ادركت العبودية المحرّرة في آخر ثلاثة من رموزها في بلدتنا بجبل طرابلس الغربي، الذين كنّا نسبّق أسماءهم بكنية بابا ونمنحهم بعفوية موروثة ألقاباً تنسبهم إلى خير الأم وبركتها، وتذكار العبودية الآفلة، والبابوات الثلاثة هم عمرو بن بركة، وخير بن عبدو، وبلقاسم بن حواء، والأخير هو المُحرّر أبوه بعد زمن بعيد من المعاهدة الأوروبية المعقودة عام 1814 بإلغاء تجارة الرقيق وقبل عام 1906م بسنوات بعد صياغة عُصبة الأمم لمعاهدة “International Slavery Convention” ومحرّره جدّي الكبير سليمان الذي أشهره لقب النمر لأنه كان يدخل الغابة ببندقيته بوصوانة لصيد طائر الحبارى وحيداً دون رفيق.
لم ألتقط من مخيّلة طفولة بابا بلقاسم بن حواء صورة العبد الرقيق التي قرأت عن قساواتها وظلمها بمنهج المدرسة، وفي سيرة الصحابيين الجليلين بلال بن رباح ، وعمّار بن ياسر العنسي في حقبة الجاهلية العربية، وفيما قرأناه من سيرة الشاعر الجاهلي عنترة بن أبي عبس، بل مثّل لي صورة الإنسان الحُر الذي يذكر سادته الغابرين أجدادي الذين عاصرهم طفلاً كجدّي الأكبر صالح بحكايات مرحة غالباً، ماشدّت انتباهي على مائدة طعامنا التي كان يشاركنا فيها تقريبا مرة كل شهر في علاقة إنسانية، وجيرة حميمة في طرابلس، حيث سكن برّاكة هو وابنته المتزوّجة في قوربي براريك يختلط فيه السود والبيض، ملاصقا لحوش عربي ضرب باب قديم ومتهالك اكترى فيه عمّي صالح حجرة حتي آخر السنوات الستينية للقرن الـ20 في وقف بسانية قصودة المهملة بحيّ أبوهريدة في ضواحي مدينة طرابلس.
ذكرياتي عن بابا بلقاسم بن حواء هي مدخلي الشخصي للكلام في السياسة التي تكتبها الروايات لمناقشة موضوع رواية الكاتبة الليبية نجوى بن شتوان “زرايب العبيد” التي رُشّحت للبوكر العربية ضمن ست روايات فازت منها في255 أبريل 20177 بالجائزة رواية “موت صغير” للسعودي محمد علوان.
من له دراية بالأدب الليبي يعرف أن رواية الصادق النيهوم “من مكة إلى هنا” هي الرواية الأولى التي قذفت بالزنجي تمظهراً إنسانياً في الثقافة الليبية، في سياق المهمة الصراعية التي توّخاها كاتبها في سجالية فكرية مخيالية، اصطنعها النيهوم لمرّة واحدة، وتوّسع الكاتب نورالدين الماقنّي في رسم خطاطتها كنمط كتابة شامل، توجّه إلى التحرير من الآفاق الضيّقة، والأساليب المُكرّرة والبناءات الجامدة والثيمات المتداولة، المهيمنة وقتها على الكتابة العربية. ورغم توافقنا مع الماقني فإننا أعبنا على النيهوم وقت صدور روايته عام 1970اختصاره الزنجي المتمرد مسعود الطبّال، وامرأته المستلبة للسحر الأبيض التي لا اسم لها في الرواية كممثلين لشريحة اجتماعية وأنتربولوجية مغتربة واستخدامهما تفصيلاً هامشياً يخدم رؤاه الفكرية في نقد المجتمع، الذي تحكمه الخرافة وتهيمن في واحد من أنساق السلطة فيه طبقة الفقهاء العوام ومفردهم بالتعبير الليبي التقليلي الهجوي”الفقي” وتعني بتطرّف المشعوذ وبتطرّف أخفّ كاتب الأحجبة في دفع الغيرة والحسد، والوقاية من مصائد الحب. وكما بيّن الماقنّي، فقد أسهم النيهوم في فتح الآفاق أمام كتابة تسبح في فضاء الرمز، وتتواشج بالسخرية، وتتزيّن بالألفاظ المشبعة بالمدلالولات والإيحاءات وتتسلح بالمنطق المُحكم المتّسم بنفاذ البصيرة، ووجاهة المقاربات ومشاغبة المعارف، ورهافة المفاهيم وعذوبة الذائقة وسلاسة الأسلوب وبساطته، وبراعة إيجازه وإطراء الحديث بفكاهة تناول الموضوعات وتعريضها لتنوير النقد.
تدور “زرايب العبيد”، كما هو بادٍ من عنوانها، حول حياة عبيدٍ أو زنوج وسط زرائبهم نهايات العهد العثماني الثاني في ليبيا، وقبيل دخول الاستعمار الإيطالي. وتحكي الرواية تحديدًا قصّة تنسرب في محاور متعدّدة، أهمّها قصّة “عتيقه” التي تستعير من صفات الزنوج “العبيد” سمارها، ومن صفات البيض نسبياً لون عينيها اللوزيتين. فعتيقه هي نتاج علاقة محرّمة بين محمّد “السيّد” الأبيض وتعويضة “الخادمة” السوداء، تتنكّر لها عائلة محمّد لتُرمى عتيقه بعيدًا وسط العبيد الآخرين في الزرايب التي شملت في الحقبة الموميء لها، في الرواية ومابعد ذلك حتى 1974 وهو مالم تُشِر له الكاتبة سوداً وبيضاً.
لقد اشتممت من القصص التي نشرتها الكاتبة في موقعي “هنا صوتك” و”بوّابة الوسط” عامي 15.2016 أنها تقيم في إيطاليا، ومن مقابلة معها، عرفت أنها مبتعثة منذ عام 2009 من جامعة بنغازي الليبية لإعداد أطروحة علمية تستكمل بها دراستها العليا حول موضوعة تجارة الرقيق في ليبيا، إلا أن ما استوقفني قولها في حوار أجرته الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”معها، أقرّت فيه بأنّها لم تستند إلى مادّة تاريخيّة أو معلومات موثّقة في كتابة روايتها، عن حياة عبيد ليبيا الذين تناولتهم روايتها، وما وجدته هو ما أسعفها به الحظ، وصديق عثرت لديه على صورة التقطت للزرايب إبان دخول ايطاليا لليبيا واهتمامها بالمسح المعلوماتي عنها، وكانت محتويات الصورة فقيرة، ولا توجد بها تفاصيل، فما كان منها إلا أن وضعتها أمامها على شاشة حاسوبها، وطفقت تتأملها وتعبئها بالأشخاص المناسبين وبحكاياتهم. هكذا وببساطة غير مسؤولة، تحيك مكيدة لتتويه المنظمات الحقوقية الغربية، التي تعلم جيّدا كيف، وأين تصطاد التُهم وتمّد لسانها الساخر في وجه الروائي حائز نوبل غبرائيل غاراسيا ماركيز الذي كلّفته فنتزة “سيمون بوليفار” في روايته “الجنرال في متاهته” التي يضاهي حجمها “زرايب العبيد”حاوية من الوثائق جلبها من الأرشيفين الأسباني والأميركي بشماله وجنوبه ليرفد بها مخيّلات كتابه.
في مساهمات قرائية باعد بينها الزمن، غالباً ماهجوت واستشنعت النقد المضموني أو بالأحرى الموضوعاتي للنصوص الشعرية والمخيالية متبنيّاً قراءة بديلة بسؤال كيف يكتب الكاتب؟ عن سؤال: ماذا يكتب الكاتب، ولمن؟ أي القارئ الذي تفترضه الكاتبة نجوى بن شتوان إن توّخينا حُسن نيّتها، ونزّهناها عن غرضية، الفوز بالجائزة، أي جائزة والتي اصطنعت في روايتها زرايب العبيد محاولة تفكيك النظام الاجتماعيّ القائم في تصورها المُسقط على نهايات القرن 19، والممتد ربما حتى اليوم على ثنائيّة اللونين: الأبيض والأسود، معرّضة بمثالبه. لكنّها للمفارقة تنزلق في ذات الثنائيّة، حين تقدّم لنا شخصيّات إمّا خيّرة أو شريرة على الإطلاق بيضاء أو سوداء بالمحصّلة. وهو تقديم سيساهم بدون درايتها في حال تُرجمت روايتها وأنتشرت في لغة أوروبية في إثقال ملّف ليبيا التي تروج عنها تهمة أنها سوق العبودية المجددّة، فتضيع منّا وتغرق في بحر الظُلمات بإضافة إضبارة جديدة توصمها بخرق الحقوقية الإنسانية من نهايات القرن 19 ببصمة تُؤبّدها حتى اليوم مخروقةً بحبل ومسمار.
____________
نشر بموقع ليبيا المستقبل