فسانيا ــ (حوار: ليلى المغربي)
شاعر قادم من الصحراء الليبية، ترافقه طفولة باهتة بلا ألوان تماماً كطبيعة الجنوب، وخيبات ارتدت بدلة عسكرية، يحمل أمانيه وأحلامه في حقيبة موصدة بأقفال عديدة، وقصائد طرية ترعرعت في بهو الذاكرة، عشق الأدب العربي لغة وشعراً، رضخ لضغوط العائلة في اختيار مساره العلمي، ليقع في فخ الكلية العسكرية، فيما أسماها نكبة لدفعته بالثانوية العامة، ساقته الأقدار لمدينة سراييفو وسحرته فتيات البلقان، فنظم الشعر بلغتهم الصربوكرواتية، وكانت عزاء له لضياع أمنياته بدراسة الأدب، لتمر السنين أرقاماً دون حساب، سكنه الشعر وارتاح في مخيلته، واستكانت اللغة في قوافيه، فجاء ديوانه الأول “يسكنني” الذي حمل ظلال تساؤلات، وفيض من مشاعر انسانية صادقة، الحب والأمل، العتب والغضب، الكبرياء والغرور، الحزن والوجع، أظمته الدنيا فعاتبها بقصدة..
أظمتنيَ الدنيا كما أظمتكَ من
قَبْلي وأسقتنا الزّعافَ البلسما
لكِنّنا بالشّعرِ نسمو للعُلا
فنكادُ نقطُفُ بالقوافي المِرزَما
سِحرُ البيانِ فضيلةٌ وبدونها
يُمسي الغَنِيّ وذو الوجاهةِ مُعدَما
ويظلّ أغنى الأغنياء بِمنطقي
من يملِكُ القَولَ البليغَ المُحكَما
فالدّهرُ مِلكٌ لِلأُلى صنعوا بهِ
مجداً بما كتبوا وعِلماً قَيّما
يثير الأحاسيس الناعمة لدى القارئ لقصائده، ويداعب العيون والأذان والوجدان لأولئك الذين يمتلكون الحس الموسيقي واللغوي، لقلوب تتوق لتذوق الجمال، تتميز قصائده بعذوبة ورقة وغموض محبب يبعث النشوة في الأرواح، يوقظ الحواس بذاك التفاعل الغريب بين عناصر الطبيعة واللغة، يكتب الشعر إيحاءات.. إيماءات.. وتخيلات ترسم بالكلمات.. صور ومشاعر وتأملات.. ترافقها موسيقى عذبة داخلية تتخلل سيل الكلمات وانسيابها.. وحوار هادئ بين الشاعر وقصيدته.. فكل قصيدة هي مولود جميل يولد للتو.. ينتظر تعميده لينضم إلى فضاءات الأعمال الفنية الجميلة.. الشعر للعيون الجميلة.. ولابتسامات الأطفال.. ولألوان الطبيعة بأشكالها المتعددة.. الشعر للمعاناة.. للانتظار.. للموعد الذي نتعذب انتظاراً له.. وللشوق في القلوب العطشى..
يقال أن الشعر محاولة صادقة لسبر أغوار الروح، وكشف للأحلام والتعبير عنها، جاء ديوانه الثاني “قبضة من حلم” بعد أن حقق جزء من أحلامه، ابتعد فيه عن عالم الواقع و ذهب نحو الخيال الجميل، نحو عالم الأحلام و التأملات و تحقيق كل شيء في عالم اللا شيء، تلهمه الأماكن التي أحبها وخواطر و تأملات، الشعر متعددة، يكتب أحياناً من الواقع، من المشاهدات اليومية، من الناس والأشياء الجميلة وغير الجميلة، كتب للمرأة وعنها.. للأم.. للأخت.. للابنة.. للحبيبة.. غازل المرأة بعاطفة جياشة، بمحبة.. كتب للمرأة المتكبرة المستبدة.. كتب للأب والصديق.. ولم ينسى اللغة وجماليتها فغازلها كحبيبة غائبة مرة وحاضرة مرات.. ولأن المبدع يتصف بالنرجسية والغرور.. كتب عن نفسه.. قصائد ” عاصفة وسيد الدهشات ”
مقطع من قصيدة “عاصفة”
وأحارُ كيف يكونُ مجلِسُكمْ
من دونِ شِعري.. كيف؟..لا أدري
ومن الذي يُثْرِي قَصَائِدَكُمْ؟
ومن الذي يَسْرِي بما أسْرِي ؟
ومن الذي ـ إن لمْ أكنْ معكم ـ
يُذْكي جَمالَ الأوجُهِ السُّمْرِ
مقطع من قصيدة “سيد الدهشات”
افرِد جناحيك حلّـــــق في أعاليها
بئسَ السماءُ سماءٌ لم تكــــن فيها
افرِد جناحيك وامنح لونَ زُرقتِها
بُعــداً جديداً و معنىً في معانيـها
يا أنت يا سيّدَ الدهشاتِ يا أمــلاً
للحابسينَ دُمــوعاً في مآقيــــــها
للساكنينَ بلادَ الخـــوفِ تلعنُـهم
أيّامُها وليالي اليـــــأسِ تطويها
ولأن الشعر أقرب فنون الأدب للطبيعة الأم، شبهته مرة بشجرة البرتقال، تلك الشجرة الجميلة البراقة الكريمة المعطاء، وحبات البرتقال هي قصائده الشهية، قد تبدو متشابهة من حيث أنها قصائد بديعة، لكن كل قصيدة لها مذاقها ورونقها الخاص، حاضر دوماً في الأمسيات الشعرية، جماليات إلقاء القصائد مترفة بأناقة اللغة وعفوية الكلمة وعمق معانيها، يجذب الجمهور بصوته الرصين وحضوره القوي، ويتثر القصائد كأزهار ياسمين تعطر الأجواء.
الشاعر عمر عبدالدائم مواليد مدينة سبها في 18/3/1964م، درس فيها الابتدائي والإعدادي والثانوي، تفوق في الثانوية العامة القسم العلمي سنة 1981، وتم توجيه دفعته كاملة للكلية العسكرية، ليستقرّ به المقام في كُليّة الدفاع الجوي، ثُمّ أوفِد وبعض زملائه للدراسة في مدينة سراييفو بجمهورية البوسنة إحدى جمهوريات يوغسلافيا الاتحادية “سابقاً” وهناك أمضى ثلاث سنوات وأما السنة الرابعة في مدينة بلغراد بجمهورية صربيا، تخرّج سنة 1985م مُتَحصّلاً على بكالوريوس هندسة كهربائية من الأكاديميّة العسكرية للهندسة الجويّة، في مجال الأنظمة الدقيقة للصواريخ المضادة للطيران، عاد إلى ليبيا وتزوج وأنجب ستة أبناء أربعة بنات وولدين، انتسب لقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة سبها سنة 1992م و بعد سنتين وفي بداية السنة الجامعيّة الثالثة أكتُشِف الأمر من قِبل الاستخبارات فشُكّل له مجلس تحقيق وأوقِفت ترقيتيه، خرج من سبها محاولاً الانتساب سِرّاً لإحدى الجامعات فكانت الوجهة طرابلس، وبعد فشل محاولتان بسبب وضعه العسكري، انتسب للجامعة المفتوحة كصاحب عمل حُر، أكمل دراسة القانون في سنتين ونصف السنة 2010،ويوم تحصل على ليسانس القانون كتب لأصدقائه: اليوم أورَقَتْ نَبْتَةُ الإرادةِ في داخلي، اليوم خَطَوْتُ خُطوَةً نحو نفسي، اليوم أكملتُ دراسة الليسانس في القانون.
تقدم في 2014 لإكمال الدراسة العليا في مجال القانون الجنائي، وتحصل على درجة الماجستير من جامعة طرابلس في 2016، وكانت الرسالة بعنوان “الطعن في أحكام و قرارات المحكمة الجنائية الدولية”، وقد أجيزت الرسالة بدون ملاحظات مع التوصية بنشرها على حساب الجامعة، وهذه أعلى درجة تُمنح لرسائل الماجستير.
صدر ديوانه الأول ” يسكنني” في يناير 2014، عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني بليبيا، وكان أول توزيع له في معرض القاهرة للكتاب 2014، أما ديوانه الثاني ” قبضةٌ من حُلُم” تحت الطبع الآن في وزارة الثقافة والمجتمع المدني.
لديه بعض الكتابات الأخرى، في مجال الدراسات الأدبية، كقراءات لبعض الأعمال، كما كتبتُ في القانون وفي الشأن العام، نُشِرت قصائده وكتاباته في العديد من الصحف الليبية منها “ميادين”، “الكلمة”، “فسانيا”، “برنيق”، “الأحوال”، “نزوى” وغيرها، قدم استقالته من الجيش في 2016، يعمل حالياً كأستاذ جامعي متعاون في الجامعات الليبية، أسس “منتدى ألوان الثقافيّ” صحبة مجموعة من المهتمين بالشأن الثقافيّ في ليبيا.. وأقام المنتدى عدة نشاطات ثقافية، من أصبوحات وأمسيّات شعرية، ومحاضرات فكرية و ندوات أدبية، شارك في العديد من المناشط الثقافية لا سيما المهرجانات الشعرية داخل ليبيا، تحصل على عدة جوائز محلية كان أخرها جائزة “أوسكار ليبيا” للإبداع الشعري.
يصفه القاص عبدالرحمن جماعة بقوله” عندما تقرأ شعر عمر عبد الدائم عليك أن تستعد للنقلة التالية، النقلة التالية قد تكون من القسوة إلى الجمال، وقد تكون من الجمال إلى القسوة، عمر عبد الدائم الذي عاش حياة قاسية بين البداوة والعسكرية يقول شعراً أرق من شعر علي بن الجهم الذي قال:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
عمر عبد الدائم يصافحك بيد ضابط في الجيش، وينظر إليك بعين ناقد خبير، ويكلمك بلسان شاعر عاشق، عندما تلتقي عبد الدائم كن مستعداً للقاء عدة أشخاص في شخص واحد.
أما الشاعر محمد المزوغي يقول عن عبدالدائم” من الصعب وربما من الظلم، رسم شهادة في حق شاعر يتجاوز منجزه في كل قصيدة جديدة كعمر عبد الدائم، فهي لن تكون في أحسن أحوالها إلا وقفة على ضفاف ماكان، بينما الشاعر يقف دائما على ضفة ما، ستكون ضفة الحلم الذي يمد الشعراء بالحياة، عمر عبد الدائم شاعر أشبه بالطائر يمد جناحيه لتضم أكبر مساحة ممكنة من الوطن، قَلْبٌ يخفق بحب طرابلس، روح تحلق في الجنوب، عينان تمتدان في حُنوٍّ أشبه بالوله إلى بنغازي، وهو بهذا يستعصي على التصنيف، خارج الإطار الإنساني الذي يتجاوز الحدود الضيقة والمشاعر الصغيرة، والكلمات التي لا تتمرد على معانيها، يمارس طقوس العشق منذ اللحظة التي يصحو فيها، على إيقاع ابتسامة ساحرة لنور طفلته، التي يلملم في حقيبتها المدرسية كل أطفال الوطن، والتي منها ولأجلها ينطلق في محاولة تهزأ بالمستحيل، لإعادة صياغة الكون من أجل أن يكون مكانا أجمل للأطفال، إنها محاولة تشبه محاولة بروميثيوس لسرقة النار المقدسة، بين الطفولة والوطن يمد هذا الشاعر قامته الفارعة، لتكون أشبه بنخلة جنوبية تسّاقط رطبا جنيّا في أيدي أطفال ليبيا وفي سلال إنسانها، أو كمسلة فرعونية تشهر في وجه العالم، عراقتها وسحرها والدهشة التي ترتسم في العيون لمرأها، عمر عبد الدائم شاعر عاشق لا أقلّ ولا أكثر، يمكن أن يتأبط البحر ويخاصر الصحراء، ويمد يده بكل سهولة ليتناول القمر، ويطرز بحفنة من النجوم شعر معشوقته، التي هي حينا تكون ليبيا وحينا تكون كل ركن يحتفي بالإنسان وينحاز إليه في هذا الكون الفسيح.”
لا أقصد التأثير على القارئ بهذه المقدمة، بقدر الاقتراب من بوحه العذب، والتعريف بشاعر انسان كتب للوطن والانسان وبثهم جزء من روحه، ليبيا المستقبل تستضيف الشاعر عمر عبدالدائم في هذا البوح.
متى بدأت كتابة الشعر، وكيف اكتشفت هذه الموهبة لديك ؟
دائماً اقول إنه من الصعب على الإنسان أن يتذكر متى خطى أولى خطواته، أو متى نطق بأولى كلماته، ولذلك فإنه من الصعب على الشاعر أن يتذكر متى بدأ بالفعل في كتابة الشعر.. الشعر يسكننا منذ ولادتنا.. ينمو و يكبر معنا.. ولا نعلم تحديداً متى يخرج على هيئة قصائد..
لكن إذا كان ولابد من الإجابة فلعلي أقول أن القصائد المكتملة لغةً وشكلاً و صورةً بدأتُ أكتبها منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وتقريباً كانت أول قصيدةٍ ألقيها في مهرجان أقامته جامعة سبها في 1992، وكان عنوان القصيدة “صديقُ الليل” وهي ضمن مجموعتي الأولى “يسكنني”.
أما كيف اكتشفتُ موهبتي فلا أعرف صدقيني لأنني لم أكتشفها حتى اللحظة.
تقول أن طفولتك كانت باهتة لا ألوان فيها، هل لديك ذكريات قاسية من تلك المرحلة, أو ذكريات من الطفولة تركت أثراً في نفسك، وربما كانت دافعاً لتكتب الشعر?
عندما أقول طفولة باهتة بلا ألوان، فإنني أعني أن لا شيء فيها استثنائي.. أو مميز.. كنت كأطفال قريتي أو مدينتي.. وهذه نفسها مشكلة عندي حيث أن سبها (لا سيما وقت طفولتي) لا تعتبر مدينة بالمعنى الكامل للمدينة، ولا هي قرية بالمعنى الجميل للقرية، ولا هي واحة بمميزات الواحة.. إنما هي مزيج من كل ذلك..
أما ذكرياتي عن الطفولة فلا أجد فيها شيئاً يستحق التذكر والوقوف عنده باستثناء بعض المغامرات البريئة.
تعرضت لضغوط عائلية في اختيار مسارك العلمي والدراسي، وحين تحررت من تلك الضغوط.. ما الذي دعاك لدراسة القانون لا الأدب كما كنت تتمنى ؟
ليست ضغوطات مادية بقدر ماهي أدبية.. فقد كان معظم الناس ذلك الوقت ــ ولعل بعضهم للآن للأسف ــ ينظرون للعلوم التطبيقية باحترام أكبر من العلوم الإنسانية.. لستُ أعرف سبباً لذلك.. المهم تمشياً مع ذلك اقترحوا عليّ الدخول للقسم العلمي بدل الأدبي الذي أعتقد أن لو كنت دخلته لكان أثرى تجربتي الشعرية والأدبية عموماً.
أما اختياري لدراسة القانون فقد جاء متأخراً (سنة 2010).. وكان بسبب تساؤلات كثيرة تملأني عن إشكاليات قانونية لا مجال لذكرها.
تعتبر أن تنسيبك الاجباري للكلية العسكرية ثأراً شخصياً مع النظام السابق، لكن هذا التنسيب أفسح لك المجال للسفر والدراسة بصربيا، وكتابة الشعر بحسناواتها وبلغتهم.. هل فكرت بأن لها أوجه ايجابية وخاصة أن السفر والاختلاط بأنماط مختلفة من البشر يضيف للإنسان؟
التنسيب ظلمٌ كبير وقع بحقنا.. ظلمٌ عشناه عمراً بأكمله.. أن يتم تنسيبك لمؤسسة لا تشعر بانتمائك لها و تقضي بها 35 سنة.. و تخرج منها شبه محطم مادياً و معنوياً، في حين يكمل زملاؤك الذين كانوا معك في الثانوية العامة دراستهم (برغم مستواهم العلمي المتدني) فقط لأن لهم (واسطة) أنقذتهم من الدخول للجيش، ثم يكملون دراساتهم خارج البلاد ويعودوا أساتذة بمرتبات عالية.. ويتبجحون في جلساتهم بأن (الجيش حشيش و طيش) و(العسكري ربع دماغ) و (خوذي عسكري نين تلقي راجل ) و (فرس و طابت للملهاد **صغيرة وراجلها ف تشاد) وكل ذلك من الكلام المدمر للمعنويات و المحبِط … وأنت تعرف كل ذلك … كل ذلك أثّر بشكل أو بآخر على حالتي المعنوية ولعل من حسن حظي أن التأثير كان إيجابياً، فقد حاولت الانتساب للدراسة سراً بجامعة سبها (قسم اللغة العربية) وما أن أتممت السنة الأولى حتى اكتشف الأمر و اضطررت لإيقاف الدراسة.. وحين اتجهت للسكن في طرابلس كانت الدراسة من أولى اهتماماتي فدخلتُ الجامعة المفتوحة /قسم القانون سنة 2010 و أكملتُ الليسانس في 2012 و بتقدير جيد جداً يعني في فترة لم تتجاوز سنتين و نصف.. وأكملت دبلوم الدراسات العليا في القانون الجنائي في سنة واحدة 2014 و بتقدير جيد جداً أيضاً، ثم كتبت رسالة الماجستير في سنة واحدة 2015 وقد أجيزت مع التوصية بالنشر على حساب الجامعة وهي أعلى درجة تمنح، كل هذه الأزمان القياسيىة والدرجات العالية أردت فيها تأكيد ذاتي، و ربما الثأر لذلك الظلم الذي وقع عليّ بسبب التنسيب.
ولطالما كررتُ بيتاً للشاعر الرائع مفتاح العماري (وقد كان عسكرياً يوما ما) يقول فيه:
العسكري.. هو الكائن الوحيد الذي يحرس فاكهة غيره ….
بين قسوة حياة الضبابط في سلاح الدفاع الجوي و رهافة ورقة أحاسيس الشاعر.. ثنائية متناقضة.. كيف استطعت الجمع بينهما لسنوات طويلة قبل أن تتحرر من البدلة العسكرية؟
الحقيقة أن الشعر كان ــ ومازال ــ يسكنني، فقد كنتُ أتحين الفرص لإلقاء قصائدي في المهرجانات التي كانت تقام في جامعة سبها (برغم كون ذلك ممنوعاً بحكم القانون العسكري )، وتعاملتُ مع العسكريتارية باعتبارها قضاءً و قدراً، ولا حيلة لي فيها ولن أستطيع التخلص منها إلا بموتي، لهذه الدرجة كان الأمر موجعاً.. ولكني تماهيتُ معه كيفما كان..
داخل كل شاعر طفل ما، ينصت لسكناته وحركاته، هل الطفل في أعماقك مشاغب، أم مدلل؟
كلا الطفلين بداخلي.. المشاغب و المدلل، وفي كثيرٍ من الأحيان أشعر أن بداخلي طفلٌ لا يريد أن يكبر … ولعل قصيدتي (طفولة) تتحدث عن ذلك..
هل القصيدة حصن الشاعر الدائم يحتمي بها من مواجهة الحزن والغربة والحب، أم نافذة يطل منها على أشيائه السرية والحميمة؟
القصيدة عالم الشاعر.. حياته.. كونه الخاص به.. يخلقها.. يلونها بألوانه.. يشكلها كيفما أراد.. يرى فيها نفسه.. و يهرب إليها من عالمه الواقعي. القصيدة باختصار حياةٌ أخرى يعيشها الشاعر..
من أي نافذة تقبل على القصيدة حين تشرع بالكتابة؛ الطفولة.. الحنين.. الحب.. النسيان.. المرأة.. المكان.. الأم.. الدهشة.. الذكرى.. الوجع.. الأمل..؟
كل ما ذكرتِ نوافذي المشرعة على قصائدي.. وكلها شرفاتٌ تُطلّ على حديقتيّ البهجة.. و الشجن..
هل تؤمن بأن الشعر قادراً على تغيير العالم إلى ما هو أنقى وأصفى في ظل السلم والسلام بعيدًا عن الحروب وقتل الأبرياء والشيوخ والنساء والأطفال؟
نعم.. بكل تأكيد، هذه هي رسالة الشعر، والإبداع عموماً.. وهي الإنتصار للقيم الجمالية، القيم الإنسانية العليا في السلام و الحب و الحرية والعدل والمساواة … طريق الشعر ليس سهلاً و لكنه قادرٌ على الوصول..سأذكر لك موقفين استثنائيين في مسيرتي الشعرية جعلاني أكثر إيماناً بأن للشعر رسالة، وأن لكلماتي و قصائدي صداها.. وقد شعرتُ بفرح في هذين الموقفين لم أشعر به في حياتي.
الموقف الأول، نشرتُ ذات يوم قصيدةً صغيرة عنوانها (سنعبرُ) تقول:
سنعبُرُ..
يا ضفّةَ المستحيل
برغم الطريق الطويل.. الطويل
بآلامِنا
فوق أكتافنا
و لونُ العذاباتِ
جرحٌ يسيل
سنعبرُ
يا ضفةَ المستحيل
بأغنية الصبرِ فوقَ الشفاهْ
ومليون آهٍ
وآهٍ..
و آه
و وسط المعاناة حلمٍ.. جميل
سنعبرُ..
يا ضفةَ المستحيل
في اليوم التالي اتصلت بي صديقة وأخبرتني أنها كانت على وشك أن تقدم استقالتها من عملها بسبب إحباطها وعدم مقدرتها على الاستمرار، غير أن كلماتي في هذه القصيدة أعطتها دفعاً مبهراً، وجعلتها تلغي فكرة الاستقالة وتردد في نفسها بكل قوة.. سنعبر يا ضفة المستحيل.. تصوري..
الموقف الثاني وقد كان أكبر و أعظم، وقد حدث قبل بضعة أيام..
صديقة رائعة.. تعاني من مرض السرطان شفاها الله وعافاها، كتبت لي تقول بالحرف الواحد:
(أنت من يغزل الحروف سعادة للجميع.. ومن يمدني بالدعم المعنوي لأجل الحياة ويدفعني للأمام مؤمنة بأني سأنتصر على هذا العدو الشرس الذي ينهش جسدي)
فبالله عليك أي فرح لي اكثر من هذا، وأي رسالة تحققها قصائدي أجمل وأبهى وأروع وأكبر من هذه الرسالة؟
ما هي أولى قصائدك.. هل تذكرها؟
كما ذكرت آنفاً أعتبر قصيدة (صديق الليل) أول قصيدة مكتملة أكتبها، و ألقيها في حضرة أساتذة في جامعة سبها من كل من العراق و مصر و سوريا و السودان و لبنان و المغرب إضافةً لليبيا. وكان ذلك في مهرجان الحب و الجمال الذي أقامته جامعة سبها سنة 1992م.
هل أعطاك الشعر فرصة التأمل وتحقيق الذات التي ينشدها المبدع لينصت لعزلته وطفولته ومكائده وانتصاراته وخساراته وأحلامه وآلامه؟
مازلتُ أنشد أن يعطيني كل ذلك..
تقول دائماً القصيدة انثى، كيف تتجلّى صورة المرأة في قصائدك؟
نعم.. القصيدة أنثى، إنها لحظة دهشة، أو لعلها تفاحةٌ غير آثمة يوسوس لنا بقطفها جنونٌ لذيذ..القصيدة أنثى.. وكذلك الأرض و السماء، فماذا تبقى؟
كتبتُ للمرأة كثيراً، أحياناً أقصدها كامرأة.. وفي أحايين كثيرة أتخذها رمزاً..
كتبت لأمي.. كتبتُ لزوجتي.. كتبتُ لأختي، كتبتُ لابنتي، وفي كلهنّ كتبت لحبيبتي.
بين القصيدة والمرأة خيط غَوَايَةٍ، منذ عصر الجاهلية الأول، وحتى الشعر الحديث، كيف تفسر هذا التجاور والتحاور الغريب والغني في آنٍ معًا؟ ومن المستفيد أكثر.. المرأة أم القصيدة.. أم الشاعر ؟
لعلّ المستفيد الأكبر هو المتلقي، القارئ، أو المستمع، الذي يقول كلما سمع شعراً جميلاً.. لكأن الشاعر يتكلم بلساني …إن أجمل اللحظات في عمر الشاعر هي تلك التي يرى فيها قصائده تتجلى دهشةً في عيون متلقيها.
هل يخضع الشاعر بإرادته لسطوة القصائد.. أم أن تلك المشاعر التي تنتابه مثل القلق والكبرياء والبهجة” هي ما يؤسس علاقته بالحياة من خلال اللغة؟
هذا سؤال يتعلق بموضوع القصيدة.. القصيدة تُطرح كفكرة.. ثم تنضج كموضوع.. ثم تُلبس لباسها.. وأجمل القصائد هي تلك التي لا تعرف كيف تتحول من فكرة إلى موضوع إلى أن تلبسها لباسها..
بين السياسة والشعر علاقة قديمة، من يؤثر على الأخرى أكثر؟
يفترض أن الشاعر دائماً عدوّ السلطة.. أو هكذا يقولون.. لكن هناك شعراء بلاط، وهم برأيي ليسوا الأسوأ.. الأسوأ على الإطلاق هم أؤلئك الشعراء الذين تعطيهم السلطة ضوءً أخضر ليقولوا ما يريدون ليوهموا الآخرين بوجود حرية التعبير ,, إنهم الأراجوز الذي تحركه السلطة.. وللأسف يسقط الكثير من شعوب الشرق في هذا الفخ.
تمت ترجمة ديوانك الأخير “قبضة حلم” للغة الفرنسية، هل ترى أن ترجمة الشعر تؤثر على جماليات النص الأصلي، أم إضافة لغوية آخر للإبداع الإنساني؟
نعم تمت ترجمة مجموعتي الثانية (قبضة من حلم) للغة الفرنسية، ولستُ خائفاً على النص الأصلي من هذه الترجمة لثقتي الكاملة في المترجمة، فالدكتورة الشاعرة مريم البقالي من مدينة فاس بالمغرب الشقيق وهي علم من أعلام فاس، تكتب باللغتين العربية و الفرنسية ولها مؤلفات بكلتا اللغتين، وهي متخصصة في الأدب الفرنسي، إضافةً لكونها قانونية، وقد قامت بترجمة كتب من الفرنسية للعربية لعل آخرها كتاب (مأساة الفكر)، وقامت أخيراً كذلك بترجمة لديوان الشاعرة السورية غادة السمان إلى الفرنسية، والدكتورة مريم البقالي شاعرة أساساً وبالتالي فإن روح القصيدة لن تفلت منها..
أفتخر بأن صديقتي الرائعة مريم البقالي أهدت لي ترجمة كاملة لديواني (قبضةٌ من حلم)
تكتب قصائد بالشعر المحكي، فهل تعتبره لون سلس للتعبير عن بعض مشاعرك وأفكارك؟
أحياناً أحب أن أدندن بكلمات عامية.. فتأتي القصيدة المحكية أو الشعبية.. لكن لا أقدم نفسي كشاعر للمحكية وإن كان بعض الأصدقاء يحرضني على أن أفعل وأهتم بها..
يبتعد الكاتب عادة عن الناس ليتفرغ لإبداعه، هل العزلة ضرورية ومحرضة على الكتابة؟
أحب الوحدة بطبيعتي.. وأنا في وحدتي جمعٌ..
كيف هي طقوس الكتابة عندك زمانيًّا ومكانيًّا؟
لا طقوس.. أكتب كيفما جاءت في أي وقت وفي اي مكان.. فقط إذا أمسكت بالفكرة لأنها كثيراً ما تكون في عجلةٍ من أمرها..
يعاني المبدع في طباعة منجزه، وخاصة في ظل ما نعيشه اليوم من حرب وانهيار اقتصادي.. عل ترى أنه تقصير من دور النشر وخوف من المجازفة؟
الطباعة مأساةٌ حقيقية.. لا سيما في هذا الزمن الرديء.. فدور النشر تهتم بالكتابات التجارية و بالأسماء الكبيرة ولا تلقي بالاً للموضوع.. و يبقى المبدع وخاصةً من لم يسبق أن أصدر أو كان مغموراً يبقى فريسة لجشع الناشر أو البقاء في العتمة.
النقد يهدف لإضاءة العمل الإبداعي، كيف تنظر لغياب النقاد في مشهدنا الثقافي الراهن؟
باختصارٍ شديد النقد عندنا يتأرجح بين الإنتقاد الشخصي و المجاملة وكلا الأمرين يأتي على حساب الموضوع … الشخصنة تقتل الموضوعية.. والنقد متأخر كثيراً..
هل تتفق مع مقولة أن هناك علاقة وثيقة بين الإبداع والجنون؟
ههههه بل هو الجنون بعينه..
ما هو إحساسك بعد الانتهاء من كتابة قصيدة؟
إحساس الأب.. بأبوّةٍ جديدة..
كيف تنظر اليوم، إلى ذكرياتك القديمة الأولى مع أول قصيدة كتبتها أو نشرتها؟
كانت خطوة أولى جميلة.. سأذكرها ما حييت.. وكلما قطعت مسافات أطول.. ستظل في ذاكرتي كالفرحة الأولى.
كيف تختار عناوين قصائدك ؟
لا أقف كثيراً عند العنوان، على الرغم من أن هناك من يقول أن عنونة النص الشعري جزء من شاعرية القصيدة.. غير أنني أرى القصيدة تولد مُسماة..
ماذا يعني لك أن تكون شاعرًا الآن؟
يعني أنني وجدتُ نفسي.. وما أروع أن يجد الإنسانُ نفسه، فينحازُ لها، غير آبهٍ بحسابات الربح و الخسارة.