تنطرح في دوائر النقاش الصحفي، والتواصلي مسألة تهجير اليهود عن ليبيا 1948 ـ 1967، والإلماح لإمكانية عودتهم مُجدّداً إليها لتنضاف إلى الإرباكات الراهنة التي تعانيها المجتمعية الليبية في مشهدها الانقسامي، الذي فتّح ندوب جراحه القديمة في هذه القضية المؤتمر الذي نظّمه بين ليبيين وإسرائيليين رافائيل لوزون رئيس اتحاد يهود ليبيا، بجزيرة رودوس في30 يونيو 2017، تحت عنوان “المصالحة الليبية – اليهودية” أرفقه بمقال في موقع ليبيا المستقبل بتاريخ 5 يوليو 2017، تحت عنوان “رودس البداية” أثار جدلاً واسعاً واختلافاً في وجهات النظر الليبية، أبانت في مجملها عن نقص دراية بالمسألة، وبُعد شقّة عن غاية تصالح الليبيين مع أنفسهم.
في قضية التهجير اليهودية وخلفياتها التاريخية في ليبيا، نشر موّثق المجتمعيات الطرابلسي “شوقي العرادي” في صفحته على الفيس بوك خبراً عن جريدة طرابلس الغرب بتاريخ أول يناير 1949 وعلّق عليه شاهداً بأن الإدارة البريطانية بضغوط من المنظمات اليهودية بدأت في ترحيل اليهود ونقلهم عن طريق السفن الى دولة فلسطين المغصوبة، وكانت تأتي لهذا الغرض سفن بريطانية، تنقلهم على مجموعات من 1943 وحتى الاستقلال في ديسمبر عام 1951، وبتوجيه صهاينة من اليهود الليبيين قامت مجموعة منهم في سنة 1948-1949 بتدبير انفجارات في مدينة طرابلس لإيهام الإدارة البريطانية بأنها من تدبير العرب الليبيين، إلا أنه تم القبض على أحد أفراد العصابة اليهودية الذي اعترف على رفاقه فقُدّموا الى المحاكمة والحكم القضائي عليهم أوضحه الخبرالمنشور بالصحيفة المذكورة.
الوزير السابق في العهد الملكي، الموسوعي الراحل فؤاد الكعبازي، والذي خضوعاً لرغبة باباوية عيّنه النظام الدكتاتوري السابق بداية تسعينيات القرن الـ20 سفير ليبيا في الفاتيكان في محاضرته المُرتجلة عن يهود طرابلس في مركز الجهاد للدراسات التاريخية بطرابلس منتصف الثمانينيات أورد، وهو من عايش اجتماعياً وثقافيا منذ طفولته يهود طرابلس، أن مؤججي العنف من الصهاينة فيما سمّي بـ “ثورة اليهود” عام 1948 استأجروا رعاعاً من أحزمة الصفيح بتخوم طرابلس لتدبيرمكيدة ضد أبناء المدينة العرب الذين تعايشوا مع اليهود في سلام وآمان، للتدليل على رأيه أبرز موقف النخبة الطرابلسية المثقفة التي ينضوي فيها مع المثقف اللامع أحمد راغب الحصايري الذي أدان الجريمة بمقالات في الصحافة، وضعت أصابع الاتهام في وجه مخططيها من الصهاينة بتواطؤ- وهو مايتفّق لوزون معه فيه ـ السلطة الانتدابية البريطانية.
كل هذه التوضيحات التاريخية المُعتبرة لاتنفي مسؤولية ليبيين من أصلاء المدينة عن الحدث الدامي، وهم من تُبرز أسماء عائلاتهم سرديات التطوّع الجهادية، وقد أججت المذابح الصهيونية في دير ياسين وغيرها مشاعرهم وبعضهم أنزلت بهم المحاكم عقوبة السجن لسنوات مثل خليفة خلف الذي استأجر والدي منه الغُرفة التي وُلدتُ بها في البيت “العلّي” الذي ملكه في المدينة القديمة بـ “وسعاية ابوراس” وخلفْ كان طرابلسياً متعلّماً يتقن إلى جانب لغته الأُم، الإيطالية وتبوأ وظيفة في إدارة المدارس العربية.
يهود بنغازي لم ينتظروا المصير الذي حاق بأخوتهم يهود طرابلس عام 48 ـ 1949، فغادر عددٌ كبير منهم المدينة خلال الحرب العالمية الثانية بعد استرداد قوات المحور (الألمانية) لها من قبضة قوات الحلفاء (البريطانية) ديسمبر 1940. وجهة النظرالمؤكّدة لحماس شباب المدينتين في عدائهم لليهود بعد المذابح التي اقترفتها العصابات الصهيونية إزاء الفلسطينيين وراء ستار الصمت البريطاني، هو انخراطهم اللافت في التطوّع في كتائب الشباب من المغرب العربي والسودان، الذين هرعوا إلى الجهاد في فلسطين سنة 1948.
كُتبٌ ثلاثة بل مذكرّات رصد أصحابها، الحمّى الجهادية التي تلبّست الشُبّان الليبيين، أولهم محمد حسن عريبي، الذي سرد مغامرته وهو يسير بمواصلات ذلك الزمن من طرابلس بين الساحل والصحراء ليصل إلى فلسطين، ويبدأ كتابه بمقدمة يقرّ فيها بكثافة عدد الفدائيين الليبيين، ولولا حيلولة محافظ “مرسى مطروح” المصري، بينهم وبين الانضواء في معسكرات التطوّع القائمة في البلدة، لكان عددهم يفوق عدد بعض الجيوش العربية، وأن عدداً منهم سقطوا شهداء على أرض فلسطين. والكتاب الثاني هو “صور من جهاد الليبيين في حرب فلسطين” للبنغازي سنوسي محمّد شلّوف، الذي تطوّع مع اثنين من أبناء عمومته، في كتائب الشباب سنة 1948استجابةً لنداء “جمعيّة عمر المختار” التي فتحت باب التطوّع لخوض معارك الجهاد في الكتيبة الليبيّة التي حملت اسم “كتيبة عمر المختارالأولى”، أماالكتاب الثالث فهو مذكرات “رحلة السنوات الطويلة” للحقوقي، والمثقف الطرابلسي الذي تطوّع أيضاً بداية الستينيات في حرب تحرير الجزائر عبد الرحمن الجنزوري، وفي سرده لمغامرته الفلسطينية التي تخلّلتها خيبة الأمل، يذكر ممروراً أن الكتيبة الثالثة التي انتظم فيها وعدد أفرادها كان 240 متطوّعا ليبيا من بينهم متطوّعون من الشرق الليبي، صُدموا بمنعهم من خوض القتال الحقيقي، بل طُلب منهم بدلا من ذلك أن يؤدّوا مهام البوليس الحربي!. والمرارة نفسها عبّر عنها السنوسي شلّوف مندّدا بالانهزاميّة، بل الخيانة التي قبلت بمؤامرة الهدنة، ونتيجتها حدوث “نكبة عام 1948”.
هزيمة الجيوش العربية، أمام جيش دولة إسرائيل عام 1967، هي من تكون العامل الحاسم في تهجير البقيّة القليلة من يهود بنغازي، ومنهم عائلة رافائيل لوزون رئيس اتحاد يهود ليبيا، الذي نظّم المؤتمر الجدلي المذكور. فقد ذكر أنهم تحت حماية قوات بوليس المملكة غادروا مدينة بنغازي هربًا من الغضبة الشعبية، بعد أن تناهت إلى أسماعهم تهديدات بالقتل صدرت عن المتظاهرين. غضبة بنغازي لم تُرافقها أعمال قتل ضد اليهود. بل اقتصرت على إضرام النيران في محلاتهم كمخازن عائلة بيدوسا، التي كانت تحظى بالشهرة والاحترام في عموم برقة، ومحمد بوسنينه ذكر في شهادته حوادث إحراق شملت محل ماير الزروق وكيل اليزابيث أردن حيث نُثرت أغلي العطور ومواد التجميل في الشارع ونهبها المتظاهرون. كما هوجم مقرّا “النافي” بشارعي الجزائر، والاستقلال، بل تعدى الأمر إلى مظاهر شغب مضادة للحكومة الليبية تمثلث في إحراق ناقلة جنود أمام المسرح الشعبي وسينما الحرية بشارع 23 يوليو، بل صعد بعض المتظاهرين إلى سطح القنصلية الأميركية بعد أن أنزل الحرس العلم الأميركي ورفعوا علم فلسطين كما رفعوا علم مصر فوق مبني السفارة البريطانية الملاصق للإذاعة.
في طرابلس يُقصر أمين بشير المرغني، في شهادته بموقع “ليبيا المستقبل” مشاهد العُنف الجسدي في حادثة واحدة ضد عائلة يهودية قتل أفرادها ضابط ليبي مختل عقلياً كان صديقا لهم. المقتولون ستة من عائلة رافئيل الفلاح خال رافئيل لوزون المذكور، وقاتلهم ضابط في الجيش الليبي هو أحمد القريتلي، نال عقوبة السجن، ولكن سجناء معتقل أبوسليم يوردون أسم آمر السجن (عامر المسلاتي)، ضابط شرف ترّقى إلى رتبة عقيد، سجن في العهد الملكي هو الآخر بتهمة قتل عائلة يهودية وسرقة أموالها سنة 1967، ولكن اعتدءات ربما لم تصل إلى درجة القتل سمعنا بها، شملت يهوداً، وقفت شخصياً على أحدها مساء 5 يونيو وكنتُ خارجاً من سينما الـ A.B.C بشارع ماكينة، حيث حطم في مرورهم متظاهرون رعاع زجاج حانة يهودي مقابلة للسينما، ولحق بهم واحدٌ تخلّف عنهم هوى بلوح زجاج على رأس اليهودي فأدماه فتحلقت زوجته وبناته حوله يصرخن من الفزع وكان ذلك صيف يوم عطلة أحد حيث خلا الشارع من المارّة. أمّا إحراق محلاّت اليهود من متاجر، ومغازات بيع الجُملة، وعمائر فقد تابعتها على درّاجتي مرفوقاً بجاري الذي كان يكبرني ـ وقد أوقف بعد ذلك لأيام في السجن ـ من الأحياء اليهودية التي تمتد من شارعي هايتي، و24 ديسمبر ضامّة الكنيس اليهودي، وسينما ريكس التي أحرقت، حتى متاجرهم في شارع حسونة باشا، ممتدة عبر شارع عمر المختار وصولاً إلى شارع المعري والملاحظ أن البوليس كان يشاهد ولايفعل شيئاً، فقط تسهيل مهمة رجال المطافي.
من الغرابة رغم توّترات السياسة بين العرب ودولة إسرائيل، أن تسود من حدث 1948 إلى حدث 1967 بين الليبيين ومواطنيهم من اليهود صلات إنسانية ومواطنية، بل مشاعر نسيان للحقد والكراهية الطارئة من الجانبين، ففي عام 1964 شارك رجل أعمال يهودي طرابلسي أبي في شاحنة عمل أبي عليها سائقاً إلى جانب حصّته فيها، لنقل احتياجات شركات النفط في الحقول الصحراوية جنوب ليبيا، لازالت صورة الشريك اليهودي تحضر في ذهني الطفولي وكان رجلاً وقوراً أنيقاً يسوق سيارة نوع “جغوار” بيضاء، يزور أبي ونضيّفه على قهوة في بيتنا القديم بطرابلس، هذه الصورة الأنيقة المتحضرّة ستكون المنهية لهذا المقال، وربما تفتح الصفحة لمقالات تثقيفيّة قادمة في موضوعة اليهود الليبين.