالسياسة والدين معاً، لأن محاولة خلط مركبين مستحيلي الخلط، يحتاج إلى تدخلات كيميائية أو فيزيائية مساعدة لا تخلو من القوة القاهرة؛ مثل إخضاعهما لضغط عالٍ أو درجة حرارة عالية جدا، أو استخدام عوامل كيميائية مساعدة من شأنها أن تغير تركيب وجوهر كل مركب.
بهذا المعنى فإن مقولة الإسلام السياسي تحمل تناقضها في داخلها من خلال خلطها لشأن إيماني تسليمي بشأن إداري متقلب حسب المتغير السريع الوتيرة، ونتيجة لهذا التناقض أو التضاد البنيوي في لافتة “الإسلام السياسي” حدثت وتحدث الصراعات العنيفة التي لا تتوقف، لأن هذا الصدام التاريخي وراءه صدام لغوي بين مفردتين لا يستقيم جمعهما في جملة واحدة.
وخطورة هذا الخلط تظهر جليا في فقر البرنامج السياسي والاجتماعي لتلك التيارات، خصوصا وهي تنطلق من مسلّمة أن هذه الدنيا دار باطل، وليست إلا صالة انتظار للوصول إلى دار الحق، ما بعد الموت. ولأن الحقيقة المطلقة والوحيدة لدن مثل هذه التيارات فمن الطبيعي أن يكون الاستبداد الفكري وما يترتب عنه من عنف مكونها الرئيسي، وحتى إن اتخذت مسارات سياسية ديمقراطية للوصول إلى السلطة كتكتيك مؤقت، فإن الديمقراطية ليست في الأساس جزءاً من طبعها أو مكونها السيكولوجي، وهي في هذه الحالة متسقة جدا مع ذاتها.
ويأتي المنع الدستوري للأحزاب ذات المنشأ الديني كمنطلق لتجذير البنى الديمقراطية الصلبة وليس كتعسف تجاه هذه التيارات، ولا كنوع من الإقصاء كما يعتقد البعض، وفي هذه الحالة يتم إنقاذ الدين من معركة ليست من اختصاصه بل وتعكر صفوه الروحي، وإنقاذ السياسة كمجال للصراع الدنيوي من قداسة لا تستحقها لكونها اجتهادا إنسانيا فوق الأرض تحكمه علوم اجتماعية وسياسية واقتصادية أصبحت لها جامعات ومراكز بحوث مختصة.
فالأحزاب الدينية تضع شَرَكا من أجل اصطياد أكبر قدر من الناخبين عن طريق الوجدان المؤجج، وما يحدث أنها عادة ما تكون فريسة هذا الشرك، مثل الصياد الذي ينسى خارطة شراكه في الغابة، أو بمعنى أصح لا يملك هذه الخارطة.
وهي التجربة نفسها التي وقع فيها جماعة الأخوان في مصر، حين وصلوا في أول انتخابات، بعد ثورة يناير، للسلطة عبر مفارقات اجتماعية وتاريخية أغمضت للحظات عيونها عن الماضي والمستقبل وعاشت لحظة الوجد السياسي في ثورة أدارها الجامع ويوم الجمعة.
قدم الأخوان برنامجهم السياسي المرتبك، وعانى هذا البرنامج من عدة مفارقات في داخله، فهم تيار اعتقد أنه جاء من السماء لينقذ هذه الرعية الضالة، وعاشوا فترة حكمهم نهبا بين شعاراتهم الدينية المتعلقة بالوجدان، وبين ما يصادفهم على الأرض من نهم بشري تجاه تحقيق مصالحهم الدنيوية والرفع من مستوى الحياة، فكانت تلبية ما يريده العقل عبر أداة مشحونة بالشعائر أول حالة ارتباك صادفتهم. المفارقة الأخرى وباعتبار أنهم وعدوا الناس بعدالة قادمة من السماء اعتبروا برنامجهم السياسي مقدسا، وغير قابل للنقد أو المعارضة، بل طبيعي جدا أن يعتبر المعارض لهذا البرنامج المقدس منحرفاً عن الملة، طالما هذا البرنامج يحتاج إلى إيمان غيبي به حتى وإن قاد الرعية إلى جحيم أرضي، ومن داخل هذا الشعور بالتعالي تولدت حالات الإقصاء الشاملة لكل التيارات السياسية الأخرى “الضالة” في مفهومها.
وأصبح الشعار المعروف “الإسلام هو الحل” بمثابة الرماد الجاهز للذر في كل عين يبرز فيها سؤال عن تعقيد الدولة الحديثة وعلاقاتها الداخلية وبالعالم، وهو شعار دعائي فعال في مجتمع محاط باليأس بعد إخفاقات تنموية متتالية من قبل مراحل الحكم السابقة، تجعل من كل حزب يحمل اسم الله في دعايته الانتخابية مطابقاً للدعاء المرفوع وسط مجتمع يغلب عليه الفقر وضياع الحقوق، والمجتمع المصري، خصوصا، يشكل أرضا خصبا لمثل هذه الشعارات.
المشكلة التي لم يُنتبه لها أن تلك التيارات السياسية التي أخفقت في حل مشاكل الرعية كونها تحولت هي نفسها إلى عقائد سياسية غير قابلة للنقد، ولا حتى النقد الذاتي، ورغم أنها تيارات دنيوية بامتياز إلا أنها عملت في مسارين من أجل الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها، فهي من جهة استخدمت أدبيات دينية عدة وغازلت كثيرا وجدان الجموع الديني في دعايتها، واستخدمت المساجد كمقرات لهذه الدعاية، ومن ناحية أخرى حولت برامجها السياسية، المفترض أن تكون دنيوية، حولتها إلى عقيدة لا يأتيها الباطل أبدا.
وحين يصبح الرأي عقيدة تستحيل إمكانية الحوار، بل وإمكانية التعايش بين هذه التيارات السياسية، لأن التعصب الأعمي لمثل هذه التيارات سيكون البديل للانتماء الواعي لها دون أن تكون منزهة عن النقد، ولأن إقليم العقيدة لا يسمح لأي جسد غريب أن يدخله، ولأن طبيعة العقيدة لا تقبل تغييرا ولا تبديلا ولا نقدا حتى وإن أخفق برنامجها السياسي. وكل إخفاق سياسي أو إداري سيُرد إلى أخطاء في التطبيق أو انحراف عن الشريعة، بل وحتى ما يترتب عن هذه القيادة من كوارث ستصبح في إعلامه الورع نوعا من العقاب للرعية بسبب انحرافها عن الدين، أو امتحانا لها إن كانت على الصراط القويم.
وفي مثل هكذا حالات يصبح التطقيس السياسي لكل ما يترتب على قيادة المجتمع من أخطاء ثقافة شعبية عامة، تشبه ما حصل للمجتمعات العربية من مآسٍ واضطهاد إبان حكم الخلافة العثمانية، تلك الفترة المظلمة من تاريخنا التي استمرت قروناً مخدومةً بتأجيج الوجدان الديني، للدرجة التي رضخت فيها الشعوب لاحتلال من قبل أمة أخرى، طالما هذا الاحتلال يحمل شعارات دينية استطاع من خلالها أن يستعبد هذه الشعوب بحجة طاعة ولي الأمر (الخليفة الذي لا يتحدث حتى لغة هذه الشعوب)، وأن يستولي على ثرواتها تحت باب الخَراج المقدس.
_______________
نشر بموقع بوابة الوسط