غلاف رواية خريجات قاريونس
قراءات

برنيكا.. “خريجات قار يونس” لعائشة الأصفر

أبوبكر عبد الرحمن

غلاف رواية خريجات قاريونس

في رواية خريجات قار يونس، تحكي لنا الرواية “الأولي” لثلاثة صديقات في كلية الآداب نجاح وفاطمة والشاعرة أم العز، علاقاتهم الاجتماعية، ثم ما تلبث أن تفاجئنا نجاح، بتساؤلاتها الفلسفيُة “تعلمت في المدرسة أن “الصبار” من نباتات الصحراء” حين تقول أثر حديثهن عن الماضي والرميلة والنخيل، ” لكنني لم أره فيها، فهل بدأت تستنفد صبرها؟” إلي النصوص ذات الوجه الآخر في الرواية والمفاصل والتأويل الذي يستوقف قراءتك لتعيد النظر في النص، “ارتدت القصيدة.. العباءة، واختفت في زحمة المدرجات، “وتنتقل قائلة، “ضاق الوشاح على رأسي وحبس الدم فيه، تقاذفت الأيادي المشغولة بالتصفيق لعباءة القصيدة” ابتداء  من ترحيب فاطمة لأم العز،”أهلاً وسهلاً بالشعر”. تغرق في الزمن الكرونولوجي للرواية وسيكولوجية شخصياتها، المألوفين في الطبيعة البشريٌة، وبتواتر السرد تتعرف علي أجمل شخصيات الرواية، فتحيٌة العمٌامي، إن لهذه الشخصيٌة رواية أخري غير الرواية “الأولي” أيضاً، فتحيٌة العمٌامي، المرأة العفويٌة والمبادرة ،كما وصفت، الواقعيٌة، وليس كما توصف من أفراد شعبها، بالنكران، تلك الشخصيٌة الجدليٌة والمثيرة والمحزنة في آن كما تصفها الراويٌة، التي يكرهها ويطعن فيها النساء قبل الرجال، المؤدلجين والمتشٌددين قبل رجال الأمن، والانفتاحيين قبل التقليديين، مثل كل شابة ليبية اختارت طريقها الصعب والطويل اليوم لإثبات شخصيتها، لسبب ما تعرضت له شخصيٌة فتحية العمامي، والتي لخصت قائلة عبر مكبر الصوت في ذكري ثورة الطلاب “الليل بطوله.. عليهن خطر غالي صعيب وصوله..سامرات مابتن”

يقطع (أبن أخيها) خلوت نجاح، وفي يده كتاب التاريخ الذي لا يحبه، والذي لا أحبه أيضاً، ليقول،” ما مضي كان حاضراً لأجدادنا”، تصفن فيه لتتذكر رأيا قاله ابن قتيبه في العلم(جعل كل قديم حديثاُ في عهده)، ماضي كان حاضراً لهم، مثلما لك حاضر تعيشه جمجمتك الآن،

ويفصل (أبن أخيها) نجاح، القول، وهل مكتوب علينا أن يكون تاريخنا عبارة عن مآسي ومعارك وهزائم؟..

(نهزم لننتصر وننتصر لنهزم ! كنت أظن التاريخ يتسع لأكثر من ذلك!..)..

وتغرق مرة أخري، وتعيد النظر في ما قالته أم العز للصديق مهدي الذي حاول التقرب منها،” أنا أيضاً يعجبني الجبل” تقول أم العز لمهدي” أحب النظر من فوق..أقصد رؤية الأشياء من فوق، مما يتيح لنا، التمتع بمنظرها واكتشافها لأن اقترابنا منها أو بقائنا فيها يحرمنا متعة النظر إليها”و يحاول مهدي، بعبقرية الراوية في السرد، “انظري للبحر تحتنا، أنظري أم العز”، لتقول له مرغمة تحت إلحاح نجاح، التي توقعت من مهدي أنه يريدها (هي، أم العز) ،عندما ضغطت علي قدمها تحت الكرسي “أنا أخاف البحر لأنه غامض وسره عميق، وقد يفاجئنا في أية لحظة، بتعليق نجاح مع قرينها قائلة (لئيمة نجاح)، مسكين مهدي، ويحاول مهدي ثانية ليقول ،” أنت شاعرة..لا ينبغي هذه النظرة التشاؤميٌة..للشاعر إحساس، ألا تعتمدين عليه، وترد أم العز وتقول” في الشعر.. أما في الواقع فأخشى أن يخيب إحساسي، فليس أمرٌ من خيبة الإحساس إذا كنت مؤملاً عليه” ويرد مهدي قائلاً وهل جربتِ ذلك؟ تقولينها بحرقة”، هنا تقع أم العز في الفخ الكلامي لمهدي عندما تقول” ليس بالضرورة أن تكون التجربة شخصية نحن نشعر بالآخرين”، ويرد مهدي” جميل أن نشعر بالآخرين”،.. هنا أنا أقف لجانب مهدي، عندما فهمت الشاعرة مطبه الكلامي. لتنهي بتلك الجملة علاقة على وشك أن تبدأ.

للنص أيضا عبقرية سردية، وتسمح لك بالتأويل، وذكرني أيضاً برواية الكاتبة عائشة إبراهيم”قصيل”، فالنصوص للروائيتين لها تقنيٌة إبداعيٌة، نصوص حمٌالةْ الأوجه، وتعرقل قراءتك لتعيد النظر إليها مرة أخري. بتأويلات، أو مواقف عابرة، أخري، في الصفحة الثمانين، أيضاً، صادفني، أول سطر”بحثتُ عنك طويلاً أيٌُها الشبيه !” تجسد فيها الراوية لوحة بوهيميٌة ،تظهر جليٌة، مثل سلسلة تماثيل “ليه فوجورس” للفنان الفرنسي “برونو كاتالانو، تصٌور فيها الكاتبة واقعية الشبيه المفقود. يمتزج فيها المناجاة، التساؤلات الفلسفيٌة والاعتقاد المطلق للذات، فاضحةً تلك الأقنعة التي يضعها، وبكل تعرية ” وما خلعتها أنت فباتت من تكوينك، ظهرت فيها مجتمعة فظهرت تناقضاتك يا شبيه الأمس واليوم، من أنت غداً؟”.

في الصفحة الواحد والتسعين،سألت “أم العز” صديقتها “نجاح، الشخصٌية الرئيسيٌة في الرواية، عندما بدأت علاقتها بصلاح: احتمال !-احتمال!.. لماذا هذه إجاباتك؟. ترد صديقتها نجاح:”لأني أترك النتائج للاحتمالات والحياة عندي احتمال لكن المشكلة إني لا أستطيع أن أكون احتمالاً لطرف آخر،(أجابتها).فترد أم العز:”وهل الحلول احتمالات أيضاً؟” فترد نجاح بقولها الأثير:”لا أعتمد النصف، أنصاف الحلول، أنصاف المشاعر ولا حتي أنصاف العقوبات، فأنا لا أحب الكسر، فالقيم عندي لا تتجزأ.. لا يمكن تجزئة الحريٌة.. الوطن.. الانتماء.. لا أطيق الكسر لكني أعشق كسر المألوف”. لتقول في الصفحة الواحد بعد المائة،”نخلع الثوب الكاذب..

خلقنا في أجمل صورة، كونٌا أحسن تكوين!.

فلماذا نواري صنع الصانع.

أهو الخوف؟.أنخاف المصنوع؟.

وتكمل عرابة الحس، شعرها، ولوحتها الفنيٌة المزركشة، التي تذكر بلوحة الفنان أبوشويشة، “البشكليطة، عن قصة جميلة الميهوب”، وتقود الكاتبة الدراجة، عن نجاح، ويخنقها الفضاء الكبير الواسع، الذي يصعب التكيف فيه مع غير الشبيه!. عبر الشعر و الفلسفة، ، والتناقض مع القرين، في الصفحة العشرين بعد المئة، تقول نجاح:”(أو تكون أنت سبب ما أنا في؟”، أتقيٌد حريٌتي بهذا الوشاح؟، أم أنك فعلاً تحميني؟”، فتسأل نجاح، فتحيٌة العمامي، المتحررة، :ولكن ماذا تجنين من هذا كله، فتجيبها فتحيٌة: الذي يجنيه الرجل” فتحيٌة من أبرز بطلات الرواية، ولكن هنالك بطل من نوع آخر، الشيخ اللعنة مع برنيكا،، في رواية أم العز، الراوية “الثانية”، والتي تمنحك الكاتبة الحق في أن تضع عنوانا لها،”برنيكا والشيخ اللعنة”، تأخذ الكاتبة دور القارئة في هذا الجزء وكأنها تقرأ معنا وتشاركنا فيها، فالأفعى برنيكا، التي قال أنها جاءت إلي “الروضة” مع أبيها الملك فأعجبها المكان الخصب بسبخاته الكثيرة وخضرته الممتدة من دارنس حتي خضراي، إنها الملكة الشابة نفسها “أم العز” تحت ستارة سيدها الشيخ، فروايتها لا تخلو من المثيلوجيا ومتعة القراءة، وتبدأ مع بمأساة الحمٌال و أبن زوجته، (ابن أبيه) إبن الشيخ الحرام، الذي يحج إليه رجال القرية بنسائهم، كل اثنين وخميس، مغلباً كفة الصيرورة علي الكينونة، فيكبر ابن أبيه، ليصبح الأرق والكوابيس التي تراود الشيخ في منامه ويقظته، وتنتهي متوازيٌة مع مأساة أم العز التي أصابها الزهايمر آخر الأمر.

استفادت الراوية عائشة الأصفر، تزويد الرواية بالقدرة علي الإقناع بما يمكننا تسميته بلعبة الماتريوشكا الروسية والتي تعتمد علي بناء القصة علي طريقة تلك اللعبة الفلكلوريٌة والتي تتضمن أشكالاً مماثلة لها، و أصغر منها حجما ومتوالية أحيانا إلي ماهو متناه في الصغر، تغتني كل قصة بطابعها التابع الخاص بها، فهذه الوسائل كلاسيكية شائعة في بناء القصة، وقد نستفيد من قصص ألف ليلة وليلة بمثلاُ علي ذلك إلا أنها ليست ذات مغزي ودون أن يكون هناك انعكاسات للرواية الأم-الرئيسية، على عكس رواية أم العز القاسي، التي لها إسقاطات للرواية الأم-الرئيسية، ولهذا البناء السردي متعة غير منقطعة للقراءة.

كانت الرواية غنيٌة حقاً، بداية من ربط الأشخاص في الروايتين، كأم العز وبرنيكا، والشيخ اللعنة وصلاح، والحمال ومهدي، أو هكذا ما بدى لي، عن رأيي الشخصي، ومن تساؤلات، فلسفة، وشعر، وموروث شعبي، ،وفنتازيا تتضمن الكثير من المراتب، مقل السحري و الإعجازي والخرافي والأسطوري فيها، إلا أنك لا تستطيع إطلاق هذه الصفة، الفنتازي، على أشخاص أو أحداث يمكننا التعرف عليهم والتحقق منهم من خلال حياتنا وتجارنا في العالم،

وأترككم مع قصيدة في بداية، أو نهاية، الرواية، لا أعرف تقول:

وغدوت أحمل جرحي بكفي

وجروح الآخرين وسط قلبي

نازفات..صارخاتْ

فمحيط العمر قد جفت مياهه

والشواطئ موحشاتْ

والضمير يحتضر

تحت أقدام الرذيلة في المدينة

والمآقي في سباتْ

أي رفيقي

-جئت لا أدري من أين-

ولكني أتيتْ مبصراً ما هو آتْ

لا أتيه في بلادي

فالخريف نجمي القطبي

ودموع البؤس في الأطفال

شمعداني.. والشتاتْ

_________________

نشر بموقع الأيام

مقالات ذات علاقة

الدّبسكي يقود حافلتهُ في شوارِع طرابلس

رامز رمضان النويصري

كتابُ (جنان النّوار) احتفالٌ بالنصِّ… اِحتفاءٌ بالكّاتبِ

يونس شعبان الفنادي

مطلوق سراحك.. أعلى من الطير، تحلق الكلمة

المشرف العام

اترك تعليق