لم يحاول النوم بعد صلاة الفجر، ظل يترقب شروق الشمس، لينهي صيامه المستمر منذ يومين، مع إنكسارات الأولى للعتمة وتلون السماء بالرمادي الهادئ، بدأ بإعداد نفسه للخروج، أغلق المذياع الذي استمع إليه طوال اليومين الماضيين، أعاد مجلدات التاريخ التي لا يفتحها إلا ليلاً فيما العتمة تحيط بالمكان والزمان، أعادها إلى أماكنها الخالية على الرف الخشبي المتهالك – بتقزز حضاري – ارتدى جلباباً رمادياً، وضع على رأسه قلنسوة بيضاء، وقد تسرب إلى جسده خيط نحيل ودافئ من الإيمان، فقفز قفزتين مرحتين شبابيتين لا تتناسبان مع سنه، برشاقة مدهشة حمل كيسه القماشي الفارغ – قام بخياطته بنفسه – من على الطاولة. كانتْ تغالبه رغبة شيطانية عندما خرج من البيت، وهو يعد نفسه بأرغفة شهية وساخنة من المخبز الذي يبعد عدة مربعات سكنية.
بالنسبة إليه، هذا بمثابة حدث كوني هائل، منذ مدة طويلة فقد شهيته للطعام. لم يعد يحس بالبهجة لأكل أي شيء، ظن بأن السبب يعود لتقدمه في السن، بأنه دائماً ممتلئ وإحساس بالشبع يُدمر حياته، ويجعل من جوفه مستقراً لبرودة مستنقعية مقززة، اثرتْ في مزاجه كثيراً، صار انطوائياً لا يستطيع تحمل حماقات الآخرين، وهو ما سماه أحد الأطباء النفسيين بالإكتئاب الحاد. أي كان ما يشعر به فهو يجعله غير راغب في التواصل السليم مع الآخرين، لسنوات ظل هادئاً، ضمن عمل روتيني بالغ الرتابة، إذ يعمل داخل دار الكتب الوطنية. عمل هلامي يسميه البعض بأرشيف الدوريات القديمة، تلك التي لا يبحث عنها أحد إلا نادراً، أغلب مجلداتها علا عليها الغبار في سماكة هائلة، يقبع وسط العتمة وتلك الكثافة الغبارية، مقلباً أفكاره السوداوية فيما يتناول وجبات ساخنة، بحسب الوقائع الآتية من الكافتريا، لكنها لا تنزل إلا باردة مثل الأسماك المجمدة إلى جوفه، فيسوء مزاجه أكثر.
حاول كثيراً التخلص من هذا المزاج، فالأدوية الي كان يتناولها لا تساعده، فهي تجعله أكثر برودة، لذا قرر أن يعتمد على نفسه، ألقى بها في المرحاض، شد السيفون، مستمعاً لصوت الدوامي وهو يبتلع كل آماله الخائبة. استمرتْ الحياة برتابتها المعتادة حتى فقد شهيته تماماً. لا يتذكر كم من الوقت ظل بلا طعام، عندما انهكه المشي في أحد الايام بالقرب من مخبز آلي وحديث، بعد أن ظل صائماً ليومين. رائحة الخبز الناضج بدتْ شهية للغاية، عندها فعل ما لم يتوقعه أبداً، اشترى عدة أرغفة، خمسة أرغفة ساخنة مثل خدود القرويات، التهمها على الطريق قبل أن يعود إلى بيته، التهم خمسة أرغفة وكان لا يزال جائعاًـ امتلئتْ عينيه بالدموع من شدة البهجة ومعدته بدأتْ تعمل وتصدر أصواتا مثل معدة القط، تحسن مزاجه فجأة، وأحس بالألوان المتراقصة تغزو عينيه وبدفعة تشبه المس الجنوني في كل أوصاله، رجع على إثره لشراء المزيد من الخبز الساخن.
لأيام عاد شاباً، صافح اناساً لم يصافحهم منذ سنوات، ألقى بنكات ناجحة عن حياته السابقة واحتضن في عتمة احدى ممرات، زميلته الشابة، لأنها بدتْ ناضجة مثل الخبز. اندهشتْ الفتاة واستسلمتْ لفيض الغامر لتوقه المفاجئ. خلال أيام من النكات الناجحة، أصلح ما أفسده مزاجه السيئ طوال سنين. بدا له بأن الحياة تحسنتْ أخيراً، لكنه استيقظ في ذلك الصباح بمزاج ثقيل وبمعدة باردة مثل مستنقع راكد. أمعن النظر في السقف، لاحظ التقشرات النهمة، وهو أمر فعله لسنوات، تنفس بعمق مقرراً عدم الخروج من البيت، فهو يعرف علاج حالته القذرة، ظل يتجول كالشبح بين الغرف، كان يحمل أشياء ويضعها، يمعن النظر في صور العائلة، فتاتين تزوجتا وزوجة متوافاة، وابن لم يعد يزوره، كل شيء كان كما هو، كل شيء لم يكن كما هو، لكنه يعرف كيف يعالج هذا، يعرف جيداً كيف يكبح هذا المزاج الشيطاني، لم يأكل شيئاً ليومين متتاليين، وفي الصباح هيأ نفسه للخروج، وعلى مسافة مربع سكني من المخبز اشتم تلك الرائحة العظيمة، تحرك جسده بنشوة بالغة، مثل طفل أمام السيرك، اشترى عشرة أرغفة، عمداً أطال مدة شوقه، اشتم القطع الساخنة، لمسها بلسانه، قربها مجدداً من أنفه، اشتم عبق الحياة، مراراً، وقبل أن يشرع في قضمته الأولى، وفي اللحظة التي رفع عينيه إلى الأمام شاهد مسناً بائساً، جائعاً ينظر إليه بعينين غائرتين ومجنونتين، بوجنتين عظميتين وببشرة متسخة يغطيها بأسمال بالية، تطلع إليه بإمعان، إلى جلبابه الذي كان رمادياً في يوم ما، إلى قلنسوته البنية بسبب من الأوساخ، فوق رأسه، كانتْ بيضاء فيما سبق، تطلع إلى الكيس القذر في يديه، وتطلع إلى اليدين البشعتين. بالرغم من شعوره بأنه وجه مألوف إلا إن رعباً بارداً اجتاح قلبه، ومع ارتعاش جسده، عرض الخبز على المسن – الذي يكاد يموت جوعاً – عندها وبحركة مترفعة من يده مثل من يبعد الذباب، رفض المسن الجائع، الخبز الساخن. إني صائم. هذا ما سمعه بوضوح فيما عبر المسن الجائع بالقرب منه، دون أن يُلاحظ شيئاً.