1
قبل تقاعدي بأشهر أزعجني ألم شديد يشكم ركبتي اليسري حينما أصعد سلم المصلحة أو سلم شقتي، التي كانت لحسن الحظ بالطابق الأول. ذهبت إلي الدكتور المفتي، تبسم وقال لي، بعد أن أخبرته عن عمري:
- “إنها تداعيات العمر ذ يا خوي- طبيعي أن يصاب من هم في مثل سنك بمثل هذه المشاكل!” لم أقاطعه، وإنما رسمت ابتسامة تشجعه علي مواصلة الحديث: “مشكلتك مازالت في بدايتها فلا تنزعج ، علي الأقل في هذه المرحلة..”.
اقترحت عليه أن استعين بعكاز يخفف من ثقلي عليها. قاطعني:
- “لا.. لا المسألة مازالت في بدايتها.. أنت تحتاج إلي تقويتها من دون إرهاقها.. المشي المريح يفيدك كثيرا.. امش يوميا نصف ساعة علي الأقل، إنما عكاز.. ما زال بدري عليه” ثم اتسعت ابتسامته حتي كادت أن تصير ضحكة: ” (عطك الخير).. ذكرتني بمالطي اكتشف شيبة أو اثنتين في شعر رأسه فصبغه كله!”.
2
كانت تلك بداية ممارستي للمشي اليومي. اخترت طريقاً مرصوفاً، يأخذني من أمام بيتي حتي المقهي الذي صرت التقي فيه مع رفاق سبقوني في تقاعدهم. غيرت مساري المعتاد، أطلته ليتواصل سيري نصف ساعة، فبدلا من الانطلاق من مدخل الشارع الرئيسي، صار مساري نحو الاتجاه المعاكس، ثم أنعطف يساراً وانطلق نحو شارع البط، وقبل أن أصله انعطف ثانية نحو اليسار، ثم يتواصل طريقي حتي المقهي.
عند ناصية المنعطف هناك (فيلا) فخمة من دورين.. لعلها لفتت انتباهك؟ المشماشية؟ التي غالباً ما يجلس أمامها شيخ وقور..”
- نعم، الشيخ هو أساس موضوعي. كنت كلما انعطفت نحو بيته أجده كما لو أنه ينتظرني، صرت أحس بترحيب ابتسامته الواسعة، وقد انتبهت ذات يوم أنه رفع عكازه كما لو أنه يحييني من قبل أن أحييه. لا أخفي عليك شغلني اهتمامه، لدرجة ظننت معها أنه يعرف والدي، أو أحد أفراد أسرتي مثلا؛ ولذلك قررت أن أفاتحه في ظني.
ما إن اتجهت نحوه، حتي هب واقفاً، متبسماً مرحباً. كان رشيقا، أنيقا في لباسه الليبي الأبيض وصديريته المقلمة باللونين الفضي والأسود. كان وجهه منشرحا، وبشرته بيضاء، ولحيته مشذبة يميل بياضها إلي اللون الأشقر.. عيناه زرقاوان ناعستان، وانفه مدبب، وشفتاه دقيقتان. ملامحه في عمومها، وابتسامته الدافئة يوحيان بأنه كان وسيما نشيطا في شبابه، وإنه علي الأرجح من أصول تركية، أو يمكن شركسية:
أهلا، وسهلا زارتنا البركة..” كان قد سحب كرسيا مثل كرسيه -وإن كان من دون مخدة – من خلف بابه الموارب ووضعه بجانب كرسيه: “تفضل.. تريح.. اليوم تأخرت قليلا عن ميعادك المعتاد..”.
بررت له سبب تأخري ذلك اليوم، وتحدثنا عن مواضيع شتي، حتي إنني حدثته عن ركبتي اليسري، ونصحني بدهنها قبل النوم بزيت زيتون دافئ مخفوق مع خل أصلي! وأيقنت أنه لا يعرفني ولا يعرف أحدا من أسرتي، ثم سألني إن كنت متزوجا، وإن كان لي أولاد؟ وقبل أن أجيبه استطرد:
- “أنا عندي أربع أولاد وبنتين.. لا أحد منهم موجود الآن.. بعد 103 أيام .. أما إن كان شهر شعبان ناقص، فبعد مئة ويومين فقط سوف يعودون جميعاً…!” ثم نهض: “تعال.. تعال.. أريك شققهم” لم ينتظر ردا مني، رفع كرسيه، وأعاده خلف الباب، وكذلك فعلت أنا. صعدنا إلي الطابق الأول، في بهوه أربعة أبواب. فتح الباب الأول، فرأيت شقة مشرحة جيدة الأثاث، لا توحي أن أهلها غائبون عنها: “هذه شقة عبد الباسط ، إنه أكبر أولادي.. منذ ستة أعوام فتح مكتب تصدير في دبي، فوفقه الله. لم يطل أمره حتي طلب من أخيه عبد الرؤوف أن يلحق به.. هذه شقة رؤوف..” واتجه نحوها وفتحها، فكانت نظيفة فخيمة مثل الشقة السابقة..”. كل أسبوع تأتي سيدة فقيرة تعول أطفالاً يتامي تنظف الشقق من الغبار، وأعطيها ما يقسمه الله.. الشقق ينبغي أن تكون دائما نظيفة فقد يأتي أحدهم، أو أي من زوجاتهم فجأة. ليس من اللائق أن يجد أي منهم شقته مهملة.. أليس كذلك؟. هذه شقة عمران اسمه علي اسم والدي رحمه الله عمران قرر منذ سنتين أن يدرس اللغة الإنجليزية فبعثه عبد الباسط إلي بريطانيا، ثم لحق به أخوه عبد الكافي بعد أن تزوج عمران وتحصل علي الجنسية البريطانية.. يعني أنا ليبي وابني انجليزي!!، صارت ابتسامته ضحكة عندما قال: “يحفظنا الله من حرب تشتعل بينا وبين الانجليز! يقعد هو في صف وأنا في صف!.. يا ساتر” ثم استطرد:
” أما البنتان ــ يا مولاي ــ واحدة متزوجة في طرابلس، والثانية مع زوجها في أمريكا يُحضر دراسات عليا هناك! والله ديار البنات كما هي من يوم زواجهن.. تعال..
تعال. لا أحد في البيت الحاجة ــ كعادتها ــ تشرب قهوتها الصباحية مع جارتنا..” ثم نزلنا إلي الطابق الأرضي، فكان واسعا فسيحا بهيجا.. كل قطعة، تلمع في مكانها فبدت فسحة البيت كما لو أنها محل لبيع الأثاث!
” تعال.. تعال” قال وهو يسحبني من يدي نحو درجات أنزلتنا في بطن الأرض.. وهناك، وباتساع المبني، وقفنا بصالة رخامية فسيحة: “الحاجة تفرش هذه الصالة في شهر رمضان.. فالعائلة كلها تتناول إفطارها وسحورها هنا.. كلنا! العيال والبنات. .الكبار والصغار..”ثم أسهم، كما لو أنه يتذكر تواجدهم: “يا سلام علي لمة شهر رمضان!!”.
عندما ودعته أكد عليّ أن أمر عليه بين وقت وآخر: ” أهو مثلما تري أنا دائما هنا كما لو أنني خفير علي هذا المبني. عندما أراك ثانية سوف أحكي لك كيف بنيته؟”.
3
لم أجد في المقهي أحداً من أصحابي، بل في الواقع لم أجد أحداً سوي صاحب المقهي الذي سألني عن سبب تأخري ذلك اليوم، فحكيت له ما حدث:
” لم أستطع أن أتركه بسهولة، تصور أنه يريدني أن أمر عليه يوميا،ً صحيح أنني متعاطف معه، ولكن ليس لدرجة أتخلي معها عن برنامج ركبتي.. خصوصا أنني قررت ألا أستبدل كما أشار ابني – شقتي وشقته (بفيلا أرضية)”
- “لا.. لا.. شقة، في الدور الأول خير وبركة!”.