قصة

الحوش

عن موقع بوابة الوسط

حتى وهو على مشارف الخمسين، وغادر وطنه منذ سنوات، لا ينسى كلما كان مسافراً من مدينة الى مدينة أخرى، بعض ما حصل معه أيام زمان، فتتداعى أمامه تلك المشاهد الخاطفة والمواقف العابرة فتنسيه تعب كل رحلة، ولا يحس بالملل من طول مسافاتها.

وفي كل مرة كان يطلق لخياله العنان، يلاحق ذكرياته مستذكرا تفاصيل جديدة، متناسياً أن معه مسافرين فيحدث نفسه بصوت خافت ومسموع، ويبتسم مرات، وتنقبض عضلات وجه مرات أخرى، وقد يقهقه، أو تدمع عيناه ويبكي، وقد يقف بشكل مفاجئ ملوحاً بقبضة يده في الهواء. قد يصفق بقوة، او يصفر بهدوء، متحسسا بقايا شعيرات في راسه، واضعا خنصره بلطف في فتحة أنفه، أو ضاغطا ببنصره وأبهامه على شحمة أذنه، وكان يشعر بغبطة وسرور، وهو يفعل ذلك كله أو بعضا منه في كل رحلة.

هذا اليوم بارد جداً، وهو منكمش يشعر بالدفء في كرسيه بالصف الأخير، في مقصورة القطار الأخيرة، بصره مركزا على ندفات من ثلج أستقرت أسفل حواف النافذة المغلقة بإحكام، يسند رأسه الكبير على زجاجها النظيف، يغمض عينيه ويبتسم وكأنه نام. هذه عاداته المتكررة في رحلاته، وطقوسه التي لابد منها، وهو يستجمع شريط ذكرياته، ويمني نفسه برحلة سعيدة مع ماضيه التعيس والسعيد.

في كل رحلة كان حنينه الجارف لوطنه يزداد، وكان يشعر برضى وراحة بال، كلما تذكر موقفاً كان قد نساه في رحلاته السابقة وأستذكره في رحلة جديدة، فيأخذه بساط ريح خياله إلى وطنه بعيداً عن هذا الوطن، دقائق معدودة فقط، وسوف تدوي صفارة القطار السريع لتعلن بداية الرحلة، ليرحل هو مغادراً بخياله الواسع حاضرة وواقعه الذي يعيشه، ليعيش ما تيسر من ماضي عاشه زمان.

حين صفر قطار فيكتوريا متجها  للندن، تذكر يوم رحلته من طرابلس للجبل وكاد يسمع بوضوح صوت بوق الشاحنة التي خلفه يطلب منه سائقها بعصبية ان يفسح له الطريق، فيما فقد هو كل أمل في أن يدير محرك سيارته مرة ثانية، وقبل أن يهب احدهم لمساعدته ليتنحى  جانبا، دار محركها من جديد فانطلق بها وبابها مفتوح، انطلاقة المنتصر المزهو بما يفعل، ليضع  نصف مقدمتها في ظل مبنى المصرف، وهو ينزل منها سقطت على التراب الموحل مخدته الزرقاء النظيفة، انحنى بصعوبة التقطها وتأمل بابتسامة شامتة ما لحقها من ضرر نفضها في الهواء بقوه، وضرب بها سقف سيارته، واعادها لمكانها على كرسيه بعد أن ربت عليها  ليتأكد أنها في مكانها المناسب.

المخدة السمينة بغلافها الأزرق الجميل، هي الشي الوحيد النظيف وذا قيمة في سيارته القديمة، ولأنه قصير ولا يمكنه القيادة بدونها، فقد كانت رفيقه الدائم، وحافظت على نظافتها وخصوصيتها عنده، بينما عانت السيارة كلها من أهمال يدعو الى الشفقة، ف محركها تجاوز عمره الافتراضي (تولع بالخيوط)، واطاراتها (ملحوسه)، وأبوابها بلا اٌقفال، لكنها لم تخدله يوما، ولم تتركه في الطريق، ولو تعطلت فغالبا العطل بسيط، وبسببها صار خبرة في الصيانة الطارئة السريعة. تركها مزهوا لان نصفها الامامي في الظل، وسيخرج ويجدها مغمورة كلها فيه مما سيسهل له رحلته الطويلة صوب قريته في الجبل البعيد.

دلف لصالة مصرف الوحدة فرع السواني، أستقبلته نسمات مكيفات الربيع الباردة المتبثه بعناية على الجدران، ولحسن حظه فاليوم هو منتصف مايو، وشبابيك المصرف تقريبا تستجدي المراجعين. توجه فورا لشباك السلف، أعطى أسمه وبطاقته الشخصية للموظف، فأشار إليه بالجلوس والانتظار.

حلس على كرسي طويل، وأكتشف أنه أول مرة يزور مصرفه ويجلس، تأمل أرضية الصالة النظيفة جدا الشديدة اللمعان، تمنى لو تكون أرضية (حوشه) حتى اقل جودة بكثير من هذا الرخام المصقول… ابتسم وتذكر ان السلفة قيمتها الفين وليس عشرين ألف. سمع الموظف يناديه بأسمة الثلاثي، توجه للشباك، وقع أمام أسمه، عد فلوسه، وضع في جيب فرملته الأيمن ألف، وفي الايسر ألف أخر وخرج.

لحظات ودخل طريق الفلاح الشديد الازدحام، لكنه بسرعة ومهارة، ومخالفة لقواعد المرور، ترك الفلاح كله خلفه متجاوزا بوابة الجبس في دقائق، تنفس بعمق هواء رطبا ساخنا، ونزع الفرملة ورماها على الكرسي بجانبه، وفتح الرحلة الى قريته في الجبل.

في الطريق شعر بعطش فتوقف، التقط فرملته النائمة بدلال والمتوسدة الالفين، وضعها على ذراعه، صفق الباب خلفه، وقطع السريع صوب دكان الجامع. شعر بالخجل من نفسه لرؤيته المصلين خارجين من صلاة الظهر التي فاتته جماعة، داخل الدكان أخرج ديناراً من جيبه رد له البائع ربعه، أعاده للجيب، وعاد بالغنيمة الباردة للقديمة المتربعة في الظل.

وهو يقود مركزا بصره على الطريق، بدلال وببط فتح شيشة الكفرة، وقرطع منها على مهل، قبل أن يغلقها رمقها بعين واحدة ووجد أنه شرب أكثر من نصفها، لكنه لابد ان يكملها، فالكفرة لأتشرب الا وهي باردة، لذلك ابقاها في يده يرتشف منها ما تيسر بكل حب. ولام نفسه لأنه نسى أن يحمد الله على نعمة (الميه المصقعة)، وعلى الالفين اللي في الفرملة، فحمده ودعي الله أن يكمل بناء حوشه في أقرب وقت.

الحوش… الذي يشرف والده على بناءه من سنتين، ويلح عليه دائما أن يحضر معه كل خميس أو خميس بعد خميس مبلغا مهما من المال، لاستكمال البناء وكثيراً ما كان يحرجه:

– قداش ليك في طرابلس؟ قداش ليك تخدم؟ وين فلوسك؟

لكن هذا الخميس سيكون مختلفا… بعد العزيزية بقليل أوقف سيارته ليصلى الظهر، نزل منها، لبس الفرملة. وتسمر في مكانه.!!

– يا ساتر استر.. الفلوس طاحوا.

نفض الفرملة.. فتش الجيب اليمين، اليسار، جيب(السورية)، السروال، شاف تحت الكراسي (مهناش) رجع بسرعة، دار حول المكان، لا أثر للسيارات امام الجامع، دخل للدكان سأل بعبط:

– ما لقيتش فلوس طايحات!!

– لا… عطيتني دينار رديتلك ربع حطيته في جيب (السورية).

– الربع قاعد… قالها بكل جدية وخرج

شعر بضيق لم يشعر به طول حياته.

– كيف يصير توا ؟؟

تعامل مع المصيبة بشجاعة، لكنه كان قلقا من ردة فعل والده، سيحكي له ما حدث، ويحدف الدكان و(الشيشة) من المشهد ويقول فقط أنه ضيعهما أمام الجامع.

– يعطيني سم في أمية الكفرة.

وأنتبه لها، مازال فيها اقل من النصف، خضها بعصبية، ورماها بعنف، فشعر بنوع من التشفي والارتياح، وهو يرقبها في المرأة العاكسة تتدحرج على الطريق خلفه وماؤها الساخن مهدور… نام فور وصوله لبيت والده، واستيقظ على صوته يرحب به، واضعاً جرده في مقبض شباك المربوعة الأزرق، ثم جلس بجانبه.

– قداش جبت معاك؟

– “الفين”.  قالت أخته وهي تدخل ممسكة بيدها غلاف المخدة الأزرق، ورمت من يدها الأخرى بالرزمتين في حجر والدها.

– الفين بس؟ قال الوالد الكريم

– ايه الفين بس يابوي…

___________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

بـرتـقـالــي

عطية الأوجلي

الحرباء..

أحمد يوسف عقيلة

ركبتي اليسري‮ ‬

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق