آمال عوّاد رضوان
أمسيةً ثقافيّةً في قاعة القديس يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 9-2-2017، ووسط حضورٍ من الأدباء والمُهتمّين بالشأن الثقافيّ أٌقامها نادي حيفا الثقافيّ، برعاية المجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، تناولت كتابَ يوميّات نسب أديب حسين بعنوان “أسرار أبقتها القدس معي”، وقد رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة مؤسّسُ ورئيسُ نادي حيفا الثقافيّ، ثمّ تحدّث المحامي كميل مويس عن أهمّيّة الكلمة وحرّيّة التعبير، واستنكر أمرَ مصادرة رواية “جريمة في رام الله” للكاتب عبّاد يحيى، كما رحّبَ بالحضورَ د. نبيه القاسم باسم العائلة، ثمّ تولّت الإعلاميّة إيمان القاسم عرافة الأمسية، وقد تحدّث عن كتاب المحتفى بها كلٌّ من د. باسيليوس بواردي، ود. عمر يوسف والمحامي حسن عبّادي، تخلّلتها قراءاتُ نسب حسين لنماذجَ من نصوصِها، وفي نهاية اللقاء شكرت حسين الحضورَ، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!
افتتاحيّة المحامي كميل مويس: الحضور الكرام، نرحّب بكم أحرّ ترحيب. الكتابة مسؤوليّة وحرّيّة تعبير، والكلمة هي محرابٌ مقدّس لا يجوز العبث بها وتقييدها، وما حصل مع الكاتب عبّاد يحيى من مصادرة روايته الثالثة “جريمة في رام الله” غير مقبول علينا، يتعارض مع حرّيّة الكلمة والتعبير، خصوصًا لشعبنا الفلسطينيّ الذي يفتخر بأدبائه وكُتّابه وحرّيّاتهم في النشر والإصدارات الأدبية. تحية شكر وعرفان للمجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا لدوره الهامّ في دعم العلم والثقافة في مجتمعنا، فقد أسّس الكليّة العربيّة الأرثوذكسيّة عام 1951، والتي أصبحت مع مرّ الأعوام كليّة قطريّة، تجمع تحت كنفها كافّة فئات مجتمعنا العربيّ من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن كلّ حدب وصوب على مدار 65 عامًا، ومنذ عام 2000 قبل سبع سنوات بات راعيًا وداعمًا لنشاطات وفعاليّات نادي حيفا الثقافيّ، والذي غدا منصّة أدبيّة تستقطب الجميع وباعتزاز. نأمل أن تستمتعوا بالأمسية، وبمداخلات د. باسيليوس بواردي، والمهندس د. عمر يوسف والمحامي حسن عبادي، ومع ضيفتنا الكاتبة نسب أديب حسين التي تأتينا من منحدرات جبل حيدر الشامخ وقرية الرامة العزيزة على قلوبنا، ومع الإعلامية إيمان القاسم عريفة الأمسية.
مداخلة د.باسيليوس بواردي: يقوم الكتاب على سرد ذاتيّ للمؤلفة في مواقع عدّة من مدينة القدس، وهو سرد أقرب إلى التوثيق الأدبيّ لجولات يوميّة كانت تقوم بها في أرجاء المدينة، وتتراوح العمليّة السرديّة في الكتاب بين الوصف الواقعيّ لتفاصيل المدينة الجغرافيّة، ولمعالمها الأثريّة والتاريخيّة والاجتمماعيّة والثقافيّة من جهة، وبين حفريّات شعوريّة ذاتيّة تقرّب العمليّة السرديّة إلى التعبير الفنّيّ والجماليّ الأدبيّ من جهة أخرى. هذا التضافر بين الوصف الواقعيّ والوصف الداخليّ الشعوريّ هو برأيي ما يُقرّب هذا العمل من الوجهة الأدبيّة الفنّيّة، ويمنحه لمسة النصّ الجماليّ التي تميّزه عن الدليل الجغرافيّ الجافّ، أو كتابة اليوميّات الحافلة بالوقائع الخالية من الأبعاد التخييليّة.
يعتمد هذا الكتاب ظاهريًّا على جولات ميدانيّة للمؤلفة في أرجاء مدينة القدس، فتصفُ في تجوالها معالمها وتشرح قضاياها، وترصد الإشكاليّات الوجوديّة لواقعها المَعيش، على أنّ هذه الجولات تقوم بالأساس على التشابك المَتين بين المؤلفة وروحانيّة المدينة الأثريّة، والجغرافيّة ليست إلّا جانبًا واحدًا من هذه العلاقة الوجدانيّة العميقة التي تربط المؤلفة بكلّ جزء من هذه المدينة. ليس الكتاب وصفًا للأبعاد الجغرافيّة للقدس، بقدر ما هو كشف عن التمازج الروحانيّ بين ذاتيّة الكاتبة ووجد هذه المدينة. “أن يُرهقك عشقُ مدينة” يعني أن “تلوح أمام عينيك وتناديك: متى ستاتي؟” هذا المجيء يحمل معه في القدس بالذات أفراحًا صغيرة بحسب تعبير المؤلفة، تُفسدُها على الدوام سلوكيّات الراهن فيها من صراع على الأرض والمأوى والإنسان، فالراحة مطلبُ المؤلفة في قدسها، على أنّها راحة يُرافقها دومًا نشازُ الحال ومظاهرُ القسوة والسيطرة والجبروت فيها. المدينة المعشوقة عندها تتأرجح بين حالتين جوهرهما التناقض والتضاد. المعشوقة تُلهمها بشطحات روحانيّة تُضفي على روحها الزهو والنشوة، وفي آن تُشعرها بضيق السطوة والظلم الجاثم على حواري هذه المدينة وفي ثنايا روحها: “لماذا يُصرّون على الظهور في كلّ مرّة؟ أليثقلوا صدري وصدر المدينة؟ ألا يَحقّ لي ولو لمرّة أن أرى مدينتي بعيدًا عن بنادقهم”؟ ص101. هذه المَشاهد الممزوجة عند المؤلفة هي حقيقة هذه المدينة التي تعيش التضاد العميق في كلّ تفاصيلها؛ الجمال والبشاعة، الحرّيّة والكبت، الكبر والذلّ، الحُبّ والكراهية، هذا التضاد العميق هو الروح الحيّة لهذه المدينة، وهو الجرح النازف فيها: “الشمس تهبط رويدًا رويدًا.. تختلط المَشاهد مرّة أخرى. ما زلتُ أرى الدخيل المتّشح بالسواد يتصفح وجه المكان.. يبقى شعاعٌ صغير من جسد الشمس يوشك على الغياب.. يَشهد أحلامَنا المتناقضة.. يغيب هو.. يرحل الشعاع وأمضي.. سنرى من سيشرق ذات ذات يوم ؟” ص102.
برأيي، يتأسّس السردُ في هذا النصّ على الهُوّة الفاصلة لحدود الأمكنة الواقعيّة في النصّ، والأمكنة الداخليّة الشعوريّة العميقة في وجدان الساردة، لتصبح الأمكنة الواقعيّة أداةً لتوثيق الروحيّ المتأصّل فيها، ليست الكنائسُ والمساجد والسور والحواجز والشوارع والأزقّة الملتوية مَدخلًا إلى علم الجغرافيا أو السياحة، وليست مَواقعَ على خارطةٍ ترسمُ حدودَ الأمكنة والأزمنة، بل شواهد على رمزيّةٍ تُمثّلُ صراعَ بقاءٍ وجوديّ أو مَحوًا أبديّا. القدس في هذا السياق فضاءٌ رحبٌ يتأسّس على ثنائيّة الزمان والمكان المُتداخليْن معًا (spatio-temporel)، إنّها ليست المكانَ بقدر ما هي الممارساتِ والعاداتِ التي يَسلكُها الناسُ في هذا المكان بتأثيرٍ منه. إنّ القدسَ في جولاتِها تتمتّعُ بالديالكتيكيّة الحركيّة الساعية إلى فهم الوجود الإنسانيّ بشكلٍ أعمق. يُعطي المكانُ (القدس) للعمل الفنّيّ التخييليّ مَظهرًا واقعيّا، وهو عنصرٌ مُشاركٌ في الأحداث. يظهر المكان السرديُّ ككيانٍ مُركّبٍ كامل، ولكنّه يشتقّ وجودَهُ من اللغة، ويُؤثّرُ هذا الجانبُ اللغويُّ على طبيعة الفضاء الروائيّ، ليَجعلهُ يتضمّنُ كلّ المشاعرِ والأفكارِ والتصوّراتِ المكانيّةِ التي تُصوّرُها اللغة، ويختلفُ بذلك عن الأماكن والفضاءاتِ المُتعلّقة بالعلوم الفيزيائيّة.
المكانُ في العمل الأدبيّ شخصيّة مُتماسكة وجزءٌ مِن الحدَث، لذا؛ فهو “الجغرافية الخلّاقة”، إذ يحملُ في طيّاتهِ دلالاتٌ تُحاكي شيئًا في ذاتِ الكاتب أو في الذات الاجتماعيّة، ويؤكّدُ روسوم (rossum) على أنّ الأماكنَ تُساعدُ القارئَ في فهمهِ للشخصيّات، ويُعتبرُ المكانُ الروائيُّ مَخزنًا للمشاعر والأفكار العميقة، وتنشأ بين الإنسان والمكان الذي يعيش فيه علاقة متبادلة، فيؤثر أحدُهما على الآخر، ويساعدُنا تحليلُهُ على إيجاد المعنى الحقيقيّ والكامل للعمل الفنّيّ”.Weisgerber 1978 ,P.227 كما يُبنى المكانُ أو الفضاءُ الروائيّ وفقَ نظر الشخصيّة التي تعيش فيه، وذلك وفقا لمنظور الروائيّ ووجهة نظر السرد، فيتحكّمُ فيه ويسيطر على تنظيمه، لذا فقد يظهر مُوحّدًا أو مُقطّعًا، لكنّه يُبنى أيضًا وفقَ منظور القارئ عندما يُتمّمُ الصورة الفضائيّة الأدبيّة في خيالهِ، وهذا ما أفعله أنا اليوم. يحتوي النصّ على العديد من أنواع الأمكنة التي سأختصرُها بأربعة أنواع أساسيّة، وسنقفُ من خلالها على القضايا الأساس التي تُميّز هذا العمل الأدبيّ:
الأماكنُ المُتقاطبة: يُبلورُ لوتمان (Lotman) نظريّة التقاطب المكانيّ، مُؤكّدًا بأنّ غالبيّة النماذج الاجتماعيّةِ والدينيّةِ والأخلاقيّةِ التي تُساعدُ الإنسانَ على فهم واقعِهِ، تتضمّنُ خصائصَ مكانيّةً متقاطبة نحو السماء والرض والأرض، من خلال مبنًى هرميٍّ سياسيّ اجتماعيّ مثل: عال – منخفض، أو صراع أخلاقيّ مثل يمين- يسار. أمّا ويسجيربر (Weisgerber) فتتبنّى نظريّة لوتمان، وهي تُؤكّد على أنّهُ كلما زادت حدّة هذه التقاطبات أصبح الفضاءُ الروائيّ مُشوّقًا أكثر. إذن؛ الارتباط بينَ التقاطبات المكانيّة في العمل الأدبيّ والأبعادِ الفيزيائيّةِ والهندسيّةِ هو ارتباط واهٍ، وذلك خلافًا لِما يَظهر، وبالرغم من هذا، فهذه المفاهيمُ تُشكّلُ النظامَ المرجعيّ لتحليل الفضاء الروائيّ، بالإضافة لربطها بسياقاتٍ تاريخيّةٍ واجتماعيّةٍ وبالمعارف والعلوم الأخرى. القدس بالنسبة للمؤلفة مكانُ التقاطبات الأمثل، لأنّها تُمثّل كلّ التقاطبات الاجتماعيّة والتاريخيّة والسياسيّة والثقافيّة، وهي تُترجم هذه التقاطبات مقابل الجانب الاسرائيليّ الذي يَحتلّ الجانب المعاكس للمجتمع القدسيّ وتاريخه وسياسته وفعاليّاته الثقافيّة. الجندي الإسرائيليّ المتواجد على الدوام في كلّ مكان يتقاطب وفق حسين مع المنظومة الأخلاقيّة التي تعيشها في القدس، أو على الأقلّ الذي تريد أن تعيشه. إنّه الظلم والاعتقال والتعدّي والحصار، بينما تُمثّلُ القدس بانتمائها العربيّ عند حسين القطبَ الأمثلَ للحرّيّة والكرامة والضحيّة. التقاطبُ المكانيُّ في النصّ أساسٌ لفهم مدى النقد الشامل الذي تحاول المؤلفة بثّهُ، من خلال تعميق حدّة التقاطب.
منظور الحدّ: يدّعي لوتمان أنّ وجود الحدود هو مميّز طوبوجرافيّ مُهمّ في النصّ الأدبيّ، وذلك انطلاقًا من كوْنها تقسّم العمل الأدبيَّ إلى فضاءيْن مُنفصليْن لا يلتقيان أبدًا، وهذا ما يحدث في النصّ من خلال مصطلح الحاجز أو الجدار الفاصل. لقد فرحت المؤلفة فرحًا لا يوصفُ، عندما تلقت الخبرَ عن جاهزيّة مولودها الثالث، وهي تُحدّثنا عن طفل خلف الجدار، وعن مدى تشوّقها للوصول إلى المطبعة لتلقّي النسخة الأولى من كتابها، لكنّ الفاصل يمنعها من الوصول ويُعيقُ فرحتها. هذه الحادثة على بساطتها وعفويّتها تشير بشكل صارخٍ إلى الفصل القسريّ للكينونة الفلسطينيّة: “كلّما اقتربتُ تسارعتْ نبضاتي أكثر، وخاصّة هناك اللونُ الرماديّ، هذا اللون الذي أقيمَ ليقسم شارع القدس رام الله إلى قسميْن، وليفصلَ قرية الرام عن بيت حنينا المُحاذية لها، أما كان أجدى وأعذب لو غاب عن عيني وعيون القاطنين هنا” ص48. من المثير حقّا أن نقرأ قصيدة “زيارة للبيت الفقيد” (ص72– ص74) التي ضمنتها المؤلفة في النصّ السرديّ، تخاطبُ فيه أباها وبيتَه الذي هجرَهُ بعد أن تعلّمَ في مدينة القدس. القصيدة تقودنا إلى نوع آخر من الحدود، تتمثّلُ في هذه الحالة بالباب، والبابُ هنا حدٌّ بين تاريخ ماضويّ عزيز على الساردة، وبين تاريخ حاضر يصرخُ ظلمَ الماضي. البابُ في هذه القصيدة حدٌّ بين الحنين والالم، وبين الوجود الأبويّ والوجود الأبويّ المفقود.
المكان الحميميّ: (Intimate place): القدسُ هي المكان الحميميُّ المنشود عند المؤلفة، والذي يُوفّرُ البديلَ الأمثلَ في حالة لم تُسعفْ قريتها الرامةُ مكانُها الحميميُّ الأوّلُ، فرصةَ تأمين الحماية الوجوديّةِ لها، فالمكانُ الحميميُّ يوفّرُ الحماية لقاطنيه، ومن هنا فهو يُكثّفُ الوجودَ في حدودٍ تتّسمُ بالحماية. تقول: “أتنهّد وأعترفُ أنّي تعبتُ من السفر، لكن ليس مِن السهل أن تعشقَ مكانيْن، فإنْ أجادَ كلُّ مكانٍ ضمَّكَ إلى صدره، تشعرُ أنّ لحياتكَ قيمةٌ أكبرُ، وكلما تنقّلتَ بينهما وإن أغضبكَ أحدُهما تُهوّنُ على نفسك فتقول: “لي مكاني الثاني وسيُخفّفُ عنّي”. ص81-82. على أنّنا لو تمعّنّا قليلًا في أعماق السرد، سنكتشف أنّ الرامة مكانٌ حميميٌّ أساسٌ عند حسين، فالقدس قد تشير إلى المثال، والرامة تبقى الموطنَ الأوّلَ، فتقولُ محاورةً ظِلَّ أبيها عندما يسألها: “ألن تعودي إلى الرامة؟ تجيبه: سأعودُ عندما ينضج زرعي هنا” ص72. هذه الإجابة غير المتردّدة تكشف عن قيمة القدس لديها، ولكن في الوقت ذاته عن قيمة الرامة الجوهريّة في وجودها.
الأماكن الإيتوبيّة والهتروتوبيّة: يُشير (Foucault) إلى وجود نوعيْن من الأماكن الموجودة الأخرى: النوع الأوّلُ هو إيتوبيّ مثاليّ(utopias) وهذا المكان واقعيّ مُتخيَّلٌ، يبعث الهدوءَ في النفس ويُعزّي الإنسانَ في مِحَنِهِ، وهنا نتخيّلُ مع المؤلفة القدس المُتخيّلة المُتواجدة خارج حدود الزمن الحاضر، تلك التي تحلم فيها بالأفراح الصغيرة، وفي المقابل توجد في كلّ حضارة أماكنُ واقعيّة حقيقيّة، لكنّها لا تحملُ في طيّاتها مزايا المكان المثاليّ، فهذه الأماكنُ هي خارج كلّ مكان، بالرغم من أنّها قد تشير إلى أماكنَ واقعيّةٍ، وهو يُسمّيها هيتروتوبيا (heterotopias)، وتمتاز الهتروتوبيا بميزة التعدّديّة، فالمكان الواحد قد يحوي عددا من الفضاءات نحو المسرح والسينما، والذي يحوي عددًا من الأمكنة المختلفة من خلال المَشاهد المعروضة. هذه الأماكن أيضًا قد ترتبط بالزمن بشكل تراكُميٍّ تتابُعيّ، مثل المكتبات والمتاحف التي تحوي بين ثناياها أزمنةً وحُقبًا عدّة. تتمتّعُ هذه الأماكن أيضًا بميزة ازدواجيّةِ الانفتاح والانغلاق، وهذه الميزة غالبًا ما تكون إجباريّةً مثل السجن، أو على الأقلّ مَن يدخل هذه الأماكنَ عليه الالتزام بطقوس مُعيّنة مثل الحمّام العامّ في الشرق، أو الساونا في الدول الإسكندنافيّة. الهيتروتوبيا برأيي تتواجد عند حسين في المسرح الحكواتيّ، في اجتماعات (دواة على السور) و (اليوم السابع)، فالأمكنة الثقافيّة تُشكّلُ هذا المكان الواقعيّ المتواجدَ خارجَ فاعليّة الموجود المكانيّ المُعتاد، فيه تعود الروح إلى المؤلفة وتشعر بالعزّ والعظمة.
هكذا وختاما لهذه المقاربة، يجب أن أشدّد على أنّ هذه اليوميّات التي باحت من خلالها المؤلفة بأسرار عنها وأسرارٍ عن القدس تُشكّلُ حلقةً مُهمّةً، في محاولةِ فهم الإنسان الفلسطينيّ لذاته، من خلال المكان وفهم المكان، من خلال عناق الذات معه. القدسُ عيّنة مركزيّة للكينونة الفلسطينيّة المُشرذمة القابعة في بشاعة التسلّط وجماليّة الجوهر. لقد أرادت حسين أن تُعيدَ الصلة بين القارئ والقدس، أو على حدّ تعبيرها، تُقصّر المسافة بينهما، فما كان منها إلّا أن قصّرت المسافة لفهم الفلسطينيّ الإنسان، من خلال أبعاد المكان. “أسرارٌ أبقتها القدسُ معي” محاولةٌ ناجحة لرسم خطوط الطول الفلسطينيّة وخطوط العرض، أو لرسم خارطةٍ جماليّةٍ عميقةٍ للوجود الفلسطينيّ في القدس خاصّةً، وفي مواقع التواجد الفلسطينيّ عامّة. وأُنهي بقول أبي تمّام: وَطـولُ مُـقـامِ المَـرءِ فـي الـحَـيِّ مُـخـلِـقٌ/ لــديــبــاجَــتَــيــهِ فَــاغْـــتَــرِبْ تَـتَــجَــدَّدِ/ فَـإِنّـي رَأَيـتُ الـشَّـمـسَ زيــدَتْ مَـحَـبَّـةً/ إِلـى الـنَّـاسِ أَن لَـيـسَـت عَـلَيـهِـم بِـسَرمَـدِ
مداخلة د. عمر يوسف بعنوان نسب والكتابة مع المدينة: عندما بدأت بقراءة كتاب “أسرار أبقتها القدس معي”، شعرت بأن نسب تأخذ بيدي، وتجرّني لأمشي معها في تفاصيل المدينة، لأكتشف ملامح المكان في معالم العظمة التاريخيّة ومشاهد الحياة اليوميّة، وما أن تبعتها، حتى أدخلتني الى الحارات العديدة لتُعرّفني على قاطنيها، ثم استوقفتي في بعض الزوايا التي تعرفها، لأطل على مشاهد تستعرض فيها مدينة القدس بمفاتنها المعماريّة ومشاهدها التاريخيّة بكلّ روعة. وكما نعتقد كمعماريّين، بأنّنا نشكّل المكان وهو يُشكلنا بدوره من جديد، لم تكتفِ نسب بدوْر الدليل السياحيّ، بل أدخلتني إلى قلوب أصحابها ولمعاني الحياة على طريق المعاناة اليوميّة تحت الاحتلال وممارساته البشعة، لتنقل لي مشاعر وأحاسيس الناس وروايات قصصهم دون جعجعة، وعلى الرغم من نقص الجعجعة، لم تفقد الأمل، وكانت تُعبّئه دائمًا وتمزجه في نصّها السلس. وكثيرًا ما كنت أبتلع الطعم راضيًا، وفي بعض الحالات شعرت بالاستفزاز لأنّني تعوّدت على الكوابيس المُحبِطة، ولم أعُد أتجرّأ على الخوض في أحلام الأمل.
في البداية أنا فخور بوجودي هنا للحديث عن كتاب لإحدى طالباتنا المتميّزات في برنامج ماجستير الدراسات المقدسيّة في جامعة القدس، ويُسعدني أن أقرأ بأنّ برنامج الماجستير كان له تأثير واضح في بعض نصوص هذا الكتاب، حيث نلاحظ المنهج البحثيّ وأسلوب التوثيق العلميّ اللذان ساعداها على إصدار يوميّات مميّزة وغنيّة بالمعلومات التاريخيّة والمعماريّة الموثقة، وليس فقط بالمشاعر والأحاسيس التي تجول في روح الكاتب عند التجوّل في أزقة هذه المدينة الرائعة. من خلال هذا المشوار القصصيّ في التجوال ما بين المباني التاريخيّة وقصص الحياة اليوميّة ونبض الشارع الشعبيّ، قامت نسب بتقديم حصاد صادق لمجموعة من المشاكل الجادّة التي تواجه مدينتنا الحبيبة، وعلى كافّة المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وحتى الاقتصاديّة منها، وفي نفس الوقت أدخلتنا إلى معاني الهُويّة الوطنيّة وأشكال المقاومة اليوميّة، وبهذا أرى أنّ كتابها “أسرار أبقتها القدس معي “هو يوميّاتٌ جمعت بين العامّ والخاصّ بطريقة متوازنة ومُنعشة، لتقدّم كاتالوج من القضايا المجتمعيّة التي تنتظر المزيد من البحث والمعالجة الأدبيّة والعلميّة على حدّ سواء. هكذا كتبت نسب مع المدينة وليس عن المدينة كما تقول، وفي هذا السياق شعرت بنسب ترافق القدس وتصادقها، فما كان من المدينة إلّا أن كشفت لها عن أسرارها ودلّتها على خباياها العزيزة، وعرّفتها على الأزقّة والقناطر، وفتحت لها أبواب البيوت وسردت لها كثيرًا من الخواطر، ليكتبا معًا قصّة حبّ سرمديّ سيصمد أمام صعوبات الحياة ونوائب الفراق.
خلال مشوار القراءة الممتع، شدّني كثيرًا هذا الكمّ الغنيّ من تفاصيل الحياة اليوميّة وأبطالها الذين يُشكّلون ملامح الحياة الحقيقيّة في المدينة، ممّا أصابني في نقطة ضعفي، حيث أنّي لم أعد أؤمن بثورة الأسياد ومن يقفون على الخشبة تحت الأضواء، بل أميل إلى مَن هم وراء كواليس الحياة، إذ إنّهم في الغالب سرُّ نجاح كلّ عمل، فبينما تُفقدنا الأضواءُ حرّيّتنا لنصبح عبيد العرف المألوف، ولا نستطيع الخروج عن النصّ العامّ إن أردنا البقاء في دائرة الضوء، كثيرًا ما تُوفّر عتمة الكواليس فرصَ الابتكار والإبداع والتحرّر للعاملين في الظلّ، لذا لم أعد أصدّق الوعود الخطابيّة بالتغيير العظيم، وصرت أبحث عن الخطى الدؤوبة التي تَرى كَمّ الإنجازات الصغيرة على طريق التغيير والتحرّر. هكذا سعدت بلقاء العديد من أبطال الحياة اليوميّة والمكافحين على دروبها، فأحسست بتنهّدات الفلاحة أم صابر، وكلّ فلّاحة تتسلّل من خلال جدار الفصل العنصريّ لتبيع منتوجاتها في أسواق البلدة القديمة، وتعرّفت على هموم بائع الجرائد المخضرم أبو سلام، وهو يُجالس بابَ العامود منذ عقود رسم خلالها صورة المدينة لأجيال عديدة، وتعرّفت على ملامح مدينتي من خلال تفاصيل الوجوه الجالسة على جانبيّ السوق، ولم تكتفِ بتقديمي إلى الكثيرين ممّن يَنسجون مشهد المدينة اليوميّ، بل مرّت معي مرارًا على الجدار المشؤوم، لتستحضر في نفسي ذات القلق واللهفة اللتان عانت منهما عند محاولة الوصول إلى رام الله، بَعد التخلّص من الأزمات الخانقة حول حاجز قلنديا الكريه.
في كلّ هذا رافقتني الكاتبة كامرأة مستقلة جريئة هي أختٌ للرجال، بعيدًا عن الصورة النمطيّة التي لا تزال تُعشّش في عقول البعض المحافظ، فرأيت فيها قدوة ونموذجًا للفتيات في وقتنا الحاضر، فهي متواجدة في كلّ المناسبات من أفراح وأتراح، تُعزّي بالشهداء وتستقبل الأسرى المُحرّرين، تحاور الرجال ولا تقف خلفهم، تشاركهم في كافة نشاطاتهم وكثيرًا ما تبزهم، وعلى الرغم من ذلك، وجدت إنسانة صادقة تعترف بجميل الآخرين ودوْرهم في رعاية تجربتها وتشجيع قلمها، فهي لا تتردّد في ذكر زملائها في “دواة على السور” أو في “ندوة اليوم السابع” وكتابها، ممّن شجّعوا نسب ورعَوْا تجربتها في السنوات الأخيرة، فتراهم حاضرين في كتابها. وهنا أذكر الكُتّاب جميل السلحوت وإبراهيم جوهر، على رأيها “عمّي إبراهيم وعمّي جميل”، وكلّما سمعت ذلك منها، كنت أنسى بأنّها من الجليل وأعتقد بأنّها من جبل المُكبّر.
أمّا أسلوب الكتابة فجاء سرديًّا سلِسًا، وبلغةٍ جميلة تتأرجح ما بين أسلوب الباحث وإيماءات الشاعر، بتوازنٍ يدفع القارئ إلى التفَكّر والمراجعة الذاتيّة. أسلوب تميّز بالصدق العفويّ القادر على إيصال المواضيع المُركّبة الى روح القارئ دون تكلّفٍ أو خطابة مفتعلة، فقد تحدّثت عن السياسة والبشر بإنسانيّةٍ محسوسة حافظت على أصول العمل الأدبيّ، ولم تتحوّل إلى بيان سياسيّ يتحيّز للشعارات بدلا من شاعريّة الأدب، هكذا نجحت الكاتبة في التعامل مع التحدّي الذي يُواجهُنا كفلسطينيّين وككُتّاب الشعوب المقهورة، إذ كيف لنا أن نكتب عن المآسي الكبرى دون الوقوع في فخّ البيانات السياسيّة والكتابة التقريريّة، وهنا لا أطالب أبدًا بفصل السياسة عن الأدب، بل أؤكّد على أهمّيّة الربط بينهما ولا أستهجن ذلك حتى في قصائد حُبّنا، لكن يكمن التحدّي الأكبر في قدرة الكاتب على أن يبقى في إطار فنون الأدب، دون الانزلاق إلى لغة البيان السياسيّ والخُطب الرنّانة، بالرغم من أهمّيّتها في المجالات الاجتماعيّة الأخرى، فلكلّ مقام مقال.
في النهاية تحضرني مقولة للشاعر الفلسطينيّ غسّان زقطان، وهو يدعو إلى “تحرير الأدب الفلسطينيّ من فقاعة البلاغة”، وقد فهمتها على أنها مطالبة بتخليص الأدب من الجعجعة السياسيّة، وجمل البلاغة والتعظيم والسجع التي كثيرًا ما تُغطّي على الحقيقة الحسّيّة وتُزاود بالشعارات، وهنا أتذكّر المثل القديم “أسمع جعجعة ولا أرى طحنا”، بمعنى كلام بدون فعل. أمّا بخصوص كتاب “أسرار أبقتها القدس معي” فأقول مُتيقنًا، بأنّي أرى طحنًا وطحينًا ولا أسمع جعجعة. كتابٌ شيّق وتجربة رائدة بلغة إنسانيّة مليئة بالصدق والأمل.
مداخلة حسن عبادي بعنوان أسرار أبقتها القدس معي: كاتِبَتُنا نسب عاشَت القدسَ حتى النُخاعِ، بطولِهَا وعَرضِها حتى الوريد، وكتبت (ص 245) “أنا آتي في معظمِ الأيامِ إلى البلدةِ القديمةِ ليس بدوافع عبثيّة، بل لأرى وأسمعَ وأعلمَ عن قُرب ما يحصُل”. ذكّرتني بقُدُسي زهرَةَ المدائنِ التي أهدتني زهرتي فتعرّفت إلى زوجتي هناك، بين أزقَتَّها في بابِ حُطّة وباب السلسلة والسعديّة، مع بائع الكعك وعرائش البطيخ، حمّص أبو شكري ومطاعم أميّة وفيلادلفيا، حلويات جعفر وبنّ إزحيمان وملحمة السنيورة في حيّ النصارى، في سهرات الدانيش تي هاوس وبارات البلدة القديمة، بشراب اللوز والتمر هندي، بشطحات مكتبة صلاح الدين وباب خان الزيت ، بدرجات باب العامود ودردشاتنا مع البائعات الخليليّات، وكتبَت نسب خواطرَها لتصوّرَ فترةً زمنيّةً بكاميرِتها الأنثروبولوجيّة، بعيدة عن الشعارات دون ابتذالٍ وأصابت الهدف.
نسب شاهدةٌ على العصر، حيث كتبت خواطرَها حسبَ رُؤيتها للأمورِ بمنظارِها وتصوُّرها دون مُواربةٍ ورياءٍ، وبنظرةٍ ثاقبةٍ تُعبّرُ عن مَوْقفها، وتصوّرُ مشاهداتٍ من الحوادثِ والقصصِ التي عاشتْها حولَ معاناة شعبِنا اليوميّة ومآسيه الصغيرةِ/ الكبيرةِ، وتُذكّرُني بتوفيق الحكيم و”يوميّات نائب في الأرياف”، ومحمد حسنين هيكل وتأمّلاتِهِ. تشخّصُ نسب في هذه الخواطر (115 خاطرة) روايةَ شعبٍ ويوميّاتِهِ حيث تَعرضُها بأسلوبٍ مميّزٍ متألّمٍ موجوعٍ، تتطرّقُ لأشياءٍ صغيرةٍ تمُرّ في حياتنا، لا نُدركُ أهميّتَها وجمالَها، ربّما لصغرِ حَجمِها أو لعدمِ اكتراثنا بها، أو لأنّنا نضعُ نظّارةً لا ترى مثلَ هذه الأمور إلاّ إذا غيّرنا عدساتِ نظّارتِنا، وبدأنا نُقرّبُ الصورةَ لنرى تفاصيلَ الأمورِ، عندها سنرى أمورًا صغيرةً لها تؤثّرُ فينا.
أبدعتْ نسب بكتابةِ خواطرِها على أصولها: بدايةً باختيارها لعنوان كلّ منها بحيث يكونُ له صلةٌ بموضوعها، فكانت عناوينها مميّزةٌ تشدُّ القارئَ وتوحي وتلمّحُ: (حين يرقصُ النورً في أزقة القدسِ/ ابتسامة رمضان المواربة/ عين كارم والجَمال الموجع/ ابتسامة مقدسية في دربي/ سلوان وظلال أشجار تختنق في حيّ البستان/ أحلام مبتورة في سلوان)، ومن ثَمّ البداية جعلتها مُلفتةٌ وأشدّ وقعًا على القارئ من عنوان الخاطرة، كي تستهويه لمتابعة القراءة إلى النهاية، فالتعمّقُ في صُلبِ الموضوع يكمُنُ في إبحارنا مع الخيال، فلا يقتصرُ على الواقع الذي نمرُّ به لكي نصلَ إلى مزيجٍ من الإبداعِ يصلُ بعضُهُ البعضَ بكلماتٍ مترابطةٍ، توحي إلى تزيين الواقعِ برسمِ الخيالِ وطرح عُنصر التشويقِ، وذلك بأن نجعلَ سرّها وتساؤلاتنا في بدايتها تكونُ الإجابةِ عليه في نهايةِ الكلماتِ، حتى نصلَ إلى خاطرةٍ واضحةٍ بعيدةٍ عن معاني الغموضِ ومُفعمة بالتشويق، وكأنّ نسب تكتبُ ذكرياتٍ وشطحاتٍ ومذكرّاتٍ ويوميّاتٍ مقدسيّة عن فترةٍ زمنيّةٍ لم تَكَدْ تُغادرُها، مخالِفةً كبارَ الكتّابِ الذينَ ينتظرونَ الكهولةَ ليكتبوا عن فترة شبابهم، فتميّزت باختيارها للمواضيع ووضوح الرؤيا/ فكتبت ما رأت عيناها وما جالَ في خاطِرِها لتُجذبَ القارئَ دون كللٍ أو مللٍ.
تشير نسب بهوامشها إلى المكان والإنسان: كنيسة نياحة العذراء/ قبة الصخرة/ سوق أفتيموس/ كنيسة كل الأمم/ سوق خان الزيت/ سوق القطانين/ سوق البازار/ كنيسة صياح الديك/ قلعة القدس/ كنيسة المسكوبية/ سوق الخواجات/ سوق اللحّامين/ الأسواق الثلاثة/ مقبرة مأمن الله/ برج اللقلق/ محمد إسعاف النشاشيبي/ خليل السكاكيني/ جميل السلحوت/ محمود شقير/ ديمة السمان/ طالب الدويك/ ناصر الدين النشاشيبي/ ابراهيم جوهر/ د. وائل أبو عرفة/ عزام أبو السعود/ عيسى القواسمي/ سمير الجندي / أحمد أبو سلعوم/ أبو سلام وأم طه (أهدتهم الكتاب)- مُركّزة على شخصيّاتها الأدبيّة الثقافيّة.
وترسم بهوامشها خارطة القدس وحاراتها ومؤسّساتها: جبل الزيتون/ سور القدس/ باب الخليل/ باب الجديد/ باب العمود/ باب الساهرة/ باب الأسباط/ باب المغاربة/ وحاراتها: رأس العمود/ حيّ الثوري/ سلوان/ مدينة داود/ ومؤسّساتها: مركز يبوس/ مؤسسة دار الطفل العربي/ بيت الشرقَ/ مسرح الحكواتي/ المكتبة الخالدية/ دواة على السور/ معهد ادوارد سعيد للموسيقى/ مركز التراث الشعبيّ الفلسطينيّ وغيرها، وتركّز مُنحازة بشهادتها المجروحة على المشهد الثقافيّ الذي أصبحت جزءًا لا يتجزأ منه.
مداخلة نسب أديب حسين: مساؤكم خير وحبّ وأمل. لحيفا أغنياتُ موجٍ يسافر ويعود، يتركُ عند الثغر قبلة، ويأخذ من القلب قصّة، وقبل الغياب ينثرُ على كفّ الشاطئ أحلامَ الزبد، يُناجي الجبل “أيا كرملُ، إبقَ شامخًا إلى الأزل”. يكون لأسرار القدس قدرُ السفر، إلى أنحاءٍ عديدة من الوطن، وتكون حيفا في الانتظار، ليكون هذا اللقاء، فيسرّني هذا الوجود، ويُثلجُ القلبَ هذا العنوانُ الثقافيّ الحيفاويّ النابضُ والمُتجدّد، ليرسم مع عناوين ثقافية أخرى في القدس ورام الله وطولكرم ومدن غيرها، جزءًا مُشرقًا من مشهدنا الثقافيّ الفلسطينيّ. أسرارٌ أبقتها القدس معي.. إطلالة على قصّتي مع مدينةٍ، أتقنت التغلغلَ في مساحات قلبي، فبعض المدن تظهرُ جزءًا قدَريًّا في طريقنا وخيارًا طبيعيًّا، ونصيرُ أبناءها وتصير جزءًا من أحلامِنا وإن كنّا لا نعرفها. ربّما هي إرادة القدر، وربّما خيارٌ يصير طبيعيًّا كامتدادٍ لسيرة آبائنا، وقد تكون مَكمنَ فضول لاكتشاف سرّ المكان لهذا وأكثر، حين لاح ذاك السؤال المصيريّ.. إلى أين؟ أجبتُ: إلى القدس.
بدأت تجربتي في كتابة اليوميّات من جيل مُبكّر، لكن تجربتي الأولى في نشر هذا النوع من الأدب كانت مع حيفا، حين أوجعتني بيوتها المهجّرة طيلة نصف عام أقمتُ خلاله فيها، فاستطعت الوصول إلى أسلوب مختلف في كتابة اليوميّات، حين كتبتُ “حيفا ذات صيف عيون موصدة”، وبعد عودتي إلى القدس بدأت محاولتي من جديد لكتابة يوميّات المدينة بأسلوب خاصّ بي، واستمرّ العمل على هذا الكتاب أربع سنوات، حاولتُ التعامل معه من عدّة زوايا ورؤى، ليحمل المتعة والمعلومة الموثقة للقارئ، كي يكون لائقًا بالقدس. أسرارٌ أبقتها القدس معي.. ملامحُ وأحاديثُ همستها القدس في قلبي، وحاولتُ بكلّ صدق أن أنقلها لكم، لعلّ وجهَ المدينةِ يلوح ما بين هنا وهناك. شكرًا لنادي حيفا الثقافيّ والمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ على التنظيم والاستضافة، شكرًا لأستاذي المشرف على رسالتي في الماجستير د. عمر يوسف، وابنة عمي إيمان القاسم على تحمّل مشاقّ السفر من القدس إلى هنا، شكرًا لكم جميعًا على الحضور، بكُم يزدان هذا المساء وباللقاء تسقط أبعاد المسافات.
هي القدس؛ (من أسرار أبقتها القدس معي..) تزدحم الأصواتُ في رأسي، تُنهكُني وتَحقنني، وأغضب فألجأ اليها، وأتركُها تأخذني كيفما تشاء، لتحملَ عقلي وعينيّ وجسدي كيفما ارتأت، أسيرُ وتُسيّرُني، تتقاذفني الأزقة وترفعني انحناءاتُ الأقواس، وتُدهشني للمرّة الألف أو أكثر، لتفعل ما أرادت، ولتأخذ عنّي كلّ سقم يوميّ، وحزني وغضبي ووجعي من الكلمات الدخيلة الغريبة، من الوقاحة ومن تبريرات الأيدي الملطخة بالدماء. تعبتُ. سئمتُ. ودخانُ قلبي المحترق غضبًا يخنقني. لا أريد أحدًا سواها يحمل عنّي كربي. وأسيرُ لا تهمّني فوّهات البنادق عند شقوق السور ولا في الزوايا، ولا عيونٌ زُرعت عند كلّ عقبة، تفاجئها وتفاجئني. لا يهمّ. لا يهمّني ما دمتُ هنا، وما دامت تحضنني فهي كلّ شيء. أسيرُ أسمعها، لتقل ما تشاء، لينفجر رأسي من كثرة الكلام لا يهمّ. لترفعني بين النوافذ والشرفات. ليخطفني شعاع نور تسلل بين الأبواب العتيقة، وتيهِ بيوت حجارتُها تعانقت وما تركت لنا مَسربًا، لتتسرّب الروائح والأصوات إلى جسدي، ليتسلّل منّي صخب يوْمِي وأمسي، لتحتلني كيفما أرادت.. لن أقاوم.