في صباح اليوم الثاني نهضَ العلماء جميعاً – بعدما ناموا بارتياح وعُمْقٍ جَدَّدَ حَيَوِيتَهُمْ – ثم اتجهوا – بعد تَناوُلِهُمْ طعام الإفطار – إلى الصَّالَةِ العليا حَيْثُ طاولة اجتماع أمس في الطابق الثاني المُطِلّ على حَدِيقَةِ بيتِ استضافتهم في “برلين” فجلسوا حول الطّاوِلَة البَيْضَاوِيَّة شِبْه المستديرة وحينئذٍ تَسَارَعَتْ الشَّغالاتُ الزِّنْجيّاتُ – بملابِسِهن البيضاء الناصِعَة – نحو العلماء وقَدَّمْنَ لهم القهوة الساخنة.
وفي هذه الأثناء دَقَ بندول ساعة الحائط عَشْرَ دَقَّاتٍ مُتَوالِيَةٍ ورَخِيمَة فَمالَ العالم الألماني “بُول غُوتِه” – وهو الذي رَسَا عليه دَوْرُ الضِّيَافَة – برأسِهِ الأصلع الأنيق على فِنْجانِهِ الخَزَفِي الكبير الذي يتصاعَدُ مِنْهُ بخارُ القهوة الساخنة وقال بصوتٍ مرتفعٍ يَنْضَحُ بِالدَّماثَةِ وهو ينظرُ نظرةً ثَابِتَةً إلى الفِنْجان:
- إنِّي أُرْسِلُ إليكم تحيةَ الصَّباح، وإنَّه لشرفٌ عظيمٌ لألمانيا المُوَحَّدَةِ أنْ يَلْتَقي فيها هذا اللَّفِيفُ الهامّ مِنْ عُلماء العَالَم.
فَتَبَسَّمَ الحاضرون إعْرابَاً عن شُكْرِهُم وَهُمْ يَرْمُقُونَهُ بهدوء.
ثُمَّ استأنف “غُوتِه” كَلامَهُ قائلاً بِنَبراتٍ مُغايِرَةٍ بَعْدَما رَفَعَ رَأسَهُ المائل نحو فِنْجانِ القَهْوَة:
- لقد قُمْتُ مع الشَّغَّال النُوبِي بِتَهْوِيَةِ هذه القاعة باكراً ثم أغلقنا جميع النوافذ المُطِلَّة على الحديقة رَغْمَ أنَّ اليَوْمَ مُشْمِس كالبَارِحَة لَكِنَّني مُرَاعَاةً لملاحظاتِ الدكتور” دِيْمِتْرِيُوسْ هَارْمَاخِيسْ” التي قَالَها لي أَمْس قمتُ بالإغلاق وَجَعَلْنَا مُكَيِّفَ الهواء يَسْرِي مِنْهُ بلا تيار دِفَءٌ قليل جداً حِرْصاً على الصِّحَة.
فَشَكَرَهُ الدكتور “دِيْمِتْرِيُوسْ ” ، واستمر “بُولْ غُوْتِه ” في حَدِيثِهِ يقول:
- اتفقنا أَمْس على أنْ أُواصِلَ حَدِيْثي عَنْ تاريخ الإنسانيَّة بعدما تناولتُ بإيجازٍ أحداثَ الحربِ العالمية الثانية والرّايخِسْتَاغ الهِتْلَرِيّ وحُكْمَ الفاشيين في روما والمستعمرات بقيادة زَعِيمِهُمْ “موسوليني” ، واستكمالا لذلك – فَوْرَ إذْنِكُمْ لي بالمُواصِلَةِ – سأستعرضُ بإيجاز سُلُوكَ الطَّرَفِ الثالث في مِيثاقِ المِحْوَر، وستكون الحرب العالمية الثانية بالضرورة إطاراً للحديث. وقد كان بَوِدِّي أنْ أَتَحَدَّثَ إليكم عن الحرب العالمية الثانية بِلُغَتِي الألمانية إلاَّ أنَّ ذلك غَيْرُ مُمْكِن إطلاقاً لأنَّ بعضَ السَّادَةِ الحاضرين لَيْسَ مُلِمَّاً باللُّغَةِ الألمانية ، ولأنَّنا جميعاً نُجيْدُ إجَادَةً فَائِقَةً اللُّغَةَ الإنجليزية التي نتحدَّثُ بها الآن ونتحدَّثُ بها في كلّ مُناقَشَاتِنا ليس فقط لِكَوْنِ اللُّغة الإنجليزية عالمية مِثْلَ لُغاتِكُمْ الوَطَنِيّة بل لأنَّها وِعاءٌ عجيبٌ يَتَّسِعُ باستمرار في كلّ لحظة ويفيض كمصدر للعِلْمِ والتكنولوجيا والمُصْطَلَح.
وانبرى له العالم البريطاني ” وِيلْيَامْ أُوْدِنْ” قائلاً بامتنان :
- إنَّ كَلامَكَ رائع ، وإنَّنِي فَخُورٌ بِه!
فقالَ العَالِمُ الأمريكي بعدما ارتشف قليلاً مِنْ قهوته الساخنة جداً:
- لكنْ ياد كتور ” أُودِنْ” إنَّ إشَارَةَ العَالِم “غُوْتِه” إلى العِلْمِ والتكنولوجيا والمُصطَلَح لم يَقْصُدْ بها بريطانيا رَغَمَ أنْها بَلَدٌ صِناعِيٌّ رَائِد، وحَامِلٌ لمشاعِلِ النَّهضة إنَّما استجابة لِحَقَائِقِ العَصْرِ الحديث فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية هي المصدر الأول للفَيْضِ العِلْمِي.
فَأَطْرَقَ “بُولْ غُوتِه” برأسه عِدَّةَ مَرَّات تَدُلُّ على مُوافَقتِهِ على تَفْسِيرِ العالم الأمريكي لكلامه.
وما أنْ فَرَغَ العَالِمُ الأمريكي مِنْ تَعْقِيبِهِ بادَرَهُ العالِمُ الصيني قائلاً:
- لا تَنْسَ أنَّ الصين أيضاً هي مصدرٌ مُهِمٌ للعِلْمِ والتكنولوجيا والحَدَاثَةِ حتى في قديم الأَزْمِنَة وأَنَّ روسيا – سَواءَ في العصر السُّوفْيِتِّي أو عصر دول الرابطة -هي مَصْدَرٌ عِمْلاق بل تتفوَّق في فُرُوعٍ مُحَدَّدَة من العِلْمِ على الآخرين.
فأجابه العَالِمُ الأمريكي بقولِه:
- قد يكون هذا صحيحاً ، وهو – في كلّ الأحوال والمَصادِر – لصالحِ الإنسانية !
وآنَئذٍ قال الدكتور “ديمتريوس”:
- يمكنُ إضَافَة اليونان كمصدرٍ قديمٍ للعلوم والتكنولوجيا والفكرِ النَّظَرِي. وأنا أعرفُ اللُّغة اليونانية القديمة واللُّغات المَصْريَّة في دُهُورِ الفراعنة مِثْلَما أَعْرفُ اللُّغة العربية معرفةً كامِلَة وكذلك اللُّغات العالميَّة الأخرى.
قال العالِمُ الأمريكي:
- إنِّني أرْغَبُ في مَزِيدٍ مِنَ القهوة..
فأجابه “غُوتِه” سريعاً :
- ستكون أمامَكُمْ القهوة السَّاخِنَة في التَّوّ.
ثم التفت العَالِمُ الأمريكي إلى ” ديمتريوس” مُواصِلاً حَدِيثَهُ يقول :
- وأيضاً أنا يا دكتور ” ديمتريوس” أعرفُ اللُّغة العربية إضافة إلى لُغَتِي الإنجليزية الوَطَنِيَّة باعتباري مُواطِناً أمريكياً وأُجِيدُ – عِلاوة على ذلك – اللُّغَةَ العِبْرانِيَّةَ الحديثة.
وقالت ” إنْجِي شَبْرِيسْ ” والشَّغَّالات يُقَدِّمْنَ المزيد من القهوة للجميع :
- وبدوري فأنا أُجِيدُ كَمَصْرِيَّة اللُّغة العربية إجادةً كاملة وأعرفُ جيداً اللُّغة القِبْطِيَّة كَجُزْءٍ مِنَ الثقافة المَسِيحِيَّة فيه وكذلك أجدادي.
وعِنْدَ هذا الحَدّ مِنَ الآراء جَلْجَلَ صوتُ العَالِمُ الروسي قائلاً :
- اسمحوا لي بالقول إنِّني أَرَى بعدما فَكَّرْتُ بتركيز أنَّنا نَتَحَدَّرُ إلى وَهْدَةِ الشوفينية حيث التعصب والانحياز والفخر باللغة أو غيرها وحيث القطعية المؤسفة لمناهج العلوم .
فاعترض العالِمُ الأمريكي قائلاً:
- أرجو ألاَّ تَرَانَا وكأنَّنا على حَافَةِ هَاوِيَة، والحاضرون تَحَدَّثَ بَعْضُهُمْ عن اللُّغاتِ لا أَكْثَر. وهم يعرفون معرفةً يَقِينِيَّة أنَّه مِنَ المستحيل تناول العلوم بمنظارِ انحياز شِيفُوْنِي. وأخيراً أَطْلُبُ مِنْ حضراتكم إعطاء الفُرْصَة للعَالِم ” بُولْ غُوتِه” ليحدِّثنا عن اليابانيين والحرب العالمية الثانية وِفْقَ الاتفاق السَّابِق.
وطَفِقَ ” بُولْ غُوتِه ” يَتَحَدَّثُ بصوتٍ رَنَّان :
- في 27 سبتمبر سنة 1940م أذاعوا رسمياً في “برلين” و”روما” و”طوكيو” نَصَّ الميثاق الثُلاثِي الذي تعهَّدت بِمُوجَبِهِ الدُّوَلُ الثلاث بالتَّعاضُدِ وبِدَعْمِ كلّ منها لزَمِيلِهِ دَعْماً شامِلاً لمُدَّةِ عَشْرِ سنوات. وبعد ذلك بشهرين فقط شَرَعَتْ اليابان في العُدْوانِ على الولاياتِ المتَّحِدَةِ الأمريكيَّةِ وبريطانيا حَيْثُ دَمَّرَت تَدْمِيراً تامّاً الإسطولَ الحَرْبِي الأمريكي في ” الباسْفِيك” بتاريخ 7 ديسمبر سنة 1941م في موقعة ” بِيرلْ هارْبُورْ” الشهيرة. وفي اليوم التّالي للعدوان أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 8 ديسمبر 1941م أنَّها في حالةِ حربٍ مع اليابان. وإثْرَ ذلك أعلنت ألمانيا وإيطاليا تأييدَهُما لليابان بمقتضى مِيثاق سبتمبر الثُّلاثي فصارَ واضِحاً لكلِ العالمَ النَّوايا العُدْوانِيَّة للنازيين والفاشيين والمستعمرين اليابانيين بإعلانِهُمْ الحربَ ضِدَ أميركا. وجَرَى في تلك الفترة اتصال بين العالِم الفيزيائي الكبير” ألْبِرتْ إينِشتاينْ” وبين الرئيس الأمريكي “رُوزْفِلْتْ”. ومعلوم أنَّ ” إينشتاين” – وهو مِنْ أَصْلٍ يهوديّ- غادَرَ ألمانيا بعد استيلاء “هتلر” على مَقالِيدِ الحُكْم تَجَنُّباً لِبَطْشِه وأَقامَ في نيويورك. ونَتَجَ مِنَ اتصال “إينشتاين” بـ ” روزفلت” أَنْ تَوَصَّلَ ” إينشتاين” إلى اختراع القُنْبُلةِ الذَّرِّيَّة، وعاونه في عملياتِ إعْدادِها في صحراءِ “نيفادا” الأمريكية علَماءٌ أمريكيون وبريطانيون، وكذلك عاونه في إعْدادِ القنبلةِ الذريَّة العالم الإيطالي “فيرمى” المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية والمناضل ضد الفاشية. وفي ذلك الأوان الصَّعب زارَ “تشرشل” موسكو حَيْثُ ” الكِرِمْلِين” ونَسَّقَ معهم.
وسَكَتَ ” بُولْ غُوتِه” وهو يَجُسُّ بأطرافِ أصابِعِهِ جَوانِبَ الفِنْجان الخَزَفي وما لَبِثَ أنْ رَشَفَ فنجانَ قَهْوَتِهِ الفاتِرَةِ ثُمَّ استطرد حَدِيثَهُ قائلاً:
- في 6 أغسطس سنة 1945م تَمَّ ضرب مدينة “هِيرُوشِيما” اليابانيَّة ذَرِّيَّا لوجود مصانعِ السلاحِ والذخيرة فيها. وبعد يومين من تدمير ” هيروشيما ” أَعْلَنَ الاتحاد السوفيتي في 9 أغسطس سنة 1945م – في عَهْدِ ” جوزيف ستالين” – أنَّه يؤيِّدُ الولايات المتحدة الأمريكية وأنَّه يَقِفُ مُؤازِراً للحلفاء ضَدَّ المِحْوَر العدواني. وفي نفس اليوم أَسْقَطَ الجيشُ الأمريكي على مدينة “نَجازاكِي” اليابانيَّة – حَيْثُ مكامنِ الذَّخِيرَة – قُنْبُلةً ذَّرِّيَّة أخرى فأعلنت الحكومة اليابانيّة التسليم. واستطاع الجيشُ الأحمر والمقاتلون المدنيون الرُّوس صّدَّ العُدوان النازي بعدما أَسَرُوا وطَرَدوا قواتَ الاحتلال الهِتْلَرِيَّة من بَلَدِهُمْ، ولَقَىَ أكثر مِنْ سبعةٍ وعشرين مليوناً من الأبطال الروس – عسكريين ومقاتلين مدنيين ذُكُوراً وإناثاً – حَتْفَهُمْ أَثْناءَ دِفاعِهم عَنْ وطنهم ضِدَّ جحافل الغُزاةِ مِنَ الجيشِ النازي. ثُمَّ اتجه الجيشُ الأحمر مع جيوش الحلفاء نحو ألمانيا للقضاءِ على النازيةِ واجتثاثها. وانتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمةِ المحور وانتصار الحلفاء وتَرتِيبِ السَّاحات الخَلْفِيَّة للحرب العالمية الثانية بِما يَضْمَنُ حَقَ تَقْرِيرِ المَصيرِ لكلِ الشعوب الذي أعْلَنَهُ “روزفلت” واعتمده “ستالين” و”تشرشل” و”روزفلت” في مؤتمر “يَالْطا” المعروف ثُمَّ أحالوا نَتائجَ اتفاقهم إلى هيئة الأمم. وبذلك الانتصار تَسَنَّى للشعب الياباني التَّخَلُّصَ من المستعمرين اليابانيين الذين مَرَّغُوا سَلامَةَ وكَرَامَةَ الشعب الياباني في التُّراب وكأنَّ النّاس اليابانيين دَوابٌ للحُمُولَة، ومِثْلَما تَسَنىَّ للشعب الألماني التَّخَلُّصَ مِنَ النّازِيَّة التي جَلَبَتْ لَهُمْ الكَوارِث، ومِثْلَما تَسَنَّى للشعب الإيطالي التَّخَلُّصَ مِنْ “موسوليني” وعِصابَتِهِ الفاشية.
- وهكذا انتشر في أرجاءِ العالمَ – في تلك المرحلة من التاريخ الإنساني – السلامُ والحريةُ والاستقرار.
_________________
نشر بموقع الأيام