من أعمال الفنان محمد الشريف.
تراث

الزبدة وبلاد الغوال.. خُرافة ليبية

اخترعت قديماً الأمهات والجدات طريقة جميلة لتعليم الأبناء منذ نعومة أظفارهم الدروس ولكي يميزوا بين الخير والشر والمقبول وغير المقبول في الحياة، ربما الأمر يعود لمرجعية دينية والترغيب ثم الترهيب لقبول الأشياء، وتمثلت هذه الطريقة في الحكايات أو الخُرافة، التي كانت لها طقوس معينة في العادة والتي قد تتشابه في كل المدن والقرى والأرياف الليبية.

ومن هذه الطقوس أن يجتمع الأبناء أو الأحفاد حول الجدة في العادة قبل النوم وتحكي لهم الحكاية، التي يبدأ خلال السرد صراع داخل الأطفال للتغلب على النعاس وتحدٍ وإصرار للاستماع حتى النهاية، حتى وإن غلبهم ملك النوم ناموا وهم يحلمون بالتفاصيل الصغيرة وحياة الإنس وملك الجان والقصور والضياع والطيبة واللؤم والشر والخير الذي ولابد أن ينتصر مهما طال الظلم، وخرافتنا اليوم عن «بلاد الغوال».

كان يا ما كان في قديم الزمان سيدة لم يرزقها الله بالأبناء رغم أنه منَّ عليها بنعمة المال الذي يغطي عين الشمس من كثرته كما يقول الجيران، وكان يسكن في البيت المجاور لبيتهم أخو زوجها، الذي كانت تتفاخر زوجته بأن بيتها عامر بالبنين والبنات.

كانت السيدة العاقر ولتملأ وقتها وتؤنس وحدتها بدأت بحلب غنماتها و«مخض» حليبها لتصنع منه الزبدة واللبن وتبيعهم للناس بأسعار رمزية.

كل ليلة كانت وهي تمخض اللبن تبكي وتدعي الله أن يرزقها بطفلة أو طفل يؤنس وحدتها ويكون لها عكازًا تتكئ عليه في آخر عمرها، غفت ذات يوم ودموعها على خدها ومستمرة في الدعاء وحين استيقظت وجدت إلى جانبها طفلة صغيرة مصنوعة من الزبدة لها جمال لا يوصف، وعندما سألتها السيدة من أنت؟ أجابت الطفلة قائلة: أنا من اليوم ابنتك أؤنس وحدتك.

فرحت السيدة بالطفلة جداً وأوصتها ألا تخرج للشمس مهما كانت الأسباب خوفاً عليها من الذوبان، وفعلاً مرت الأيام وكانت السيدة فرحة بطفلتها الصغيرة حتى جاء يوم من الأيام حضرت لنزلها جارتها، التي هي زوجة أخي زوجها، أي سلفتها، واستغربت وجود الفتاة ومدى جمالها وعندما سألت عنها ولماذا لا تخرج للعب مع الأطفال في الشارع حكت لها السيدة الطيبة بفرح شديد عن سر الفتاة وكيف أنها مصنوعة من الزبدة، فخافت السلفة من أن تموت جارتها وتؤول كل الأمول لهذه الفتاة، وهي التي كانت تضع نصب عينيها أن يرجع كل العز لأولادها وبناتها من ثروة عمهم الذي لا ينجب.

ففكرت في خطة شريرة قررت تنفيذها مع أول فرصة سانحة وانتظرت اليوم الذي تخرج فيه السيدة الطيبة إلى السوق لتبيع الزبدة وأمرت أولادها الصغار بالذهاب لبيت عمهم وإقناع الفتاة الصغيرة بكل الطرق للخروج واللعب معهم في الشارع وكان لها ما أرادت.

وبعد وقت ليس بالطويل على لعب الفتاة تحت الشمس متناسية نصيحة والدتها ذابت على الأرض ولم يعد لها وجود، عند رجوع السيدة الطيبة للبيت واكتشافها ما حدث جُنَّت وصارت تصيح وتجري بلا هدى ودونما أي هدف حتى أرهقها البكاء وهدها التعب والإعياء فاستندت إلى جذع شجرة ونامت، لتصحو متفاجئة بأنها في بلاد الغيلان، الذين أخذوها أسيرة وخاطبها ملكهم قائلاً: لن نقتلك بل سنكلفك بالعديد من الأعمال .

فمنذ اليوم ستأخذين كل صباح الأبقار والإبل والأغنام لتشرب من النهر القريب وتأكل وتتغذى من خيرات الأرض، وعند المساء تعيدينها للمنزل وتنظيفين لها وتطهين لنا الطعام تم تقوميين بفلي شعر كل غول على حدة من القمل والصيبان دون كلل ولا ملل حتى يأمروكِ هم بالتوقف، فوافقت السيدة على مضض دون أي تفكير وبلا اعتراض.

وهكذا بدأت تمر الأيام يوماً بعد يوم وهي تنفذ ما طلبه منها ملك الغيلان بل وتتطوع من ذاتها لإنجاز بعض الأعمال الأخرى وبعد انقضاء مدة، لم تعد تعرف السيدة هي أيام أو أسابيع أو شهور على تواجدها في مملكة الغيلان، طلبها ملكهم للمثول بين يديه، وعندما حضرت خاطبها قائلاً: عندما وجدناكِ في بلادنا منذ شهور مضت وكلفناك بأعمال تعجيزية كنا نتوقع بأنكِ لن تتقنيها وبأنكِ ستعلنين تدمرك منها وتقززك من بعضها وتعلنين رفضك للعمل.

فبهذا ستعطيننا ذريعة لأكلك بعيداً عن الاتفاقية بيننا وبين البشر، القاضية باحترام حسن المعشر والجوار طالما لم يتم التعدي علينا، ولكنك خيبتي كل توقعاتنا وعملتي بكل نية صافية واحترمت الصغير قبل الكبير ولم تشتكي من التعب أو الظلم؛ لهذا قررنا أن نعيدك لأهلك ومدينتك ونهديك بنين وبنات ليكونوا أولادك ويعينوكِ على الدهر ومصاعبه، تصطحبك قافلة من الجِمال والأبقار والخراف والحمير المحملة بالذهب والمال والفضة واللؤلؤ والمرجان والياقوت كتعبير عن امتناننا واحترامنا لكِ.

ومع أول خيوط للفجر كانت السيدة تشد الرحال عودة لبيتها محملة بكل ما وعدها به ملك الغيلان، وعند وصولها لبيتها لاحظت جارتها التي هي سلفتها زوجة أخي زوجها كل الخيرات التي عادت محملة بها فسألتها عن مصدرها فأخبرتها السيدة الطيبة بكل صدق عن ما حدث لها من يوم ذابت ابنتها من شدة الشمس وحتى وصولها لأرض الغيلان والهدايا التي منحوها إياها ورجعت محملة بها اليوم.

فقالت السلفة الشريرة في سرها إنها ليست أفضل مني في شيء وأنا مَن أستحق هؤلاء البنات الجميلة والشباب الأقوياء ليكونوا أولادًا لي بدل أولادي الأغبياء، وأنا من استحق كل هذا الذهب والفضة والياقوت واللؤلؤ والمرجان والخيول والجِمال والخراف لا هي، فما كان منها إلا أن قتلت أبناؤها وأحرقت بيتها وسممت مواشيها وخرجت تبكي وتصيح وتركض حتى وصلت الغابة التي وصفتها لها سلفتها واختارت جذع شجرة قريبًا منها ونامت من التعب حتى صحت والغيلان تحيط بها من كل جانب .

واقتادوها إلى ملكهم الذي أعاد على مسامعها ما كان قد قاله سابقاً لسلفتها فوافقت فوراً والطمع يتطاير من عينيها وهي تمني النفس بكل ما سوف تعود محمله به من خيرات.

وفجر أول يوم لها في بلاد «الغوال» ذهبت لتسقي الماشية من أبقار وإبل وخراف ولأن النهر كان بعيدًا قررت سقايتهم من بئر قريبة فكانت تنزل الدلو وتخرج به بعض الماء الذي لم يكن يكفي الجميع وبشح شديد كانت توزعه بينهم، ولأنها لم ترد الذهاب لأماكن الرعي خوفاً من شدة الشمس كانت لا تطعمهم إلا بعضًا من العشب والحشائش التي كانت متوافرة في طريق عودتها، ولم تكن تنظف لهم الحظائر وتعتبر هذا عمل الخدم لا هي، ولأن عدد الغيلان كثير وكان طبخها قليل لم يكفهم ما تقدمه لهم من طعام .

وعندما يطلبون منها أن تفلي لهم الشعر الذي يغطي أجسادهم ىالقمل والصيبان كانت تتقزز وتركض للخارج، بعد أيام قليلة استدعاها ملك الغيلان ففرحت وطار عقلها من السعادة وكانت في طريقها إليه تمني النفس بما سيمنحها إياه من خيرات وأموال وأبناء أقوياء، مع أنها استغربت أن يتم مكافأتها خلال هذا الوقت القصير، وعند لقائها بملك الغيلان منحها ثلاث تمرات وأخبرها بأن تشق كل منها على حدة وطلب منها المغادرة مع أول خيوط فجر اليوم التالي.

فاستغربت وقالت في نفسها طالمة هي بلاد الغيلان بالتأكيد هذه التمرات سحرية ولو شقت كل منها على اثنتين ستخرج لها منها كنوز الذهب والمال والماشية والأبناء.. لمَ لا فهذه بلاد السحر التي يجوز فيها كل شيء بعيدًا عن التفكير المنطقي للعقل؟!.

ومع أول شروق للشمس وحين بدأت خيوط الصباح تداعب سكون الليل وتنير السماء خرجت نحو طريق بيتها مسرعة ولم يطقها صبر لتنتظر لترى ما الذي داخل التمرات فبدأت بفتحها تباعاً وهي تقول لنفسها إنها ستعود وتكون أغنى الأغنياء حتى يحسدها كل أهل مدينتها التي ستحكمها بأموالها وخيولها وإبلها وبعيرها ومالها، وحين شقت الثمرة الأولى امتلأت الأرض المحيطة بها بالديدان، فخافت ورمتها .

فتحت الثانية علها تجد فيها الخلاص فتحولت كل أشجار الغابة المحيطة بها لأشجار أشواك متشابكة غصونها وفروعها وكأنها سجن يأسرها بداخله كل عمرها المتبقي، فرمتها وشقت الثمرة الثالثة والأخيرة فخرجت لها عقارب وأفاعٍ، وسمعت صوت ملك الغيلان يحدثها دون أن تراه وهو يقول: أنتِ سيدة طماعة وغير أمينة على أي شيء وتنقضين العهد ولم تهتمِ إلا بنفسك فقد قتلتي أولادك وحرقتي بيتك وسممتي ماشيتك ولم تسقِ الحيوانات

واستكترتي عليها بعز العشب والماء حتى مات أغلبها من الجوع والعطش وجاع الغيلان خاصة الصغيرة منها لأنك لم تعدِ لهم طعامًا يكفيهم ولم تقومي بفلي شعرهم حتى إن القمل تمكن منهم وأرهقهم ولم تعامليهم بأي نوع من اللطف واللين، فلهذا منحتكِ ما تستحقين والجزاء من جنس العمل، لهذا ستبقين حتى تموتي وسط غابة الأشواك تحيط بك العقارب والأفاعي والديدان من كل مكان حتى تموتي وحيدة من الخوف والعطش والجوع .

وتوتة توتة كملت الحدوتة التي حملت في أحداثها عدة دروس مستفادة للصغار عن أهمية الطيبة والقناعة والإبتعاد عم الطمع والصبر واحترام الكلمة وتقبل الآخر حتى وإن كان يختلف عنا من حيث الشكل والنوع والجنس واللون وتقدير جميع الكائنات التي خلقها الله على وجه الأرض.

___________

نشر بموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

الأمثال الشعبية ودورها في الثقافة التباوية

المشرف العام

الأملاح

المشرف العام

طرح اسكمبيل

ميلاد عمر المزوغي

اترك تعليق