المقالة

المثقفون حمار ليبيا القصير

العام 1993، حين كنا نصدر صحيفة الافريقي عن القسم الثقافي بالنادي الافريقي الرياضي بدرنة، نشرنا استطلاعا عن “الشباب والفراغ” أجرينا من خلاله حوارات صريحة مع شبان وشابات بمساعدة صحفيات متعاونات، وتحت أسماء مرمزة بالحروف الأولى نشرنا أحاديث الشباب الجريئة التي تحدثوا من خلالها عما يفعله الفراغ بأجسادهم وأرواحهم وعقولهم، عن العنف والمخدرات والشذوذ والتحرش، وعن اليأس من المستقبل بسبب كل الطرق المسدودة في وجوههم، وأرفقنا الاستطلاع بتحذير من هذه القنابل الموقوتة التي قد تنفجر في أي وقت وتسبب مآسيَ للشباب ومجتمعهم، ودعونا إلى الاهتمام بأوقات الشباب وطاقاتهم، وبوسائل الترفيه وبالتنمية، وغيرها مما يشغل وقت الفراغ، ومما ينمي مهارات الشباب ويجعلهم مساهمين في نهضة المجتمع بدل الحقد عليه وتصفية الحساب معه، أذكر أني شخصيا حذرت على هامش هذا الاستطلاع من كون الشباب الذين يعانون الفراغ والبطالة ليس أمامهم سوى إحدى الغيبوبتين: غيبوبة التطرف أو غيبوبة المخدرات، أو حين يفقد الشباب معنىً لحياتهم يبحثون عن معنى لموتهم.

الجمعة اللاحقة لصدور العدد ظهر شيخ في المسجد العتيق بدرنة، له جمهوره الواسع لأنه كان يقلد بشكل متقن الشيخ البصير عبد الحميد كشك، وأثناء الخطبة أظهر نسخة من الجريدة من جلبابه وصب جام غضبه عليها، متهما القائمين عليها بالترويج للفساد ونشر غسيل المجتمع وخدش الحياء وغيرها من التهم التي مازلنا نسمعها تجاه كل ما هو ثقافي، وأمر بالستر وبتغطية العورة والعيوب لأننا مجتمع حساس وله تقاليد، تلاه أئمة مساجد في بنغازي هاجموا الجريدة نفسها وبالكلام نفسه، وجميعا كانوا يتفقون على حقيقة ما يعانيه الشباب، لكنهم ضد تشويه المجتمع وضد التشهير بعوراته.

كان هذا عام 1993، وبعدها بثلاث سنوات حدث الانفجار وانتقل الشباب من غيبوبة المخدر إلى غيبوبة التطرف، وحوصرت مدينة درنة بجيش كامل، بينما نرى الآن أن من يختطفون درنة بإحدى الغيبوبتين أو كليهما من مواليد عام نشر الاستطلاع أو قبله وبعده بقليل، وما حذرنا منه حدث ، وما أمر رعاة الأخلاق بالستر عليه انفجر في وجوههم ووجوه الجميع.

الحمار القصير في النجع كان مغريا للأطفال كي يلعبوا عليه ويذيقوه صنوف التعب والمشقة لأن ارتفاعه القصير مناسب لهم ليمتطوه بسهولة، بعكس الحمير العالية والبغال التي تصك ولا تناسب قاماتهم، وأصبح مثلا أو تعبيرا دارجا يطلق على من يُضطهد وسط جماعته.

حين يمر المجتمع بأزمة، وينتشر فيه الاحتقان، وينفجر المكبوت من الغضب، عادة ما يبحث المتوترون من هكذا أزمة عن أضعف حلقات المجتمع كي يفشوا خلقهم فيها، أو الحمار القصير المتهالك كي يمتطوه، وفي حالة مثل حالة مجتمعنا حيث يصل الاحتقان إلى أقصاه، والغضب إلى مداه، فستكون أضعف حلقة يمكن (التفشش) فيها هم الكُتّاب والأدباء باعتبارهم مسالمين ولا يملكون سوى القلم (أو الكي بورد) للتعبير عن أرائهم ومشاعرهم وأفكارهم، فهم من ناحية ظاهرون في المشهد ومن ناحية أخرى، لا نفوذ لديهم ولا ميليشيات ولا سلاح ولا مال ولا منابر إعلامية ينابزون من فوقها، ولا قدرة لهم على رد الصاع صاعين أو الشتم أو التهديد بأي شيء، فقط نزيف من الحبر، صامتٌ ومرٌّ وعاجزٌ عن الوصول في أغلب الأحوال إلى الناس.

لذلك لا نستغرب هذه الهجمات الشرسة التي يتعرض لها المثقفون والأدباء بسبب أو دون سبب، فالجميع يريد أن (يتفشش) فيهم، وينفس عن غضبه من خلالهم، أو يريد التطهر عن طريقهم، أو الظهور بمظهر الحامي لحمى المجتمع على حسابهم.

في وطن تَعبُر فيه المخدرات بكل سهولة، ويتنقل فيه السلاح الثقيل والمتوسط والخفيف بكل سلاسة، وتتسكع في أسواقه السلع المسرطنة والمنتهية الصلاحية، وتستوطن فيه الأوبئة عن طريق الهجرة غير الشرعية دون تدخل، وتقفل فيه حقول النفط، قوت الناس، دون أن تثير زوبعة، ويخطف فيه الرجال والنساء والأطفال من أجل فدية، وتقطع فيه الطرق، وترمى فيه الجثث في القمامة، وتزرع فيه المفخخات في كل زاوية، ويُستقبل فيه الإرهابيون والمجرمون والقتلة في المطارات والموانئ، في هكذا وطن ذاهب إلى الهاوية، لا يُراقب ويُصادر ويُحرق سوى الكتاب، ولا تُغلق سوى فضاءات الثقافة، ولا يُلاحق إلا الكُتّاب والشعراء. والسبب كون الكاتب والكتاب هو الحمار القصير المغري امتطاؤه، وهو الفرصة الذهبية للتطهر وللصراخ في وسائل الإعلام بواجب حماية المجتمع من خطر المثقفين، لأن المهاجمين يدركون أنهم سيفشون غلهم دون أن يتعرضوا لأذى أو حتى شتيمة في المقابل.

لا حول للمثقفين، وأخص هنا المبدعين، ولا قوة. إنهم مجرد حالمين عاشقين للوطن وللحياة، هامسين هادئين، قصيري القامة لكل من أراد امتطاءهم، ولكل من أراد أن يظهر في التلفزيون أو مواقع التواصل فارس الفرسان، حامي حمى ليبيا وشعبها ونسيجها وتقاليدها من جملة عن الحب، أو من قبلة تتسرب في السياق، أو من شخصية روائية تحدثت بلغة الشارع التي يسمعونها كل يوم ولا يستطيعون زجرها في الشارع لأن المعربد بها من الممكن أن يكون في ثنايا ملابسة مسدس.

هذا قدر المثقفين والمبدعين في زمن الاحتقان الجماعي وفي زمن المزايدة، وفي وطن تربت أجياله الأخيرة ضمن ثقافة معاداة الإبداع والنجومية والتميز، وهم ورثة ذلك النظام الذي بدأ حربه منذ الانقلاب على الثقافة والفن عبر ما سماه بالثورة الثقافية وتطهير البلاد من المرضى. (المقصود بـ “المرضى” المثقفون والمبدعون وأصحاب الرأي المختلف) إلى أن وصل إلى تشميع وقفل مقر رابطة الأدباء بالأقفال كما يفعلون الآن مع دار الفقيه ومقر تجمع تاناروت للإبداع الليبي.

ورغم كل شيء فإن الثقافة والإبداع والفن هي الواجهة الحضارية لكل أمة، ولا تقيم الأمم إلا من خلال حركتها الثقافية ومبدعيها، ولا تقيم الحقب الحضارية إلا بما تحويه من ابتكار وإبداع وفنون، وعبر التاريخ سمي المثقفون والمفكرون والمبدعون “أقلام التنوير” الذين بأفكارهم نهضت الأمم وتقدمت، لذلك سُمي المعادون للثقافة بالظلاميين، وسُميت العصور الخالية من حرية الفكر والإبداع بعصور الظلام. غير أنه، ولحسن الحظ، ولأن النور هو سر الحياة، كان الظلام دائما ينقشع لتستأنف الحياة دورتها، ولينتصر الجمال على القبح بجميع أنواعه.

ذهب راجمو الفكر والإبداع والفن وحارقو الكتب إلى النسيان التام، وبقي نتاج الثقافة والفن وأسماء المبدعين في الذاكرة ملهمة للأجيال. هذا ما يقوله التاريخ ببساطة.

_______________

نشر يموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

هاري بوتر

علي باني

لِيبِيًّا فِي طَرِيقِهَا الى خَارِطَةَ طَرِيقِ جَديدَةٍ !

رمزي حليم مفراكس

جدران القاعات الخاصة آخر ما تبقى للفن في ليبيا

أحمد الغماري

اترك تعليق