ملاحظة قبل البدء…
تفاصيل كثيرة فقدتْ من هذه السيرة
(1)
صمتً هائل أعقب روايتي للقصة، هدأ الكون بأكمله وأخذ احساس غامض من النشوة يتراجع داخل رأسي. إنني أستيقظ من النشوة. فنان موهوب فوق المسرح، كنتُ في تلك اللحظة. دمعة دافئة انهمرتْ من عين وسط العتمة، جرح غائر ووحدة ومن مكان ما أخذتُ أستمع لصوت مألوف بكلمات تشجيعية، كأنني مغمور في بركة من المياه الباردة، أخرجتُ رأسي فانتعشتْ روحي فيما بدأ جسدي يرتعد، أسفل الغطاء.
“قصة غريبة، إنها تماثلك تماماً”. قال، فأغمضتُ عيني، كنتُ بحاجة لعتمة حقيقية، أشد عتمة من التي أنا فيها.
“ما تزال تمتلك ذات الأسلوب”. لاحظ مضيفاً بصوت خافتْ.
“إنه أنا”. قلتُ ملاحظاً ابتسامة على وجهه.
“بالفعل إنه أنت”. قال.
كان ذلك قبل سنوات طويلة، لازلتُ أعيش تأثيراتها. اعتقدتُ دوماً بأنني لستُ سوى أزمان موزعة وإنني لستُ إلا ذكريات أشخاص آخرين تجمعتْ، انسجمتْ وتكونتْ ضمن شخصية جامعة هي أنا. إن حدث ووضعتُ كل تلك الذكريات الحاشدة في إناء فخاري فإنني -بهيئتي الحالية- بطريقة ما، سأتلاشى مثل حلم دخاني، أختفي ولن أعود موجوداً. كنا عائدين بصمت لبيوتنا، في تلك الليلة، بلدتنا هجعتْ مبكراً. واحدة من تلك الليالي الغامضة من عام 2003 لم أكن أعرف بأنها ستكون الليلة الأخيرة بالنسبة له في البلدة. وقفنا معاً عند مفترق أربع طرق. كان يُدخن. أنسام هادئة أخذتْ تعبر من وراء رأسي لتصطدم بوجهه، كان الدخان يبتعد عني دون ترك أي أثر في الهواء النقي، عدا قامتها المترنحة والمتلاشية. ضيق عينيه، سحب هواء بارداً من بين أسنانه واتخذ وجهه طابعاً غريباً، صلف معتم لوجه تمثال برونزي بأنف حاد.
“أتمنى معرفة معنى الهزيمة”. قال في تلك الليلة. شبه اعتراف. كانتْ رغبة غريبة أسمعها منه للمرة الأولى، الرغبات ستكون أشد غرابة مستقبلاً.
“لأي سبب؟”. سألته.
“لأتأكد من شعوري”. قال هذا فوجدتني أضحك بشدة، لكنه لم يضحك بالمرة، بل ازداد جدية مثل ديكتاتور مستقبلي واعي. “أعتقد بأنني أحس بها في داخلي بلا تعريف”. قال ببطولة عجيبة. دوماً كان شغوفاً بأحلامه حتى عندما خرجتْ الأمور عن السيطرة، ظل متفائلاً بقدرته على استعادة التحكم بها. عندما عرفتُ جدية حديثه وجدتني أشعر بالمرارة لأنني لم أدرك مدى سوء ما وصل إليه حاله بسبب اتهامات وجهها إليه البعض. بمرور سنين أخذ يزداد درامية ومأسوية ليغدو أشبه بفنان لا يُدرك عظمة موهبته الفنية. لا يعرف مطلقاً بأنه ضمن هالة دائمة بسبب من تلك الموهبة المتوقدة. النور الهادئ كان ينبعث ببرودة من داخله. لا يمكنه أبداً تجاوز هويته حتى بعدم ادراكه لها أو باعترافه بها.
(2)
بصحبة بركاى أثناء الشتاء في بنغازي. غرفة صغيرة. صوت فيروز ينساب بهدوء ملائكي. رائحة القهوة، البرودة – مطر – في الخارج. الدفء في الداخل وأدخنة التبغ تتصاعد سحباً كثيفة نحو سماء الغرفة لتتلاشى ضمن تشكيلات غامضة. تمر الأيام والأشهر والسنين، لأجد نفسي وحيداً، أجلس في ذات الغرفة، المهجورة هذه المرة، متتبعاً قصة تضيع مني تفاصيلها. أواخر عام 2006 تتبعتُ تفاصيل حياته في بنغازي. كنتُ قررتُ كتابة قصته – آنذاك – قادتني خطواتي إلى مقهى صغير على طريق المطار، من هناك سمعتُ قصة التقاءه بنادلة مغربية يهودية قادمة من إقليم صفرو، وإنه عاش معها قرابة سنتين كاملتين فيما بعد وجدتُ يومياته التي تتحدث عن هذه العلاقة، يوميات تتضمن قصصاً عن فندق في بنغازي، حيث كان يلتقي بها أغلب الوقت. كانتْ تدعى ماني، لقب بلا شك. لم أعثر لها على أثر طوال السنوات التالية، اكتفيت لمدة بالمعلومات التي وجدتها ضمن تلك اليوميات. حتى التقيت مصادفة بشاب سوداني يعمل في محل للملابس داخل سوق الحديقة، تحدث الشاب السوداني عن والده الذي أوكل إليه الاهتمام بفندق صغير على الكورنيش، وإنه ظل يشكو من تدخل بعض رجالات الأمن حتى إنهم في اليوم الماضي تهجموا على فتاة مغربية كانتْ تقطن في الفندق منذ سنوات. زبونة دائمة. في البدء لم أهتم بالحدث، لكنني في لحظة غامضة، شعرتُ بأنها قد تكون نفسها الفتاة المغربية التي تعرفتْ على صديقي.
أخبرني السوداني بأنها قتلتْ ورميتْ جثتها عند الكورنيش. لسنوات أحسستُ بالحزن، قصة فتاة نهضتْ من بين الرماد مشتعلة كالشمس، فتية وعظيمة، تتبعتُ قصتها البطولية ضمن يوميات صديقي التي تظهر ماني المغربية شخصية عظيمة بدأت تتلاشى مثل كل شيء في حياته ثم فجأة وبشكل عجائبي تنهض مجدداً كطائر الفينيكس.
(3)
كانتْ الغرفة مترامية. سرير عند الطرف الأبعد. طاولة صغيرة. فرشة عجمية ملقاة في وسط الغرفة عليها رسومات تشكل قصة عشق غير مكتملة، بلا شك، مع أنهار خيالية مرسومة بعناية على الجدران الأربعة، التي تم طلائها بالأزرق الفاتح، في ضمنها عدة سمكات كارتونية مبتسمة. هكذا بدتْ غرفته آنذاك، ولا بد بأنها كانتْ مجاورة لغرفة ماني المغربية، ففي إحدى الأوراق يتحدث عن فترة مرضتْ فيها ماني، واعتناءه بها. لابد بأنه ابتعد لفترة ثم عاد لسبب غامض. النص الذي وجدته ضمن أوراقه، مجموعة غامضة من القصص واليوميات والذكريات السريالية. القصص تحدث فجأة، فيظهران في أجمل هيئة وأكثرها مأسوية.
(4)
دخل غرفتها بحذر، وجدها تعود لسريرها، تختفي بين الشراشف البيضاء الناصعة كإوزة بين الغيوم. “كيف حالك؟”. ابتسمتْ بمرارة. بلا شك كانتْ مريضة جداً. بعينين غائرتين. وجهها بدا مبقعاً بهالات سوداء ومتعبة فيما استغرقها حزن عميق. اقترب منها بهدوء ركع عند طرف سريرها. “ماني”. فتحتْ عينيها بثقل. “ما بك؟”. سألها. “لا شيء، لا تهتم، كم تبدو لطيفاً؟ هل ستهتم بي؟”. سألته بقلق وبإبتسامة شاحبة. أجاب بهزات متتالية من رأسه عارضاً دفعة واحدة كل ما شعر به حيالها من حب. كل ما شعر به حيال أي فتاة أخرى في حياته. “أنت لطيف”. “أخبريني، ما بك؟”. “لا شيء يا صغيري لا شيء”. مدتْ يدها النحيلة إلى وجهه. جبينه. عينيه وشفتيه المتحرقتين. “لا تحزن صغيري، مريضة قليلاً، هل ستهتم بي؟”. أحس بيدها تشتعل ناراً. حمى في كل جزء منها، فاختطف يدها، لمسها بخده. مد يده إلى جبينها المشتعل كالجحيم فيما غطتْ وجهها هالة غامقة. كان لا يزال يذكر كيف رآها قبل أشهر، لولا صوتها وعينيها، وأسلوب حديثها لظن بأنها فتاة أخرى. كان لا يعرفها بحواسه، إنما كان يعرفها بحدس قديم. “ستهتم بي”. “نعم، لهذا أنا هنا”. “أتركني وحدي”. قالت فجأة فسحبت يدها وهي تقول بخفوت بنبرة حزينة ومتألمة: “متعبة، أريد النوم، أتركني. رائحة المقهى تفوح منك”. اندست أكثر بين الشراشف وتكورت متألمة بصمتْ. قام من مكانه، تطلع إليها لدقائق ثم غادر بصمت إلى حيث غرفته. وجد كل شيء، مرتباً. ملابس بقياسه. الحذاء الأبيض عند المدخل. غيارات جديدة مختلفة الألوان. روايات طبعات أولى بيروتية أصلية مع أوراق ناصعة مع أقلام وجهاز محمول لاب توب إلى جانب المصحف برسم العثماني مع سبحة تلمع من كهرمان تشع في العتمة. ألقى بملابسه بعيداً. دخل الحمام الملحق بالغرفة. استحم لساعة بالمياه الساخنة متذكراً كيفية تبدل الأمور بسرعة، محاولاً أن يضع كل شيء في مكانه الفعلي. جالساً على الكنبة أغمض عينيه رأى كل شيء كما يجب أن يراه في كل لحظة، بدا كأنه لا يزال يحلم. لتغلب على أحاسيس الخواء والأحلام، فتح كتاباً بلا ضبط، ترجمة لقصة عشق كوردية، أخذ يقرأ بصمت، لا يتذكر تلك اللحظة التي غاص فيها ضمن ثنايا حلم تلو الآخر. كان جسده يقظاً، تائهاً بين الدروب. أحس باستغراقه في النوم. في ذات الوقت بدا كمن يعاني من ألم جسدي غير مفهوم داخل النوم. رأى أمامه ابتسامة مشرقة لفتاة في الثامنة عشرة. ذكرى باهتة. عرف بأنه يحلم، وإنه لم يتخلص مطلقاً من الرعب الوجودي. ظل يراها تسير ببطء عند حافة الأفق، فوق الرمال، فاردة يديها النحلتين، كأنها تسير على خيط رقيق يصل بين حلمتين داكنتين. وقف هناك في مكان بلا إشارات. راح يتطلع مندهشاً مثل زائر السيرك. عندما التفتتْ إليه. لاحظ كم تبدو نظرتها كئيبة وحزينة. الحزن نفسه الذي رآه غالباً في أعين أخرى عبر البروتريهات التي تُظهر نساء من عصور مختلفة والتي يدمن النظر إليها. لا يعرف إلا كونه في حالة عشق. غارقاً ضمن رغبته الجسدية فيما هو يُلاعبها ببطء شديد. لم يكن متأكداً إلا من كونه في عالم لا إرادي. سعيد به. “هل تهتم بي؟”. سألته وهي تلعب كطفلة بين يديه. كانا طفلين. “نعم”. “لماذا تهتم بي؟”. “لا أعرف لكنني سأهتم بكِ”. “ستهتم بي أفضل من أي شخص آخر، أليس كذلك؟”. “نعم، أفضل من اي شخص آخر”. ابتسمتْ بألق سحري. بشرتها السمراء بدت باهتة ومروية بقصص الليالي الألف. أخذت أشجار النخيل بالانحناء، وهي تتطلع إليه بسكون. لا يسمع إلا حفيف الرياح على فستانها المشجر، احتجاجات غاضبة من السعف الجاف المذهب الحواف. هل ما يرى حوله يتساقط من فستانها؟. “لا أحد بوسعه الاهتمام بي”. قالتْ. كانت تتحدث بلغة بدتْ يائسة ومربكة. كان قادراً على محادثتها بإيمان طفولي. ابتسمتْ مرة أخرى ثم مضت بهدوء. تاركة ورائها خيالات لا تنتهي. في قرارة نفسه أدرك بأن حاجته إلى حديثها أكثر من حاجتها هي. بدأ يشعر بالضعف الجسدي بسبب هذا. دوماً تمتع بذهن حاد لكي يُسيطر على اندفاعه. واصل التحديق إليها وهي تبتعد عنه، متلاشية، فيفتح عينيه منهكاً. المعجزات لا تنتهي من حياته منذ اعتبر المعجزة نفسها أكثر الأحداث الطبيعية، تلك التي تحدث بالاعتماد على خصائص الحب والرغبة. المعجزة البشرية.
(5)
كورنيش بنغازي، الساعة الواحدة ظهراً، أخذت الأمواج تضطرب على نحو متزايد، كان هناك نورس مشاكس يُحلق ضمن بقعة واحدة، متطلعاً في المياه المضطربة، إلى حركة سرب من الأسماك البنية الصغيرة وهي تختطف من قطعة خبز، من بين أخرى تطوف على سطح البحر، يلقيها صياد شاب فيما أشعة الشمس تلوح لامعة على جسده، كتفيه العاريتين، بطنه المشدود، وفخذية القويتين، وقد تدلى شعره المبلل ملتصقاً على كتفيه، وهو يواصل إلقاء قطع الخبز بلا مبالاة، كطقس تعود فعله طوال حياته، كانت القطع تطوف لتصل إلى حواف الصخور، قبل أن تتدافع الأسماك الصغيرة وهي تقضمها ناحية المياه الفسيحة لتنقض النوارس بجشع مطلقة زعيقاً يتلاشى ببطء مع الرياح الراكضة، فيما تواصل المدينة صخبها العشوائي، كان هو جالساً يحاول أن يلتقط تلك الفكرة التي شوشته على مدى سنواته، سجل في دفتره صباح ذلك اليوم، أشياء عن الماضي، إنه أمر بدأ به منذ سنوات تقريباً، الكلمات هي مفاتيح الماضي، إنما الماضي نفسه مفتاح لأي شيء؟! لذاكرته، لهويته الشخصية، لهذا السبب كان أكثر ما يفعله هو البحث عن تلك الكلمات. دفتره الأسود الجديد، مختلف عن ذاك الذي كان يستخدمه قبل سنوات. قلمه غدا أكثر هدوء فيما أخذت اهتماماته تزداد بما يتعلق بإيجاد كل مقالة تنشر ضمن الصحف الليبية بعض الأسماء تحفظ له هويته الحقيقية كما كان يعتقد دوماً. بين يديه نسخة قديمة لسجلات تاريخية تجمع أسماء عدد من عائلات المدينة منذ قرابة القرن، هناك توقيع باهت لعائلة ليبية لم تعد موجودة ضمن سجلات المدينة. هاجرتْ إلى المغرب. عائلة يهودية هاجرتْ – قرابة عام 1920 – إلى إقليم صفرو في المغرب. ماني كانتْ يهودية مغربية من اقليم صفرو. أخبرته بأن عائلتها أساساً منحدرة من مدينة بنغازي. توقيع عائلتها ظهر بوضوح ضمن تلك الأوراق المصفرة. إنها الفكرة المفقودة. تنهد بعمق قام متجهاً إلى حيث يقطن. غرفة واسعة. سرير عريض، ذا الشراشف ناصعة، اللوحات المعلقة والتماثيل البيضاء الموزعة من الغرفة والتي تروي قصصاً مؤلمة عن الأزمان البطولية.
(6)
كانت الظلمة ما تزال تلف غرفته، مثلما هي، حفيف الأشجار والرياح التي تتخللها مع بضع أصوات لمحركات تعبر الطريق الذي يبعد عدة أمتار، تطلع عبر النافذة إلى الأضواء التي تتراقص من وراء زجاج النافذة، ارتدى ملابسه، خرج ليتجول عبر الأرجاء. حين تحرك عبر الممر الضيق. سمعها تسعل داخل غرفتها. كان ضوء الغرفة يتسلل إلى الممر. اقترب ليتطلع إليها، فوجدها نائمة بين الشراشف الناصعة. وقف بهدوء، نظر إلى تفاصيل وجهها، باحثاً عن تلك الملامح القديمة الموصوفة ضمن اليوميات، أنفها الحاد الملوكي المتكبر بدا متورماً، أهدابها المنكسرة كأشجار النخيل المنهكة، كانتْ منتصبة بحدة جارحة، كسيوف دمشقية معتمة، بالوصف التاريخي، لكنها منهارة، تحت وطأة الزمن أو الإحساس الطاغي بالعطش. كانت تحتضن نفسها برقة، نائمة في ترنيمة سلام عميقة الأبعاد، اقترب منها أكثر وبينما هو يتطلع إليها. فتحت عينيها ببطء، كانتا متسعتين، غائرتين بعمق معتم. أحس بأنه يتوه فيها، ركزت في وجهه، بصمت، فيما انتشل نفسه بعنف من أعماق عينيها اعتدل لينسحب من الغرفة، نادته بوهن. “ساعدني، أريد أن أنهض”. أمسك بيدها، وضع يده الأخرى على كتفها، فيما التفت يدها حول عنقه. انتصبت محاولة الجلوس باعتدال، على السرير، كانتْ ما تزال منهكة، أنزلت قدميها المغلفتين بالجوارب الزرقاء الغامقة، كماء متجمد، حين أخرجت كامل ساقيها من أسفل الشراشف، شاهد العري الصاخب لفخذيها بسبب غلالتها السوداء القصيرة اللامعة. رغبتْ في الجلوس على الكنبة. مشيا في خطوات قصيرة حذرة، مستندة عليه، شاعراً في كل جزء من جسده بحرارتها الجهنمية حتى أجلسها على الكنبة. غاصت فيها ساحبة رجليها الشاحبتين، متطلعة إليه مع لحظات السعال، رأى في عمقها لمعان الرذاذ المتقاذف من فمها الدقيق، الشاحب والمتقلص بسبب من الألم. “أحضر لي الوشاح الأزرق”. كان الوشاح مكوماً عند طرف السرير، أخذه ثم لفها به من وراء ظهرها حتى غطتْ كتفيها فيه، ذراعيها الشاحبتين، وأسندتهما على جانب الكنبة، ألقتْ بنفسها في أعماقه، رفعت ساقيها حتى التصقت فخذاها بصدرها وضغطتْ لتكف عن السعال. كانت السماء بدأت ترسل زخات هادئة من الأمطار الرقيقة، بالرغم الظلمة الشفافة، استطاعا أن يشاهدا تلك القطرات الصغيرة تلمع، حين وصلت إلى حيث الأضواء المحيطة بالفيلا، عندما أحست بأنها اتخذت وضعيتها المناسبة، نظرت إليه بابتسامة هي الأكثر شحوباً.
عندما انحنى على المغسلة ليغسل وجهه -فيما بعد- رأى تلك الابتسامة مرسومة في ظلمة عينيه المغلقتين دون أن يستطيع السيطرة على أعصابه، أنهار غاضباً. بدأ يركل كل شيء ويرسل قبضتيه نحو الجدران المحايدة، الزجاج، الخشب والألومنيوم،. كان غضبه هائلاً حتى إن الدماء نزفت من قبضتيه على أرضية السيراميك فرسمت أزهاراً حمراء قاتمة. زهرة تلو الأخرى، كل واحدة بشكل معين. عندما هدأ كتب بتلك الدماء كلمات عشوائية. تطلع في شظايا الزجاج، فرأى نفسه ضمنها بحاجة إلى جمع حاد وجارح، ولأنه لم يرد أن يضيع وقته أحضر مكنسة، ألقى بالكومة المتكسرة من الزجاج في القمامة متذكراً حادثة قديمة، رواها لي خلال مناسبات مختلفة.
(7)
حين بلغ الخامسة عشرة، اتجه إلى كوخ مهمل، مسنة متمددة عارية تماماً في داخله، رأى ساقيها العجفاوين، صدرها الذابل، نظر لوهلة إلى ثدييها اللتين تتدليان كبالونين مفرغين. اقترب بهدوء وهو يطلق سعالاً مسموعاً. تطلعت إليه دون أن تبالي بحالتها، فحول وجهه عنها قليلاً لكنه اقترب أكثر مراقباً ركبتيها المجروحتين، المكومتين بفوضوية كصخرتين. حاجة مبروكة. حين نطق اسمها انفجرتْ بصراخ عالي، تمرغتْ في الرمال حتى غابت داخل سحابة هائلة من الغبار. استغرب بشدة أن يصدر منها كل هذه القوة. حين توقفت، أخذتْ تتنفس بصوت عالي أشبه بنخير جواد سباق يُحتضر، عينيها مفتوحتين على اتساعهما فيما برزت عظام صدرها، الذي أخذ يعلو ويهبط بحزن شديد. “هل أستطيع أن أتحدث إليكِ؟”. “من أنت؟”. سألت بصوت خافت، بعد وهلة حتى سكن الغبار من حولهما. كان الصوت أكثر خفوتاً من حركة الغبار في الهواء، إنما سمعها بوضوح. كان صوتاً عاقلاً جداً. أخبرها اسمه. “أريد التحدث معك قليلاً”. قال. كان تنفسها الغاضب من فمها مقارباً للرمال على الأرض بحيث كان الغبار يثور كلما تحدثتْ، لم تكن تطرف بعينها، بل تحدق بثبات إليه من خلال الغبار الأحمر الهابط. أثار هذا اشمئزازه. كان يشعر بمزيج من الشفقة والرعب المتقزز. تطلع إليها قائلا: “مريومة”. عندها لاحظ خيطاً أحمراً كالدم ينساب بحرقة من عينيها، فبدأت تصرخ بأعلى صوت يمكن لأي شخص حي أن يطلقه، كان صوتاً موحشاً ومرعباً بحدة دفعته لأن يتركها مبتعداً بسرعة، ظل الصوت يصله باستمرار فيما هو يبتعد، تاركاً خلفه الصخور ونظرات المفاجئة للكلاب والجراء، مع أضواء بعيدة أخذتْ تلمع في تلك الأعين، علتْ النباحات فيما انساب الهواء البارد بحرقة بالغة عبر صدره. كانت تلك المرة الأولى التي تقدم فيها خطوة إلى هدفه، حيث خياراته الحقيقية.
(8)
تعود على الجلوس عند الكورنيش ليحاول تجميع القصص المبعثرة في ذهنه. “أنت تعرف بان الوحدة ليست جيدة”. هكذا قال المسن في احدى الجلسات: “لست وحيداً”. “أوه، صحيح، هذا يُمكن ملاحظته حتى قبل أن تُلاحظ الملابس المتسخة”. ابتسم الشاب، فقدم له المسن قرطاساً من الفشار، ثم قال: “أنتظر”. نادى فتاة سمراء كانت في الجهة الأخرى مع رفيقاتها، فجاءت وهي تقول: “نعم عمي صالح”. فقال: “هذا صديقي يريد التعرف بك”. تطلعت إليه الفتاة بابتسامة شقية، فبدت له صغيرة ربما في الخامسة عشرة. كان وقتها في الرابعة والعشرين. شاهد كيف تلمع عينيها الصغيرتين، الشقيتين. “تعالي اجلسي معه، سآتي بعد لحظات”. قال المسن. قام منصرفاً، فجلستْ هي بالقرب منه حتى إنها لمست كتفه وبدأتْ تحادثه عن كل شيء، وتسأله عن كل شيء. في البداية كان يجيب بشيء من الشعور بالإهانة لعدم المبادرة، لكنه سرعان ما انغمس معها في تلك اللعبة الصغيرة، قانونها بسيط جداً: لندعي السعادة كأننا سعداء حقاً، لنتحدث فحسب. تحدث يومياً في الكورنيش بنغازي. الحديث بلا حد، الاستماع بلا حد. قالت بأنها تسكن في منطقة وسط المدينة، لديها خمس صديقات-أخوات، تعمل بائعة عاديات في سوق الحديقة، تدعى داكي. في أنفها حلقة صغيرة، فضية بدتْ رائعة على بشرتها السمراء، ذات الأضواء تتوهج أسفل عينيها، لتنعكس بسلاسة في عمقهما الشديد السواد، وجد فيهما الكثير من الأشياء الجميلة، روحها الطفولية بالرغم من إنه أحس بكمية من الشقاوة التي لا بد بأنها مكتسبة من التعامل الطويل في الأسواق، ظل يلتقي بها كل ثلاث ليال بانتظام حتى غدت جزء من حياته في المدينة، غالباً ما يتحدثان طوال ساعات، ثم تتصل به، ليشرع في أحاديث تافهة، بلا معنى، عن أشياء لا يهتم بها حقاً، إنما يستمتع بالحديث حولها، يسألها عن الصحن الذي غسلته قبل العشاء بقليل عن أخر ما فعلته على مائدة الطعام، تضحك بسخرية ثم تجيب، كانت دائماً تجيب، لم يكف عن تلك التساؤلات الصغيرة -ذات مرة- أخبرها بأنه على استعداد لأن يلتهمها في جلسة واحدة، فضحكت عميقاً، لثواني رنتْ ضحكتها في فضاء رأسه ثم أخبرته بأنها أكلتْ أمثاله بحيث لم تعد تعتبرهم أكلة صالحة، بالرغم الإهانة العميقة التي شعر بها إلا إنه صمت بهدوء منح نفسه فرصة اختبار الكامل لمدى تقبله لهذا النوع من الإهانات التي تنطلق في حلقات الجلوس أو في أكثر اللحظات العاطفية سطوة، حين يغدو المرء في حالة غادقة من الاندفاع العاطفي الأبله، ضمن دفاتره تلك الحالة موصوفة دوماً بالبلاهة.
(9)
حين قام من مكانه، كان الكورنيش بدأ يكتظ، سيدة تكنس بصمت، مجموعة شباب جالسين في حوار صاخب، فيما راحت بضع سيارات تمر بمدينة بإيقاعات الراب، ذلك الجانب من المدينة صاخب جداً. جزء من طبيعته أن ينتقل، ليعقد صداقات سريعة مع رواد الكورنيش، كما إنه تعرف على عديد من الفتيات اللائي يبتهجن في الحوارات بدايات الليل أمام اضطراب الأمواج، وفي ظلمة البحر، حين يسرد لهن بضع حكايات عن تلك القصص التي يعرفها، ذات مرة حكا لإحداهن كيف صعدت فتاة إلى السماء وكيف إنها أكلت الورود الحمراء، تلك الفتاة تواصلتْ به مراراً لتسمع منه، في احدى الليالي أخذت الحكايات تسري بهدوء عبر عروقها، رأى أسنانها البيضاء الناصعة، وشفتها الكسولة، ثم انهارت عليه، تبادلا قبلة دافئة فيما انسابت الأضواء بصمت مطبق حتى الأفق البعيد، الكورنيش، الذي كان يقضي فيه وقته وحيداً إلى أن التقى مسناً مصرياً يعمل بائعاً للبذور، يدفع عربته طوال فترة ما بعد العصر، إلى أن يترك آخر رواد الكورنيش مكانه دافئاً. كان ذلك قبل سنوات. حين نظر إليه ثم جلس بجواره، كان قضى عدة أسابيع وهو يتابعه بصمت، في تلك الليلة التي ازدادت برودة. “لماذا تجلس وحيدا؟”. سأله. “أفكر فحسب”. هز رأسه مبدياً عدم فهمه. “الناس لا يأتون إلى الكورنيش ليفكروا، بل ليشعروا بأنهم يعيشون مع الآخرين”. ابتسم بصمت ثم قال: “أنت من يعرف”. “أنت أيضاً، هل أنا محق؟”. لم يكن يحسُ بالخجل من وحدته، لذا قال: “لا يخلو الأمر من الوحدة، لكن هذا لا يمنع كوني أفكر”. “هل أضايقك؟”. تطلع إلى المسن، وجهه يحوي تعب العالم كله، لكن عينيه واحتين هادئتين، صوته عميق جداً أكثر من أمواج البحر، لم يشعر بالندم أو بالذل لأنه نفى المسألة برمتها، بل أحس بالراحة العميقة تسري ضمن عظامه قبل عروقه وصدره، كما أحس بأنه كان بحاجة شديدة للإنكار. أخرج من عربته، شطيرتين، مع القليل من البذور، وعدل الشاي، على مجمرة معدة لتسخين الشاي، خلال لحظات أتيا على كل شيء، فأحس بدفء الشاي يسري في جسده، كما كانت تلك السعادة عميقة. “لا شيء مهم، أنت تعرف”. قال ناصحاً. غالباً ما تبدو له صداقات عابرة مثل هذه أكثر قيمة ومعنى لأنها بلا قيود ولا توقعات مسبقة. حين كان صغيراً، قرر أن لا يجعل للصدفة دور في حياته، إلا إنه اقتنع بأن كل ما يحدث في حياته، نتاج بغيض لصدفة مكتملة. وقعتْ أشياء كثيرة حين قرر هذا دون أن يجد تفسيراً لها، ففي ذلك اليوم في بلدته، بينما كان يعبث في أغراض والده، وجد صورة بين صور العائلة الخاصة، فتاة لا يعرفها، تحدق بعينين صافيتين في الكاميرا،وفي الخلف مجموعة صبايا يغنين، كانت صورة قديمة. التفت لوالدته سألها عن صاحبتها فتطلعت في الصورة بحزن، بعد لحظة صمت، قالت: “لا أعرف بالتحديد، اعتقد بأنها مريومة”. عرف فيما بعد بأنها فعلاً حفيدة مبروكة العمياء التي ظلتْ وحيدة منزوية ومنعزلة عن بقية البلدة. كانت مجنونة تماماً. منذ متى كان هذا؟ ولأي سبب؟ أثناء جلسة هادئة قبيل المغرب، فوق صخرة القارة المطلة على حي شعبي سكني. نراقب الأضواء البعيدة للسيارات الخارجة من البلدة الصحراوية باتجاه المدن الكبرى، أسفل سلسلة طويلة من أعمدة الإضاءة بأضوائها البرتقالية الكابية. روى لي كيفية جمعه لتلك القصة -هي الأخرى- كانت مصادفة كبيرة.
(10)
كنتُ جالساً مع جدتي تحت العريشة المثقلة بعناقيد العنب، في تلك الفترة كنت أقوم بتحفيظها السور القصيرة من القرآن: الإخلاص، الكوثر، كنت في الخامسة عشرة حين زارنا قريب لنا من ربيانة، كهل منهك الجسد والروح، في وجهه علامات القلق، وفي تصرفاته نصف جنون، علامات تكتسح تلك الشخصيات من الكادحين، التائهين في جهامة الحياة، كان جلبابه مصفراً من القدم، موغلاً في الزمن. جلس عند المادة الإسمنتية، وضعت جدتي أمامه عناقيدها الثمينة، مغسولة بالماء الصافي، كان يبدو خشن الهيئة، بشرته الملوحة، ويديه الخشنتين مشابهتين ليدي مزارع. تطلع طويلاً في نقطة واحدة، ظننته ينظر لحبات العنب وقتها إنما أعرف الآن بأنه لم يكن ينظر في العناقيد، لم يكن ينظر إلى أي شيء معروف بالنسبة لي. تحادثا طويلاً حول الصحة والعائلة، وعن الزمن والطقس ثم عرجا في أحاديثهما البطيئة، بلهجة الدزا كا حول بعض المشاكل الصحية، قبل أن تتحدث جدتي عن موت قريب من التشاد. “في البداية فقد البصر، لم يحتمل، الهموم أودت به”. هز الكهل رأسه، بدا متماسكاً كصخرة صلدة، عاد البريق إلى عينيه متفهماً صعوبة الأمر، تلك الأحداث لم تنته بعد إلى جانب الموت الطبيعي، هناك من يموت مقتولاً بالرصاص والقذائف. صحيح، هذا البلاء. “ليضع الله يده لحمايتنا”. قالتْ الجدة. هز الكهل رأسه ثم أضاف: “ليضع الله يداً بيننا وبين المصائب”. جمعت جدتي من الأرض بضعة أعواد، في حين رسم الكهل رسومات طولية تداخلت فيها دوائر صغيرة متعددة متداخلة بدورها، لعبة قديمة أشبه بالطلاسم أو تعقيدات الروح ثم تنهد الكهل. حل صمت ثقيل ربما لدقيقة كاملة. كنت خلالها أقلب في كتاب السفينة لجبرا إبراهيم جبرا. مد يدك وكُلْ من العنب. حثته جدتي. مد يده. قطف حبتي عنب، وضعهما في فمه. كنتُ قادراً على أن أتخيل طعمها. جدتي تمنحني عناقيد العنب الباردة دائماً، بضحكتها القصيرة، المميزة والتي ترن كعملات نقدية، بالرغم من أنني كنت أرى دموعها اللامعة في عينيها، لكنني مع ذلك كنتُ أعرف بأنها سعيدة. سعادة جدتي لا تقدر بثمن. سعادة الجدات لا تقدر بثمن. استغرقت لثواني في الكتاب، أخذتني الكلمات إلى نابولي حيث ابتهاج بطلي الرواية. رأيتُ النوارس والبحر كما اشتممت رائحة الملح والأعماق. سمعتُ اللغة الإيطالية في اللحظة التي اخترق سمعي اسم مريومة. كانت جدتي من نطقتْ بها. حينها انتبهتُ كحصان قلق. كان الكهل يؤكد بأن حالة مبروكة تؤلم. عرفتُ بأنهما يتحدثان عنها، عن زمن لطالما شعرتُ بأنه مهم بالنسبة لي تركت الكتاب جانباً، استمعتُ بتركيز عما حدث لها. في تلك الفترة عرفتُ بأنها جنت حين قتلوا حفيدة لها، خلال إحدى الأعراس. الحفيدة تدعى مريم، تعود الناس على مناداتها بمريومة، جدتي تأثرتْ بشدة حين تذكرتْ الأمر يومها. نكست رأسها، فأحسستُ بأنها حزينة. كانتْ تعتمد على يدها اليسرى في الاستناد كأن الحياة لا تنفك تعيد نفسها، كأن كل شيء مجرد نسخة عن شيء واحد يستمر في الحدوث. كان الكهل صامتاً، متصلباً في صمته، يتطلع إلى الفراغ، والحزن يستبد به دون أن يظهر عليه ذلك فيما كانت الشمس تتسلل من بين أغصان البنية للعريشة، ترتسم أشعتها الدافئة على الرمال المروية بعناية، تلك الخطوط التي تركتها أصابع الجدة تبدو كأنها حفرت في جسدي، إنها لا تختفي مطلقاً من ذاكرتي، ربما يتفسخ جسدي، يعود للتراب فتحلق تلك العلامات إلى الأفق مع روحي مضيئة كإشارات مقدسة من ديانة أسيوية.
(11)
قصة مريومة…
خلال إحدى الأعراس، بعد أن وصلتْ حمى الرقص لذروتها ظهرتْ فتاة بملابس مطرزة بيضاء شديدة الالتصاق على خصرها، حتى بدتْ كأنها مقسومة إلى نصفين مبهجين، دخلتْ ساحة الرقص فأشعلتْ كل شيء، اهتاج الرجال بصرخات الانتصار، ضجوا في موجة جنون، كانوا استعدوا بكل ما يمتلكون من جهد، راقبوا الصبية وهم يروون الساحة الرملية بالمياه، تتبعوا الأعين القلقة فيما الشمس تغرب بهدوء وراء الأفق الرملي، تجمعوا على مهل مع الدفعات الأولى من النسوة والصبايا اللائي ظهرن مبتهجات، مكتسيات بتلك الفساتين ذات الألوان الأندلسية بالورود الصفراء الفاقعة، ضفائرهن كالشلالات الليلية المتجمدة، تدلتْ برقة على وجوههن الطفولة، مع ابتساماتهن الملتمعة بضوء الغروب الأخير، أخريات عصبن رؤوسهن بأوشحة طيفية مدهشة، حازمات مثل سيدات بيوت متحكمات، صلبات كالتماثيل الشمالية، باعثات على التساؤل والإدهاش، كن يرقص بحماس لا يكف عن التجدد، يعبثن بكل شيء حولهن، من رجال، صبية حتى طيور التي حطتْ على أسطح القريبة من الساحة. بعضهن ظهرن متكبرات، فيما بدت الأخريات تائهات تماماً في المشهد. الصبية جالسون ضمن حلقات بعيدة محيطة بالساحة الرملية، يتطلعون إلى الجمال الأسمر البهيج، غائبين في أبخرة الأفيون والبواخ في رؤوسهم المشتعلة بالأحلام الخائبة. عندما اشتد الرقص، وأخذ الطبال يتراقص مع إيقاعات طبلته العتيقة كأنها تخرج رأساً من قلبه المجنون. ظهرت من بعيد تلك الفتاة. حين رآها اشتد في الضرب. كانت أصابعه التي تُمسد بعنف على طرفي الطبلة المغطة بالجلد. ترتج، كارتجاج صوته الخشن والقدري المستمر في الغنائية، ارتجاج كوني وصل حتى أعماقه. ذات مرة أخبر ابنته بأنه عند نهاية كل حفل عرس، يموت جزء من روحه. كان يشرب الكونياك مثل تيس قذر. بعد مقتلها بسنتين فقد بصره. أصبح يخور مثل ثور كل ليلة منهكاً مُعذباً من أعماقه السحيقة. ابنته شبتْ وهي تسمع تلك الأصوات الجحيمية. حكتْ هذا لجاراتها مراراً حين تزورهن لخدمتهن أثناء المناسبات – فيما بعد – انتشرتْ شائعة عاشت لعقود، وجدتها تائهة كطفل لقيط بين الأزقة. كتبتها في إحدى دفاتري مع خطوط تلك القصة الرهيبة. حين ظهرت الفتاة بملابسها البيضاء المطرزة متجهة إلى ساحة الرقص، ملثمة بإغراء جارية بغدادية بوشاح أحمر شبه شفاف مطرز هو الآخر، بدرزات ذهبية، بدتْ لامعة مع الضوء المنهك لليوم، النجوم الأولى رأتْ ذلك أيضاً، أخذتْ تتمايل مع الرغبات والضوء حتى بدأ بعض الرجال يعوون كالذئاب المتأهبة. ظلت هادئة في حركاتها الأنيقة الأولى. لم يكن شيئاً هادئاً حولها. كانت القلوب تخفق. الزنود ترتفع مشدودة قابضة على الخناجر اللامعة. الأقدام تفارق الأرض أثناء القفزات العالية، لتحط مثيرة الأغبرة المتوحشة من تحت التربة المروية بالمياه والتي حفرتْ بقوة ارتطام أقدامهم الشبقة. كان دخولها للساحة الرقص بتلك الوحشية، أشبه بالعاصفة الرملية الهوجاء، أخذتْ تقتلع كل شيء في طريقها. رقصتْ وراقصتْ حتى كادت النجوم تلامس الأرض. العتمة هبطتْ سريعاً. ضحكات النجوم. حماس الطبال والرجال. الكلمات الباردة الجوفاء التي لا يسمعها أحد مع الأسنان التي أخذتْ تصطك، بعينيها شاهدتْ تلك الحالة الرهيبة. تصبب العرق، انتصاب الرجولة، الشهيق المتردد بلهاث رهيب، الأعين الجاحظة، الروائح العابقة بالتوق، إذ ذاك كشفت ببطء عن وجهها وهي منهكة الجسد، منتشية كلياً كمن استخدمتْ الأفيون، في حالة إيمانية بالغة الجموح، كانتْ تبتسم برقة بالغة، لامعان باهر في بشرتها الأبنوسية، فرأى الرجال من هي، بابتسامتها المتشفية والمنتصرة. عمرها قرابة عشرين سنة كاملة. خلال هذه السنين لم يهتم بها أحد. أحداً لم يهتم بها علناً، لكنهم جميعاً كانوا يعشقون فيها تلك الهمسات الليلية، تلك اللحظة كانت هي الكشف الحقيقي بالنسبة إليها، تحلق حولها قرابة عشرين رجل بأجساد مشدودة وأعصاب مهتاجة. أي جمال! أية بهجة! الرعب ارتسم على وجوههم عندما عرفوا بأنهم كانوا يراقصون فتاة من الأزى وإنهم فعلوا ذلك علناً، قبل أن تستفيق من بهجتها، أحستْ بوخزة حادة عند كتفها. أحد الرجال طعنها بخنجره، في ذراعها، فصرختْ متألمة على رمال الساحة وقد اصطبغ فستانها الأبيض المطرز بالأحمر القاني. توقف الجميع مرتعبين. الطبال انهار واقفاً. تلاشت دقات طبلته. النسوة هربن بعيداً فيما أخذت الأخريات يصرخن متراجعات، لكن صوتاً أرجعهن جميعاً، وقفن ليعرفن ما يحصل، سبعة شبان كانوا متحلقين حول الفتاة المصابة، ثلاثة منهم تراجعوا ليقفوا حائلاً بينها وبين أبيها. اقتادها البقية بعيداً حتى اختفوا بها بين الأحراش، ثم أغصب الثلاثة الطبال الكهل على إعادة إحياء الحفلة لعشر ساعات أخرى، دوت ثلاث ضربات قوية على الطبلة، بعدها أصبح سيلاً متناغماً من الضربات الغاضبة كاللعنات تنهمر ضمن دائرة الضوء، لتضيع ضمن العتمة، كان الصبية أخذوا الفتاة بعيداً، في اليوم التالي، استيقظ أهالي البلدة على خبر زلزل وجدانهم لعقود طويلة، فاجعة أحاقتْ بمريومة أجمل فتيات البلدة، والتي لم تكن تخرج علناً إلا خلال المناسبات والأفراح، بكامل زينتها، ملابسها المطرزة، جنون جسدها الفتي ولا ينافس جمالها أحد. سمعتُ من عشرات أشخاص إلى جانب جدتي التي هي جدة بركاى أيضاً، تحت ذات العريشة، بالصوت الحزين نفسه، الكلمات ذاتها، النظرات الذائبة الغارقة بالدموع، أخبرتني بأن العالم لا يعرف الرحمة في الأوقات الصعبة، الرجال يغدون قساة جداً حتى دون أن يعرفوا بأنهم يغدون قساة، باسم الأخلاقيات والكبرياء. مريومة أجمل البنات في بلدتنا، لطيفة، عظيمة، ذات عينين جريئتين سوداوين. كانتْ جدتي غاضبة. غضب بطيء يتصاعد تماماً كما الآخريات. كنت أحب أن أتطلع إلى غضبها، فيه شيء لا يمكن ملاحظته في غيرها من النساء في البلدة، كانت تبدو أصغر بكثير، في روحها وهج خفي، قوية كجذع نخلة سامقة. أخبرتني – دوماً – بما حدث. كان يوماً مدهشاً. لم يحدث في البلد مثيل له. خلال جلسات السمر في الليالي الشتوية الباردة حول المواقد. كانوا يشربون طاسات من الشاي المعممة بالرغوة وهم يسردون تلك القصص القصيرة اللا نهائية عن الأحداث الكبرى خلال أزمان مختلفة من تاريخ الخفي للبلدة، كل عدة جلسات يأتون على رواية الحادثة التي غدتْ مع السنين أسطورة رهيبة تكشف قسوة القلوب التي لم ترتجف لمقتل طفلة في الثامنة عشرة. كانتْ الاحتفالات قد أقيمتْ، احتفالات صاخبة لزواج أحد الشيوخ ذوي الصيت منذ الغروب كان الصبية أخذوا يروون ساحة الرقص بالمياه – تقول الجدة متذكرة تلك الأيام البعيدة، كانت شابة آنذاك كما تقول النسوة وهن يتنهدن – الشمس أخذتْ تغرب ببطء، طيور القمري ضمن أسراب معتمة تعود إلى أعشاشها مخترقة الشفق المشتعل بزقزقات متتالية، الشفق الأخاذ في التلاشي بهدوء. المسن الأعمى يجرب طبلته منذ برهة، جلبابه الأبيض الناصع. رتبته بلا شك ابنته الجميلة. عمامته منسدلة كراية شعب خسر معركته الأخيرة، المعركة اليائسة. كان من طبقة الحدادين المحتقرة، إنها مسألة أفريقية صرفة. طبلته المعدة بإتقان تحمل ذكريات إمبراطورتيهم المنهارة، قلوب جوفاء تدوي بالعنف لأنها فارغة. لمسات متتالية ترضيه تماماً. تدوي بالصوت المشؤوم عبر المساحة لتلامس الشمس المتلاشية ببطء، تماماً قبل الحفل الصاخب بدقائق قليلة. الشبان يحومون من بعيد كالنمور البنغالية الجائعة. الفتيات مبتهجات بنشوة، مترعات بالجمال الأبنوسي الأخاذ، حبيبات الودع، الضفائر النحيلة، الأعين السوداء الواسعة، القلوب المرتجفة، تذكر الكبار في السن، إنها نفس التفاصيل الصغيرة، ذات اليوم، الشمس المحمرة الإيالة للغروب كعين ملتهبة، يقول أكثر من رجل مسن عاش تلك الأحداث، أحدهم شارك فيها بقوة دون أن يرف له جفن، عدتُ إليه بعد سفري إلى بنغازي لأجمع هذه القصة.
(12)
كان مسناً جالساً على كرسيه. صمت رهيب كان يجثم داخل تلك المزرعة التي تبعد عن البلدة قرابة نصف ساعة بالسيارة. حبيبات الرمل تلمع تحت ضوء الغروب. بشرة شاحبة رمادية. لا خشوع فيها. فقط حزن سطحي بالذنب. لا شك بأنه شعور فظيع بالرغم من ذلك. أخبرني بأنه في بعض الليالي يستيقظ مرتعباً، ليس بسبب من الوحوش أو الأشباح، بل كان يرى نفسه مع رفاقه السبعة، يحرقون بناته، الواحدة تلو الأخرى. كانت تلك أكثر كوابيسه رعباً. أخبرني صراحة بأن ابنته الكبرى ستموت محترقة ولا شيء يمكنه أن يُوقف. إذ ذاك انحدرت دمعة معتمة ثقيلة على خده، كان أخبر ابنته عن فعلته، فبكتْ بين يديه، وأخذتْ تلعنه بسبب أقدامه على تلك الفعلة البشعة.
(13)
“أحياناً حين أجلس وحيداً، أرى كل شيء يحدث أمامي من جديد، أرى الوتدين، الحبال والسلاسل توثق اليدين النحيلتين، الناعمتين، الشرارة الأولى، كنا نضحك، أتصدق؟ بدا لي بأنه أحد أفضل الأيام وإننا ننجح في تخطي الإيمان الضعيف، لنصل مباشرة إلى عمق وجودنا الفعلي، كنا على مبعدة قصيرة من مقر الحامية العسكرية. بوسعنا رؤية الأضواء النحيلة تعبر كأعين للشياطين القدامى، تتحرك بعيداً. كنا نستعد للهجوم على تلك الحامية، طوال مدة تعليمنا وتدريبنا لأجل ذلك، كنا سبعة. كنا نُدرك بحدس الشعوب بأن هناك سبعات كُثر عبر الصحراء. هكذا ظل يُخبرنا بأننا سنبني أنفسنا من جديد. سيكون كل شيء بخير مجدداً. توجب علينا أن نفعل ذلك بهدوء تماماً مثل الفرنسيس. جيش منضبط، هكذا كان يتحدث”.
(14)
“علينا أن نهاجم، يتوجب ذلك. قبل عقود هاجمنا، قبل عقود انتصرنا، لكننا نسينا، إننا ننسى دوماً انتصاراتنا، لماذا علينا نسيان انتصاراتنا؟! تطلعوا إلى الأفق إلى تلك الأضواء، هدفنا. كان يُردد دوماً. تدربنا ليل نهار. كنا سبعة. كنا نمتلك الشجاعة، بين الأحراش صمدنا لأيام، دون طعام وشراب، إننا مقاتلون، يتوجب علينا أن نكون أكثر من ذلك، أكثر من ذلك بكثير، فقط تطلعوا! تطلعنا كالأطفال فرأينا الشمس تغرب، أذكر بأن أحدنا قال: هل الشمس هدفنا؟ أبداً لم تكن الشمس هدفنا، بل تلك الأضواء الصغيرة تحت تلك الشمس، هناك كان يتوجب علينا أن نقاتل، إنما ليس بعد، نحتاج وقتاً، لكن يجب أن لا ننسى. أخبرنا بأن مهمتنا هي منع شمسنا من الغروب، أن نوقف تقدم الليل، هكذا كان يتحدث، نعم بهذه اللغة كان يتحدث، صمتنا مندهشين، كانت أفواهنا فاغرة كالمغارات، نعم كانت أعماقنا كانت مظلمة كالمغارات، لذا كنا بحاجة إلى الشمس، تدربنا كالبغال على المهام الشاقة، عبرنا مسافات هائلة على الأقدام، كنا سبعة، مسلحين جيداً، فرحين لأن هناك سبعات أخرى عبر الصحراء، المدن، البلدات والقرى تتحرك مثلما نتحرك. هذا ما أخبرنا به. يوماً ما سيُقدر لنا أن نلتقي لأجل مهمتنا الكبرى، تلك المهمة التي كنا نستعد لها حتى في أحلامنا، حين كنت لا أمتلك إلا الأحلام وبعض القصص القديمة. روى لي أحد أعمامي كان هناك سلطان ولم تكن هناك مؤازرة. إنني تباوي جيد، يعلم الله إنني تباوي جيد، كنتُ جيداً. عشت طويلاً، ومن يعش طويلاً يُدرك بأن التفاصيل تتغير دوماً، لطالما تغيرتْ. لم نكن نعرف ما هو، انتظرناه بفارغ الصبر، دون أن نعرفه. ذات يوم جاءنا سليمان أرديا. هل سمعت عنه؟ جاء مبتهجاً. أعلن بأن اختباراً كبيراً سيحدث لنا قيمة وجودنا أو يلغي كل شيء. الانضباط الذي سنبديه هو ما سيُحدد قدرتنا على تحقيق أحلامنا الشخصية. أخبرنا قبيل المغرب بقليل بأن الجرأة ليستْ في القتل، بل في الانضباط. تلقي الأوامر وتنفيذها كلما وردتْ ومن دون تساؤلات. هل تودون أن نُعيد أمجاد شعبنا. أمجادنا القديمة. السلطنات التي انتهتْ منذ سنين؟ كنا في قلب الصحراء الكبرى، أعيننا تبرق بالغروب والشروق. أشرقتْ الشمس وغربتْ بالكاد كنا نشعر بهما، كأننا نقطن في بقعة سرمدية بلا زمن. حماسة رهيبة. كنا مباركين كالشيوخ السنوسية. مسنودين من قبل أفكار أكثر قدماً من شخصياتنا الصغيرة. أدركنا بأننا لسنا لوحدنا. كل حبيبات الرمال بمثابة رجال معنا. من الأفق حتى أقدامنا كانت الأمجاد تُحيط بنا. آنذاك شعرتُ للمرة الأولى بخفة مدهشة. كنتُ بلا وزن فعلي وبلا جسد أو ثقل. أمعائي أخذتْ تعمل بانسجام تام مع التيارات الهوائية الناعمة في الخارج. كنا في أحسن حال، كنا فعلاً في أحسن حال”.
(15)
سليمان أرديا الذي تحدث عنه محمودي يونس، كان في الثالثة والعشرين، لاحقاً وجدتُ صورة عتيقة له ضمن احدى ألبومات أبنائه، واقفاً في ساحة رملية، بسلاح إيطالي على كتفه، أخبروني بأنها صورة التقطت خلال فترة الحروب التشادية ضد المعسكرات الفرنسية، كان مبتسماً بالكاد، يرتدي بردة سوداء، متلثم بالسواد، في حزامه خنجر ضخم المقبض، ربما للزينة، بدا مقاتلاً صحراوياً أهلياً. نحيل وصارم -فيما بعد- ضمن مجلدات إحدى المكتبات عثرتُ على ألبومات صور عتيقة، التقطها الصحفيون الأمريكان والأوروبيون عبر أرجاء ليبيا حتى الشمال التشادي خلال الستينيات، السبعينات حتى الثمانينات القرن المنصرم. كانت تحوي المئات من الصور عن التيدا، من بينها صورة واضحة، لسليمان أرديا بذات الملابس، خلف الصورة كُتب: مقاتل أهلي من التيدا قائد المجموعة السابعة تلك الصور كانتْ تتحدث عن نقاط عسكرية واسعة في المنطقة الصحراوية حتى أعماق الغابات الأفريقية، كما وجدتُ تقارير ومقالات صحفية نُشرت ضمن الصحف الأمريكية: لايف، ذا نيويوركر، واشنطون بوست خلال الخمسينيات توضح العلاقات المعقدة بين قبائل البلاد، وارتباطاتها الأكثر تعقيداً بالدول المجاورة. تشرح المقالة عمل فريق أمريكي مكون من ألفين وخمسمائة موظف ضمن أرجاء البلاد والبلدان المجاورة لغرض تأسيس مؤسسة غير ربحية لم تُحدد طبيعتها أو أهدافها أو حتى ما هي. خلال البحث يمكن معرفة طبيعتها الاستخباراتية. في احدى التقارير الصحفية وصف عن مقاتل أهلي التقوا به في بلدة مرزق جنوبي البلاد. صامت، لم يتحدث معنا مطلقاً إلا بكلمتين أو ثلاثة، أراد أسلحة لكننا رفضنا. سأل عن المستقبل فأخبرناه بأننا لا نعرف. قدم لنا بعض التمور الجيدة فأعطيناه كمية من المواد الغذائية تكفي عشرين شخصاً طوال شهرين، فأعاد سؤاله عن توقعاتنا الأخيرة حول مستقبل البلاد، فأخبرناه بأن لا شيء واضح عندنا، وإننا نتمنى الأفضل للجميع، عندها غادرنا بهدوء. بلا شك بأنه هو سليمان أرديا نفسه، شخصية أسطورية، تم نسيانها تماماً حتى إن أحداً لا يعرف شيئاً عن أرديا بما في ذلك رفاقه أو أتباعه الذين لم يعرفوا إلا بأنه أكبر مما خُيل إليهم. بين صفحات اليوميات وجدتُ تلك الأحاديث مع محمودي يونس بعد سنين.
(16)
“كانت النجوم متيقظة -قال محمودي يونس بعينيه المطفأتين فيما أخذتْ الشمس تغرب ببطء شديد شعرتُ بأن المسألة تُحسم- رأيت ذلك بعيني ثم تقدمنا سبعتنا إلى حلقة الرقص، كنا سنجد شيئاً مهماً على حد قول سليمان أرديا، فانتظرنا حتى ظهرتْ تلك الفتاة بلباسها الأبيض المطرز متلثمة، راحتْ ترقص بجنون، جسدها اللدن، مؤخرتها المثيرة، رشيقة كأفعى. أخبرنا أرديا بأنه سيرى إن كنا فعلاً رجالاً يُعتمد عليهم، لأنه يتوجب علينا قتل تلك الأفعى. هكذا قال بضبط كأنه يقرأ ما رأسي، ربما رؤوس رفاقي، وقبل أن نفهم جيداً المطلوب منا سمعنا صرخات استهجان قادمة من حلقة الرقص التي صارت كتلة واحدة من الجنون والغبار والشهوة، حن اقتربنا أكثر، عرفنا الفتاة التي كشفتْ عن وجهها، ابنة الأزى، لم نستفيق من صدمتنا حتى شهدنا سليمان يطعنها بخنجره الضخم على كتفها ثم أمرنا بالسيطرة على الأب-الطبال، وهو ما فعلناه بسرعة، ثلاثة منا فيما البقية مع سليمان سحبوا الفتاة نحو الأحراش القريبة”.
(17)
العتمة الأولى للغروب جعلتْ من وجهه غريباً، دموعه المعتمة تلاشتْ سريعاً كأنها لم تكن، فيما ظلتْ تجاعيد وجهه ترتعش، كجسد محتضر، أنفه الفاحش ارتخى حتى التدلي، صار أشد حزناً واستند على عكازه الخشبي أكثر من قبل، تائهاً في جلسته.
(18)
كان الأب يبكي كالمجنون، أغصبناه للعودة إلى إيقاعاته الجنونية لإحياء الحفل من جديد، في مواجهة ليلة الرعب، متفهماً كل ما حدث. الأعين التي خالطها الرعب والنشوة. ظلتْ تحدق في كل شيء. تحدق في الفراغ أو إلى خيالات لا يمكنني حتى معرفة ماهي. بعد سنين أخبرني أحد الصبية بأنه كان هناك وإن ما فعلناه سيئ للغاية لكنه كان سعيداً. لم أكن سعيداً. لا تزال تلك الأعين أمامي. الفراغ الذي جعلني أشعر بأن كل ما تحدث عنه سليمان أرديا مجرد كذب منذ البداية. أحسستُ بالفشل والانكسار عميقين. المسألة كلها مجرد تضييع للوقت. تماماً مثل محاولة إيقاظ الموتى. لا تخصنا. مجرد محاولاتنا هي كفر بحد ذاته. أرديا كان أخبرنا عن الإيمان الخاطئ الضعيف. مشكلتنا كلها في الإيمان الخاطئ. لا يمتُ لشخصيتنا. مجرد لباس لا يشبهنا. هكذا أخبرنا. إيمان ليس لنا، وإن الله يتحدث أيضاً بلغتنا. كيف لا يتحدث بلغتنا؟! تلك كانت الحقيقة التي عرفنا جيداً بأنها الحقيقة الكبرى. الإيمان نفسه كان ناقصاً. جاء بلا شخصيتنا في داخلها. إيمان أجوف وهي مسألة التي أخضعنا أنفسنا لها. تذكرتُ تلك الأعين فارغة وجوفاء. يحدقون إلى المسن المفجوع. عندما نجحنا في إعادته إلى الحفل بدأ يدق على طبلته بإيقاعات البهجة إلا إن دموعه بدأت تسيل. وجد الجميع بهجتهم الضائعة مع القفزات الأولى التمعتْ الأعين من جديد.
(19)
هكذا تحدث محمودي يونس صوته مكتسي بالأسى، بين الأشجار الكثيفة كان الحدث الرهيب يتم إعداده. وتدين مغروسين حتى الأعماق. عتمة الأحراش. حفيف مثل نواح جنائزي ممتزج بدقات المتصاعدة للطبل فيما واصلتْ النجوم اقترابها وهي ترمش.
“كانت ليلة عصيبة. ظلمة بين الأحراش، تزداد كثافة. ظننتُ بأنني لا أرى جيداً. كانت الفتاة مشدودة إلى الوتدين. فستانها الأبيض مخضب بالدم وفي عينيها عتمة الخوف والقلق. وقفتْ بعيداً. سليمان أرديا وقف في مواجهتنا بكامل هندامه العسكري. يقال بأن جده قتل ضابطاً فرنسياً رفيعاً قبل سنوات. أخبرنا هو بأنه يحمل شارة عالية من الجيش الإنجليزي. ريشة كبيرة غامقة ظل يغرسها ضمن طيات عمامته. تاركاً الفتاة المتألمة وراء ظهره. في يده اليمنى عصا غليظة يضرب بها على رقبته. كنت على مبعدة. هل ترى النجوم؟ هكذا سألت رفيقي عندها. نعم، ما بك؟! لا شيء، فقط لا شيء. كنت لا أرى شيئاً، أشعر بضربات الطبل في صدغي فيما بدا أرديا يشرح. ما يتوجب علينا معرفته هو التالي: لا شيء سهل في حياتنا. نحن هنا. أنتم هنا كلنا هنا لسبب حقيقي. يأتي زمان وننسى خلاله سبب وجودنا. عصر ظلامي كما يصفه بعض أفضل الرجال. تلك الأزمان لا تدوم. الشمس تُشرق دوماً. شمسنا تُشرق هذه السنين. لماذا هؤلاء هنا برأيكم؟”.
أشار مثل قائد روماني إلى الأضواء البعيدة المنبعثة من الحامية الفرنسية – هذا ما أخبرنا به بحماس شديد، كان يجب أن نعرف بأنه مجنون – تحركتْ الريشة الغامقة التي بين طيات عمامته تقدم عدة خطوات ثم استدار ليعود لذات البقعة، قلقاً من شيء ما خفي، قال: “مهمتنا البسيطة هي هذه، تأكيد وجودنا، أولاً أمام أنفسنا ثم أمام الآخرين وهي مهمة ليستْ بسهلة، أنتم تعرفون هذا”. قال واستدار نحو الفتاة المقيدة. طالما هؤلاء بيننا لا يمكننا أن نشعر بقوتنا الداخلية، بل نظل دوماً نضع عنفنا فيهم. نجد في ذلك الخلاص الروحي. لابد أن نُدرك بأن الحياة أكبر من هذه الأجساد الهشة. هناك أمم كهؤلاء -أشار للمرة الثانية ناحية الحامية الفرنسية المتخيلة- يتركون نساؤهم، أبناءهم ليأتوا إلينا، دون أن يعرفوننا، إنهم يفعلون ذلك لسبب واحد هو إننا لم نذهب إليهم”.
لم نفهم معنى كل هذا، لكنني أقول هذا، في تلك الليلة كنت أستمع بعيني، ربما بآذان الآخرين، وكنت تلك مهمة غريبة، فقد استدار نحو الفتاة، دون أن يتطلع مجدداً نحونا، قام بتمرير خنجره الضخم من تحت عنقها، فسال دمها بريئاً، فانسابت دمعة ثقيلة من إحدي عينيها، لن تفعل شيئاً غير تطلع ذاهلة لوهلة، ثم سكنت للأبد. أعتقد بأنني فقدتُ زمني أو غرقتُ في أفكار تشوش قدرتي على استعادة تلك اللحظة. التفاصيل لم تكن تهمني. ظللتُ أستعيد تلك اللحظة. الدمعة الثقيلة. تتطلع إلى سليمان أرديا. عرفتُ هذا. بعدها بأيام كنتُ في طريقي، حينما أوقفتني إحدى فتاة ملثمة. قالتْ بأنها الأخت الصغرى لتلك الفتاة الضحية. أخبرتني بأن سليمان أرديا كان يتردد عليها، وإنها حامل منه. هكذا بكل بساطة. حين سألته عن هذا. تطلع في عيني مباشرة ثم قال بأن نصف شبان كانوا يترددون عليها. كيف أمكنها اتهامه هو بالذات؟ خلال تلك السنة غادرتْ القوات العسكرية بعد عرض مهيب، دون أن نفعل ضدهم شيئاً. ولم نعد نتساءل مطلقاً، لم نعد. أخبرتُ والدي عن هذا فقال بصوته الحكيم: “هكذا يفعل الرجال، يسمون أنفسهم قادة يحملون قضايا كبرى اخترعوها فجأة، يستغرقون في معضلات كبرى من إيجاد حلول مشاكلهم الشخصية لتنتهي القضايا الكبرى بحل مشكلات شخصية”.
(20)
ضمن التقارير الصحفية المرفقة للصورة كُتب بأنه شارك في عمليات يمكن وصفها بالجرائم بحسب القصص المتداولة فإن هذه الرغبة الجنونية هي التي تسببتْ بمقتل مريومة، مطمع جميع الشبان. كانتْ أنيقة، ترتدي الملابس المزركشة، الفساتين المطرزة المهداة من المجهولين، ترقص كالمهرة الجامحة، ذات نظرات جريئة. خلال ذلك الحفل المشؤوم كانت في الثامنة عشرة، أكثر الحظات التي يتذكرها الناس عنها هي جزء من تلك الحفلة الأخيرة. كيف رقصتْ وكيف قتلتْ على نحو مفاجئ. ارتباط القصة بالشهوة والموت. البعض يعتقد بوجود قصتين مختلفتين لحادثتين تحملان نفس الأساليب. فوق ذلك هناك شائعة تتداول عن وجود تنظيم سري يتعمد مثل هذه الحوادث كل مدة من الزمن. أخبرتُ البعض بما اعتقد، تفهموا اعتقاداتي، لكنهم لم يتقبلوها. الجدة بدورها ترى بأنها جريمة واحدة. بحسب بركاى هذا يُمكن استنتاجه من وجود جدة مريومة مبروكة العمياء التي اختفتْ من البلدة، دون أن يعرف أحد مصيرها. اختفتْ ولم يتذكروها إلا بعد مضي أسابيع من وقت آخر مرة تمت مشاهدتها. بحثوا عنها ولم يعثروا على شيء. بعد أشهر أعلنوا بأنها بلا شك ماتتْ في زاوية ما. كتب بركاى عقب عشر سنين بأنه استطاع أن يتحدث معها. القصة التي ذكرها ضمن مذكراته متأسفاً لأنه أضاع حواراته معها وهي مسألة تتكرار دوماً. ضمن المذكرات المتبقية جاء حديث يسير عن تلك المقابلة، التي وقعتْ حين كان في الخامسة عشرة، تذكرها لسبب مفهوم هو أنه بدأ يعيش نفس المشاعر حين وجد الفتاة المغربية – ماني – تعاني من الاضطهاد والتعدي الجسدي، بالضرب والتعذيب من قبل رجال العصابات في طرقات بنغازي آنذاك. ضمن تلك المذكرات -الوثائق والأوراق- التي خلفها وراءه، عثرتُ بينها الكثير من تلك الحكايات المبعثرة والتي أعادتني دوماً إلى مشروعه الاجتماعي الأول، في حالة، شعرتُ طوال السنين بأنها تفسر أغلب رغباتي الشخصية. وضعتُ خططاً هائلة في سبيل تجميع تلك النصوص، وهي مهمة بدت للوهلة سهلة مع السنين أدركتُ مدى صعوبة المهمة، بالبهجة التي تصاحب التجميع، استطعتُ فهم أهم الفواصل الكامنة بين القصص ضمن اليوميات.
تمتْ