دِعْ عنكَ ما تعارف عليه الناسُ من تقسيم الزمن إلى ثوانٍ ودقائق وساعات وأيام وأسابيع وأشهر وفصول وسنين، لأن الزمن وإن أحسست بطعم مرارته في حلقك في هذه المرحلة العمرية من حياتك لا يأبه لحسابات البشر ولا لما تراكم نحوه في قلوبهم من مشاعر غامضة كنهر مستغرق في جريانه يمضي في حال سبيله غير ملتفت لما اصطف متراكماً على ضفتيه.
ودِعْ عنكَ ما علق في ذاكرتك من تفاصيل حكايات ماضٍ لم يبق لك منه سوى حسرات تحرق لحم قلبك، وحاول ما استطعت أن تركز على لحظتك الراهنة: انقسامك بين وطن يزداد احتراباً وانقساماً واغتراباً وابتعاداً ومنفى يزداد إيغالاً في سني عمرك والتصاقاً بعقلك وبروحك وارتباطاً أوثق بحياتك أو بما تبقى منها.
كُنْ ابن لحظتك الراهنة، وكل ما تشتهيه اللحظة هو أن تُتركَ كل فريسة لفداحة صمت يزدردك كما يشاء بنهم أو على مهل أو -وهذا خيار آخر أكثر واقعية- أن تتاح لك فرصة واحدة وأخيرة بأن تتمكن من المروق كجمل من سم خياط لتعود جرياً كجدي طري الذاكرة إلى مراعي طفولتك لتلحق بما تركتَ مكرهاً في انتظار عودتك من أحبة وذكريات!
أنت الآن وحيدٌ، مستلق على فراش في غرفة صغيرة تضيق ضجراً بك وبما تراكم حولك من كتب وجرائد وأوراق وغبار ذكريات في مدينة كبيرة مزدحمة ببشر من كل الألوان والأنفاس، في ركن من جهة ما من جهات عالم كهل مثلك متقلب وعكر المزاج. تنوس بضوء توقك للإشراق كقصيدة لم تكتمل، وتُركتْ بقصد أن تطيب في قِدر الزمن لتفرد جناحيها وتطير مع الهواء والريح والأحلام والحسرات والآلام حتى ينالها أخيراً تعبُ فتحط منهكة على أرض غريبة يمر بها عابرون مريبون ومستريبون مسرعو الخطى غير مبالين وبعيون تحدق في فراغ موحش.
دِعْ عنكَ ما علق في ذاكرتك من تفاصيل حكايات ماضٍ لم يبق لك منه سوى حسرات تحرق لحم قلبك
شتاء آخر أم أخير تراه بعينين متيقظتين قادماً على سكة طريق تقود إلى حيث سيلقي بثقل مرساته طيلة أشهر قادمة في مدينة يألفها وتعودته حتى اللامبالاة. كالعادة، سوف تَفْتّكُ قتامةُ غيومه من النهار إشراقةَ بسمته ومن الليل سحرَ تألق نجومه. كالعادة، سوف تُقَطّبْ ملامحُ الوجوه وتُغيّبْ اتقاءً من الصقيع والأمطار وتدفن اضطراراً تحت المظلات والقبعات والبرانس والشالات والمعاطف. كالعادة، سينكمش عشب الحدائق مقروراً، وتخلو مقاعد ومناضد المقاهي على الأرصفة من أحاديث وضحكات روادها. كالعادة، ستنكمش أنت أيضاً كحلزون وتعود إلى وحشة صَدَفتك. لكن الشتاء، كالعادة، سوف يأتيك ليطرق، مرة أخرى أو أخيرة، بعواصف ثلجه وعتم غيومه وأمطاره على هشاشة باب وشبابيك نوافذ عمرك: فمن سيعيركَ ما تسد به جوع روحك لصحبة دافئة تدثرك بأنسها؟
شتاء آخر أم أخير تراه بعينين متيقظتين قادماً على سكة طريق تقود إلى حيث سيلقي بثقل مرساته طيلة أشهر قادمة
لندن التي جئتها نافراً من قيودك، وخضتَ بأقدامك سنوات مديدة في شوارع أيامها ولياليها حتى ظننتها واهماً وطناً، تبين لك أنها بقدر ما احتملت وجودك، وتسامحت معه، وأتاحت فرصة أمام أوهامك وأحلامك وجنونك طوال سنين للانفلات بلا حدود لم تعرفكَ ولا تريدُ أن تعرف أحداً. وطرابلس التي أحببتها اختارت عن سبق إصرار وترصد ألاّ تبادلك حباً بحب، فلمن تبوح بما خبأت في حنايا قلبك من أشواق وأصدقاؤك أو بالأحرى من تبقى منهم توزعوا في أرجاء الدنيا هرباً من ضيق وطنهم ولم تعد تربطك بهم أو تشدهم إليك جسورُ؟
ما أشدَّ الوحدة في شتاء آخر أو أخير من شتاءات حياة قضيتها منقسماً موزعاً بين أوهام عديدة وحلم أن يكون لك وطن تلوذ كهولتك بصحوه ودفئه من عاديات الزمن!
وما أقسى أن تكون في آن معاً غريباً مرتين!