من أعمال التشكيلي بشير حمودة
قصة

الطنطونة

إلى “نانا عيشة” رحمها الله

من أعمال التشكيلي بشير حمودة

 

تتحرك سيارة أبي تلقائيا، تنهب عجلاتها شارع حي الأندلس ذي الاتجاه الواحد شرقًا، ما أن يشارف الشارع على الانتهاء حتى يبرز مبنى يشبه القبة، تلطمه أمواج البحر بلا هوادة، تتناثر رائحته، تداعب شعيرات أنوفنا، نستفيق، نعتدل في جلستنا، نرتفع بأجسادنا كمنحوتات أفريقية ضعيفة، ندير رؤوسنا نحو الاتجاه ذاته، نمعن النظر في البحر الملون، يختفي البحر حين نلج جادة عمر المختار، والسيارة ما تزال تسير في طريق مستقيم، يد أبي تترفق بالمقود..

هي طرابلس بشوارعها المستقيمة المستوية عدا أعلى منطقة فيها “الظهرة” مسقط رأس العائلة. الجادة زاخرة بالناس، بالدكاكين، والمقاهي الفائرة بصخب الرجال تحت أقواسها، بأرضيتها المرصوفة بعناية، برجال الشرطة وصفاراتهم التي تطرق طبول آذاننا المرهفة، وتوقظنا..

ها نحن نلج المدينة وزحامها.. ناسها البسيطة الباسمة، وتلك المكشرّة والمتحفزة والمستعجلة، نساؤها يتأبطن “فراريشهن” أو يرتدين أحدث موضة، يتسوقن ويتمهلن وهن يقطعن الطرقات، يتهامسن ويضحكن.. نمعن فيهن ولا نملك إلا الابتسام… صغار يتحدون السيارات ويلتفون حولها بكل جرأة، يسارعون الخطى، يتتابعون ككرات “البطش”. كنا متفرجين من وراء الزجاج، أو يلفحنا الهواء ويتخلل رئاتنا إذا اشتكينا إلى أبي من دوار يخدر رؤوسنا … “تنفسي باهي.. توا تمشي الدوخة”، أستنشق هواء المدينة المشبع بتفاصيلها، فتهدأ نفسي.. “أهو قريب نوصلوا”.

لابد وأن تنساب السيارة بتلقائية نحو الظهرة، تعلو، نقترب من مقبرة سيدي بوكر “هيا الفاتحة”، نستوي في جلستنا، نقرؤها بكل خشوع، نستمع إلى همهمة والدي، نعرف أنهم جميعا يرقدون هناك، بأزواجهم حتى الغرباء منهم.. تعج الظهرة بالغرباء، يرتاحون إليها، خليط برجوازي ما بين السوق الكبيرة والبحر والجبانة، ما بين الرزق والحياة والموت، ثالوث الحياة الذي ينصهر فيه الجميع.

في الطريق، يضغط والدي بين الفينة والأخرى على مزمار السيارة “خير خير”، أو يحرك يده المتكئة على نافذة السيارة “احميدة كيف حالك”، أو يرد على تحية تلقى إليه بمزمار أو بيد.. تزداد وتيرة هذه الإشارات ويتكرر اسم والدي عند اقترابنا من الظهرة، وترتفع الأصوات “أستاذ كامل ربي يصون”.. “يصون عرضك”..

نتفحص الوجوه والقوام والهندام نراه مختلفًا.. لكنها في أغلبها وجوه باسمة…تدخل السيارة بصعوبة إلى باحة السوق، يفتح أبي كل نوافذ السيارة، نبقى فيها حتى ينتهي من تبادل الحديث مع بعض الجالسين أمام الدكاكين، يصافح ويعانق ويبتسم ويودع.. نرحل من جديد “أهو قريب نوصلوا..” . لا نرى علاقة بين السوق ووجهتنا سوى أن الظهرة مسقط رأسنا، وأنه لابد ونحن نتجه إلى المدينة أن نمر بها.

“الظهرة تزهي لخاطر”، تقول عمتي كلما ممرنا بها.

تقترب السيارة من القصر ثم تنزل من شارع ضيق، وتدخل من زقاق مدرسة التحرير لنجد أنفسنا في “الطنطونة”.. وهي عبارة عن عدد من الأزقة المتفرعة من شارع ميزران، تقع تحديداً في مربع ما بين شوارع: ميزران، و24 ديسمبر، ومحمد عبده، والنصر.

امتلك جدي وشقيقاه عمارة بواجهتين ومدخلين، من تسع شقق، توارثها نسلهم، وهكذا سكن عديد من “المقاهير” في الطنطونة.

يثيرني الاسم “الطنطونة” كأنه عنوان لأغنية تغنى للصغار، وحين سألت عن مصدر الاسم علمت أن المنطقة في الأصل كانت معسكراً إيطاليّاً يحمل الرقم 81 باللغة الإيطالية “اوتانتا اونو” الذي يُعرّب ككثير من الكلمات الإيطالية إلى اللهجة الليبية ليصبح الطنطونة!

سكن بعض أعمامي هناك وامتلكت عماتي شققًا استثمرنهن تأجيرًا. تتحرك السيارة بتثاقل في شارع محمد عبده الضيق، يتخير أبي مكاناً تحت العمارة لركنها، نتنفس الصعداء، ندفع الباب بصعوبة، وننزل الواحد وراء الآخر، كان عمي إبراهيم – دوماً – في استقبالنا أسفل العمارة، يحتضننا ويحثنا برأسه على الصعود “هاوينا يراجوا فيكم..”، يأخذ أبي من يده، يقطعان الشارع، يجلسان أمام “كوشة بوديب”.

نصعد درجاتٍ رخامية كثيرة، يعاني بعضها تقعرا خفيفا بفعل الزمن، نتوقف عند الدور الأول، يستحثنا الباب الموارب على الدخول، نلتقي بإبتسام ونانا لطفية التي يصاحبها الهدوء ولا يفارقها الابتسام، تقدم لنا المشروب والشوكولاتة.. تضع البقية أمامنا، وتحثنا على أن نتناول المزيد.. سرعان ما تصطحبنا إبتسام إلى الشقة العلوية حيث يكون أبناء وبنات عمي خليفة.. نتناول مزيداً من المشروب والشوكولاتة.

ما يميز هذه الشقة كثرة البنات وقلة الأولاد، نجلس في “الدار العربية” المطلة على الشارع الرئيس، يسرفون في الترحيب بنا، خاصة “نانا” التي تتطابق طباعها مع سلفتها. الشقتان فسيحتان بأهلهما وذاك الحب الملازم لجدرانها المطلية، وحجراتها المرتبة، وذاك الدفء الذي جعل من تلك الشقتين المركبتين فوق بعضهما شقة واحدة، ومن سيدتيهما أُمّانِ لكل الأولاد .. لو كان من طريقة هندسية لإزالة السقف بينهما لفعلتا ذلك فالحب والاحترام الذي لمسناه عن قرب، جعلنا نشعر أنه بيت واحد، وأن سيدتَيِ البيت أختان، حتى كادتا أن تتشابها، وإن البنات اللاتي تزدان بهن الشقتان جعلتهما أوسع وأرحب وأكبر..

لم يكن الرابط سوى ذلك اللقب الذي ضمته مبانٍ امتلكها الجدود ما بين الظهرة والطنطونة، فقربت من نسلهما، فتحابوا وتعاشروا وازدهرت في قلوبهم مودة بلون البنفسج…

مقالات ذات علاقة

حفاة…نعم حفاة

ليبوفوبيا ( الخوف من الليبيين)

محمد النعاس

تجليات رجل تافه

إبراهيم الزنتاني

اترك تعليق