يتشكّل السارد المحايث بضمير “الأنا” موضوعاتياً في كتابة جمعة أبوكليب مُترّحلاً من السجن إلى المنفى أو بالعكس، ويتنمذج في الجوّال الذي أسماه تزيفتان تودورف وهو ينمّط الرّحالة الحديثين بـ”المُستوعَب”: “إنّه المهاجر يريد معرفة الآخرين لأنه منقاد إلى العيش بينهم؛ يريد مشابهتهم، لأنه يرجو منهم أن يقبلوه. إنه يذهب إلى الآخرين لكي يصبح هو مثيلهم”(1). فهذا الانقياد إلى “الآخرين” الذين يمنحونه مأوىً، أو وطنا جديدا يجعل من المهاجر مُستوعبا أي منفيا في المشابهة والمثلية ـ الإدماجية. فالسارد يخاطب نفسه وقد خرج من السجن: “في السنة العاشرة تخرج الى الشارع لأول مرة. وسريعاً تكتشف أن أمامك قطاراً سبقك مسافة عشر سنوات وماعليك إلا اللحاق به”(2).
يماهي إدوارد سعيد وضع ” المُستوعب” بـ”الوضع الكونرادي”. فالكاتب جوزيف كونراد ينظر إلى نفسه كمنفي من بولندا، تحمل أعماله كلّها تقريبا- فضلا عن حياتهـ علامة لا مجال للخطأ فيها هي علامة هاجس المهاجر المرهف الذي يهجس بمصيره ومحاولاته اليائسة لإقامة صلة مُرضية مع الأوساط الجديدة “(3)، التي تتموضع في كتابة الأنا المُستوعب كمُخاطب في سرد جمعة أبوكليب أمكنة: سجناً، منفى، ومهجراً يعود السارد إليه مخاطباً ذاته مرّة أخرى “قد تقرّر الرحيل ودخول تجربة أخرى مختلفة في عالم مختلف وشوارع لاتعرفك، وقد تحزم أمتعتك وترحل، لكن السجن يظل معك في حقيبة سفرك، ودفء سريرك”(4).
نعُّد مع السارد ـ الكاتب من سنة إلى عشرة، ونلحق بالقطار الذي سبقه مسافة عشر سنوات مكثها في السجن ونقفز معه إلى المنفى ونتساءل: هل تتّم مسألة استيعاب الأوساط الجديدة وهنا: المهاجر والمنافي المغايرة للسجن إبعاداته ومنافيه بالوضوح ذاته في عملية الكتابة؟. هذا ما نحاول مقاربة التباسه في قصة لافتة ـ وإن لم يتقصّد الكاتب لفتها ـ من قصص: “خطوط صغيرة في دفتر الغياب”(5)، والمعنونة بــ “محطة قطارات وريستر بارك”. فالمحطة دون غيرها من محطات قطارات لندن، التي ترد بشكل متواتر ولافت ومتكرّر تقريبا في مجموعتي قصص أبو كليب “حكايات من البرّ الأنجليزي “و “خطوط صغيرة في دفتر الغياب”، كـ “محطة ويلزدين غرين” أو “محطة نيو مولدن” أو”محطتا لندن ـ فيكتوريا، ولندن ــ واترلو” أو “محطة بادنجتون “، وحتى محطات قطار الأنفاق كـ “محطة لاد بروك غروف” أو”محطة ساوث كنزنغتون” أو”محطة نايتس بريدج” التي تمّ انتقاؤها قصدا من قبل السارد لينصبّ عليها الوصف حسب التعريف المتفّق عليه عموما في السرديات الحديثة كونه: “ذلك النوع من الخطاب الذي ينصبّ على داخل أو خارج ماهو مكاني أو شيئي أو مظهري “فيزيونومي “، ويأتي مجسّدا في دليل منفرد أو مرّكب، أي في كلمة أو جملة أومتتالية من الجمل”(6). والوصف وبالمعنى الوارد في التعريف يأخذ مكانه هنا في التقاطعات التي تحدّدها “محطة قطارات وريستر بارك” إزاء شخص السارد كونه، سجينا سابقاً، ومهاجرا / منفيا لاحقاً.
ـ تقاطعها مع كينونته و شرطه الوجودي في أنّها تقع على الحدود الفاصلة بين بلدية ساتون Sutton وبلدية كنجستون على التيمز Kingston Upon Thames حيث يتموضع هو في الحدّ الفاصل بين عالمين وحياتين وموطنين وتجربة منفيَينْ..
ـ تقاطعها فيما يخصّ اتجاهات رصيفيها المتصّلين ببعض عن طريق جسر معدني قديم وبلا لون الرصيف رقم 1 مخصص للقطارات المتجهة شرقا والتي تأخذ السارد إلى محطة قطارات لندن ـ واترلو London Waterloo حيث الاتجاه الذي يأخذ من خلال كلمة شرقا دلالة بعيدة بمعنى “الوطن” منفى السجن. والرصيف رقم 2 مخصص للقطارات التي تسير في الاتجاه المعاكس. المعاكس ربّما، لكل الاتجاهات التي تأخذ إلى الاتجاه الأوّل بدلالة المعنى أو دلالة المكان أي شرقا من لندن ــ سيتي London City إلى منطقتي جيلفورد Guilford و دوركينغDorking ، فالمحطة يحيط السكون المطبق بأجوائها في كل الأوقات، ممّا يجعلها تبدو كمبنى مهجور، كذلك مجهوليتها (غفليتها Anonymity)، فغير معروف للسارد على وجه التحديد سنة افتتاحها، ودخولها الخدمة كواحدة من محطات القطارات في جنوب غرب لندن.
لكلّ هذه الاعتبارات اختيرت هذه المحطة بالذات لتكون هدفا للاستيعاب المعاكس من قبل السارد وهو الشعور الذي يعطي المنفي ـ السجين السابق إحساسا بالتعويض: عن خسارة مربكة تمّت هُناك. وهُناك في تذكارات السارد هو: “الوحل المزبل المسمّى: السجن، في تلك البقعة من العالم الأرضي الشقيّ والتي يفترض أن تكون وطنا”(7). ولكن الخسارة يتّم التعويض عنها كما كتب إدوارد سعيد: بخلق عالم جديد يبسط المنفي سلطانه عليه” “(8)
بسط السلطان: عملية سنطلق عليها مبدئياً وإجرائياً الاحتواء أو الاستيعاب بالمعنى المقابل للذي عناه تودورف، والذي يتمّ في عالم الكتابة عبر الوصف أو اللغة الوصفية التي تنصّب على ماهو خاص ومميّز لأشخاص وأشياء وأمكنة هذا العالم الذي يحاول السارد المحايث بضمير “أنا” الكاتب استيعابه بالوصف؛ والذي هو إنتاج معنى آخر تخصبه الكتابة ذاتها. فهذه المحطة المغمورة التي يحيط السكون المطبق بأجوائها في كل الأوقات، والتي لا شئ بها يشعر نحوها بالألفة والتي كثيرا ما يلجها السارد الواصف من الخلف ونادرا ما ولجها من أمام، تتبّدى لنا من خلال قوّة الكتابة الواصفة مجرّدة عارية لون كراسي صالة انتظارها الوحيدة الأبيض يبهت فيقترب من الرمادي ولون بابي مرحاضيها ـ واحد مخصص للنساء والآخر للرجال ـ الأزرق يغمق فيزيد من وحشة المكان”(9).
لنشغّل آليات التحليل حسب الطرائق الإجرائية الواردة في تعريف علم السرديات الذي أوردناه سابقا للوصف. في هذا المقطع المستلّ من القصة نبتديء بالدليل المنفرد الكلمة والتي هي هنا فعل “ولج” الذي يرد في الجملة المفتتحة: “كثيرا ما ألجها من الخلف، ونادرا ما ولجتها من أمام” لن نتوقف هنا على الدلالة الإيروتيكية المتغيّرة التي يظهر بها فعل “ولج” في المقطع والتي تفيد استيعاب الطرف الآخر “الأنثوي” المنوب عنه بالمحطة، والمشارك في العملية الجنسية واحتوائه كليّة في شكل المضاجعة. ونعبر من فعل ولج مباشرة إلى توصيف الدلالة والمكانة التي تأخذها الأفعال في عملية السرد الوصفي باعتبارها العلاقة الأكثر سلمية فيما يسميه جان ريكاردو باحتراب النص أي “احتراب السرد مع الوصف”(10) ونموذجه كتابة فلوبير حيث يأخد “كل حدث يمكن التعبير عنه عدداً من الأفعال التي تناسبه. فإن اختيار فعل بعينه هو انتقاء لحالة وصفية تحدّد نوعية الحدث أو نوعية الوعي به أو التفاعل معه.
ومعنى ذلك أننا نجابه مع كل فعل، عملية وصفية محايثة للعملية السردية وخاضعة لها “. ففي قصة “محطة قطارات وريستر بارك” وهو ماينطبق على مجمل أسلوب السارد فيكون مميّز المجموعتين القصصيتين “حكايات من البرّ الانكليزي وخطوط صغيرة في دفتر الغياب”، نصادف سيلا من الجمل السردية المتلاحقة، المسكونة أفعالها بالصدى الوصفي المنسرب عبر أغوار اللغة السردية. ففعل “ولج” في نمطيه المصدريين الولوج بمعنى الدخول والإيلاج بمعنى الإدخال هو أحد الأفعال المشكّلة للمحفّزات الأساسية لوحدات السرد في قصة “محطة قطارات وريستر بارك” والتي تأتي في صيغة ضمير المتكلم مثل: التجأتُ، وأسندتُ، دخلتُ أو تحرّك “فضولي” ، “وقادني نحوها”. فالمحفّز الحكائي وهو هنا فعل “ولج “الذي أتى في صيغتين “ألجها.. وولجتها” كان بإمكان الكاتب تعويضه بفعل آخر “دخل” كما فعل في موضع آخر من القصة “دخلت المحطة صباحا” أو أفعال كـ ” انسلّ أو دلف… إلخ”. ففعل “ولج” الذي تبتديء به الجملة المفتاحية للقصة يترجم الإحساس الداخلي للشخصية المحقّقة للفعل في علاقته برمزية المكان ــ محطةً أو زنزانة في سجن ــ الذي انتقينا منه دلالة الاستيعاب المتوافقة مع موضوعة البحث في المنفى ـ السجن الذي “أدخل كل زنزانة فيه جملةً، أخرج من كل زنزانة جملتين”،وهو ما “يزداد في السنة (…) ضيقاً واتساعاً في نفس الوقت: يزداد ضيقاً لأن الانتقال شبه المستمرّ من زنزانة لزنزانة، ومن وحشة، لوحشة،ومن عفن لعفن،لايعني سوى تغيّر الأمور من سيّئ إلى أسوأ. وكما هو متوّقع في السنة (…)، يزداد الجلد تخشّناً وتعوّداً على العفونة، كما تتعوّده العفونة وأرضية الساحة الإسمنتية، جدران الممرّات الطويلة الباردة العطنة إنه كون مغلّف بالفظاظة والعفونة والفراغ، ومدجّج بالحرس. ويزداد اتساعاً لأن الخبرة الإنسانية تزداد مساحة فكل زنزانة تجربة جديدة. ثمة محاولة للإمساك بعناقيد الأسئلة المتكرّرة في أحداق السجناء “(11).
السرد بمحطة السجن في “العدّ البطئ من واحد إلى عشرة” يتابع ببطء العدّ الاحتواء أوبالأحرى الاستيعاب المتبادل في ثنائية السجين ـ السجن، بينما الوصف يراكب في قصة “محطة قطارات وريستر بارك” الأشياء والأحداث، ويرتّبها وفق توارد تدرّجي، يتأطر ضمن نظام محكم الدقة. حيث نكون إزاء مشاهد متراصفة بتماسك يجعلها ـ حسب قراءتنا الفاحصة القادرة على هتك غشاء سطح الكتابة والغوص في أعماقها ـ توّلد بشكل علني كاشف “قصة لامحكية” تبزغ فجأة ذات صباح وبنفس قوة الوصف ذاتها وقد التجأ السارد إلى صالة الانتظار نفسها هربا من برودة الطقس فوجد كراسي الصالة السبعة مشغولة.
ولم يكن أمامه في زحمة الصالة بالمنتظرين سوى البحث عن موطئ قدم يقف فيه حتى وصول القطار المتجّه شرقا إلى محطة لندن ـ واترلو . والقصة تتمّ كُلها في عالم التوّهم الذي اسمه الكتابة والذي حاول أن يقلب معادلة المهاجر من مفعول به إلى فاعل سرعان مايتزحزح فيخلي المكان إلى عالم الحقيقة الذي نعيده من جديد هذه المرّة بضمير المتكلّم وهو السارد المحايث بضمير”أنا” الكاتب: “وجدت فراغا بين الكراسي الثلاثة والجدار القريب من الباب الزجاجي الآلي. فالتجأت إليه، وأسندت ظهري على رطوبة الجدار” (12). وهذه القصة اللامحكية تظل حبيسة وسجينة سلطة “القصة المحكية” التي يبدأها الكاتب بالجملة المفتاحية ذاتها : كثيرا ما ألجها من الخلف (…) وينهيها بإعلان مجموعة العمل التطوّعي بمحطة وريستر بارك الملصق على جانبي رّف الكتب المستحدث في المحطة المفترض مُخاطِباً مجهولاً : “من فضلك خذ كتابا واستمتع بقراءته، ثم أعده إلى سابق مكانه حين الانتهاء منه. إذا كان لديك كتب قديمة لم تعد تحتاج إليها نرجو منك تركها على رفوف خزانة الكتب كي يقرأها غيرك” غيرك الذين هم أنت.
___________________________
هوامش
(1) تزفتيان تودوروف ،نحن والآخرون ، ترجمة ربى حمود، دار المدى ـ دمشق، 1998. رقم الصفحة غير متبث. فالكتاب حالياً ليس بحوزتي.
(2) جمعة أبوكليب،العدّ البطئ من واحد إلى عشرة، حكايات من البرّ الإنكليزي، دار الفرجاني، ط1 . 2008
(3) إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى، ترجمة ثائر ديب، دار الآداب ـ بيروت ط 1. 2004. ص 124
(4)جمعة ابوكليب،العدّ البطئ (مصدر سابق).
(5) جمعة أبوكليب”خطوط صغيرة في دفتر الغياب” دار الهلال ط1 ،2013
(6) عبد اللطيف محفوظ، وظيفة الوصف في الرواية، الدار العربية للعلوم، ط1 2009. ص 55
(7) جمعة أبوكليب، حكايات من البرّ الإنكليزي.
(8) إدوارد سعيد (مصدر سابق) ص. 127
(9) جمعة أبوكليب، حكايات من البرّ الإنكليزي.
(10) جمعة أبوكليب، خطوط صغيرة في دفتر الغياب
(11) عبد اللطيف محفوظ (مصدر سابق) ص 55
(12) جمعة أبوكليب حكايات من البرّ الإنكليزي.
(13) جمعة أبوكليب “خطوط صغيرة في دفتر الغياب”.