الجراب (سيرة النجع)، غناء الصراصير، الحرباء، درب الحلازين، خراريف ليبية، الخيول البيض، عناكب الزوايا العليا، حكايات ضِفْدَزاد، غُراب الصَّباح، هذه بعض عناوين لمجموعات قصصية منشورة من إبداعات القاص الليبي أحمد يوسف عقيلة، وغيرها كثير نشرت في صحف ومجلات ليبية وعربية، وترجم بعضها للفرنسية والانجليزية.
و«بقليل من الأسف» أشير إلى أنني لم أقرأ أي قصة من قصص أحمد يوسف عقيلة في كتاب ورقي، لكنني و(بكثير من القناعة والرضا)، أتابع وباهتمام كل ما ينشره عقيلة على صفحته الرسمية المميزة في براح الفيس بوك، وعلى مدونته الخروبة، وأيضاً في عدد مهم من المواقع والمدونات الليبية والعربية التي تحرص على نشر نتاجه الإبداعي بانتظام وإهتمام.
أحمد يوسف عقيلة، مولود في نجع «عيت يوسف» وهو نجع من نجوع بادية الجبل الأخضر، ويعيش الآن في قرية ماميلي المعروفة باسم قرية عمر المختار، ويقضي معظم وقته في البراري يجمع مايجده فيها من أعشاب ونباتات يصورها ويسميها، وسينشرها قريباً في كتاب. ولأنه ابن بادية الجبل ونجوعه، ويعيش بعيداً عن دوامة الحياة الصاخبة في المدينة، فلم أقرأ له قصة واحدة عنها، لذا أحسب أن كل قصصه، حضرت فيها الحياة البرية الليبية بكامل تفاصيلها، وبشكل جميل ومختلف في كل مرة، نجده يسهب ويبدع في التعبير عن المحيط الذي ولد فيه، ويعيش فيه الآن، ومنه يستمد إبداعه، فبرع في تصويره، بشكل لم يسبقه اليه أحد، ناقلاً للمتلقي في أبهى صورة القرية والريف والبادية والبرية الليبية ممزوجة في بعض الأحيان بسخرية ناقدة هادفة.
يكتب أحمد يوسف عقيلة، قصصه بحب جارف عن الريف الليبى الجميل ويصوره تصويراً دقيقاً ليس فقط بما فيه من رجال ونساء وأطفال، لكنه أيضاً ينقل بشكل محترف ما يحدث في البرية الليبية، فيضعها أمام القاري بشكل سهل وسلس، بعيداً عن التصنع اللغوي، أو المبالغة في الوصف، أو الإسراف في تصيد الحوادث، بل يصادق البر وينقله كما هو بترابه وحشراته وحيواناته الأليفة والمفترسة، وطيوره وزواحفه وأعشابه وأشجاره وأزهاره وجباله ووديانه وينابيع مياهه، وكل ما فيه، ليحول أحمد عقيلة البر الليبي إلى مشاهد غير عادية، يقتنصها بعينه وذاكرته ويحولها إلى لوحات جميلة متعددة ومتباينة، وينجح بذلك كقاص مبدع في أن يلفت الانتباه، بواقعية شديدة، لجمال الطبيعة البرية في ليبيا ومايحويه ريفها من خصوصية وتميز، تزداد تميزاً عندما يكتب عنها بكل بساطة وحب.
وفيما يبدو أن عقيلة لا يكتب فقط عن نجعه الذي يعيش فيه، أو قريته التي يسكن فيها، لكنه يرسم في مخيلته قرى ونجوعاً وبراري وحياة متكاملة، ينقلها بحس مهني سهل ممتنع، بطلها بامتياز خياله الواسع، وذاكرته الممتازة، فيرسم بسهولة لوحات لنجوع وقرى جديدة، ينجح في أن يجعلها قريبة من واقع القرية والنجع والريف والبرية أو أجمل منها بشكل عام.
بعض أبطال قصصه، شخصيات عادية تسكن الريف، لكنه يقدمها للقاري بشكل جميل أخاد يسهب في تصويرها ويعطيها حقها في الاهتمام، فتصبح هذه الشخصية الليبية الريفية قريبة من القاري الانسان الذي يسكن في أي مكان في العالم، وهذه مهمة صعبة يتصدى لها عقيلة باقتدار.
في قصة «غليان المرجل» حتى لو كنت بعيداً عن الريف لكنك لن تجد صعوبة في أن تفهم معنى أن «حمد المنجل».. «تحطبله الريح»، كما ستعرف أيضاً الفرق بين الديك الأجرب وغير الأجرب عندما تقرأ أن «حمد المنجل».. «تحول من ديك أجرب إلى ديك يبيض ذهباً».
في قصة «الدائرة» يرصد عقيلة برمزية فيها شي من الاسقاط وفي سطور قليلة «منصور» الأعمى و«زينب» العمياء، وهما مُتلبِّسَين في آخر الليل داخل قَبوٍ مُظلِم تحت الصومعة.. ويمنحناالفرصة كاملة في أن نتصور حدوث ما لايخطر على «إبليس» من رجلٍ أعمى مع امرأةٍ عمياء في قَبوٍ مُظلِم وفي ليلةٍ دامسة!
أما في قصة «العجين» وبطلتها «عزيزة» نتتبع بجمال أخاذ طقوساً أكثر جمالاً لمراحل إعداد الخبز الريفي من «بداية تحريكها للرماد، وخروج الجذوة المدفونة تحته، ووضعها لبعض العيدان الرقيقة والنفخ فيها، مروراً بوضعها الخميرة والملح مع الدقيق، وسكب الماء وشروعها في العجن، ونهاية بتَسْبيِتها لعجينتها وتُكَوِّيرها والُطبطة عليها ثم تغطيتها بدِثارٍ سميك». هذه المشهدية الرائعة يرافقها مشاهد أخرى لا تقل عنها جمالاً وروعة، ولن تجدها إلا في قصة يكتبها مبدع، عاش تفاصيل التفاصيل التي تحدث فقط في الحياة البرية في الريف، كما من الصعب أن ينقلها لمتلقي بعيد عن هذا الريف إلا قلم محترف يمتهن صاحبة كتابة القصة القصيرة ويبدع فيها.
«عامر» في قصة «الفخ» عريف ليبي بامتياز يعيش في الريف يحمل دائما عصاه التي ينكش بها أكداس القمامة ويحصي بها الغيوم ويعد بها الضفادع، وأسنان الكلاب التي تنبح عليه كلما ناكشها، وعامر العريف مهمته في القرية «نصب الفخاخ للحيوانات الضالّة التي تغزو زرائب القرية ليلاً» يساعده في ذلك نائبه «رويعي» الذي عجز عن معرفة خريطة الفخاخ المنصوبة لأنها في رأس عامر الذي مات وترك نائبه يشكك في أن يحمل رأسه الصغير خريطة!
في قصة «الوَصْفَة الأخِيْرة» مقاربة ومقارنة شيقة بين شخصيتين في القرية: شخصية «جَيْطُوْل» الذي يمارس التطبيب ويصف للمترددين على كوخه وصفات غريبة عجيبة لكنها تلقى اهتماماً من زبائنه وشخصية «طبيب القرية» الذي يطل كل مرة من نافدته ويعد بحسرة عدد الواقفين في طوابير أمام كوخ جَيْطُوْل.
قصص أحمد يوسف عقيلة أشبه بالوثائقية التي لابد وأن تضيف لرصيدك المعرفي معلومة جديدة، يقدمها في سياق قصصى رائع، يمكنك ببساطة مذهلة، وأسلوب قاص متمكن، أن تزور معه الكهوف وتصعد للجبال، وترقب السفوح والوديان، وتتجول في الغابات والبراري وتتعرف على نباتاتها، وأشجارها التي تنبت فيها ستقرأ عن الدرياس والعنصل الصنوبر والرِّينش والزَّيتا والشماري والبَطُّوم والبلوط والزّنْباع والعَرْعَار والشبْرق، وستتعرف على بعض من سلوك الكلاب والثعالب والذئاب والخيول والحمير والبُوم والغربان والماعز والديوك والنعاج والقطط والفئران والضباع والعناكب والنمل والنحل والدبابير والافاعي والحلازين والعصافير والحمام والجنادب. وستتعرف على البوبرَيص وعلى الجُعَل والعُقاب والحدَأة، وربما ستعرف أيضا كما عرفت أنا لأول مرة أن الزعفرانيَّات هي الخمسٌ والعشرون ليلةً قبل الليالي الأربعين، وأن النياسب هي طرق النمل، وأن النِّيسي طائر فضي يشبه الحمام يعشش في الأبار والكهوف.
قصص أحمد يوسف عقيلة كم مهم، وكيف أكثر أهمية، يحتاج منا أن نرعاه ونقرأه ونهتم به كثيراً.
__________
نشر بموقع المستقل