حوارات

سعدون السويح يكتب نزار قباني بالأنجليزية

من قصائد العشق والمنفى
سعدون السويح يكتب نزار قباني بالأنجليزية

الدكتور سعدون السويح والشاعر نزار قباني

(إلى أخي سعدون.. كثيرون ترجموني إلى لغاتِ العالم، ولكنّك وحدك استطعت أن تنقلَ ملامحَ وجهي، واشتعالَ عواطفي، وفصيلةَ دمي.. وزرقةَ عينيّ.. وطقوسَ قلقي وجنوني.. مع الحبِّ الكبير) نزار قباني… هذه شهادة الشاعر الكبير المرحوم نزار قباني التي خصّ بها الدكتور سعدون السويح عن ترجمته مجموعة قصائده التي صدرت عن دار صادر اللبنانية للطباعة والنشر بعنوان “من قصائد العشق والمنفى” متضمنة تسعاً وثلاثين قصيدة، أختيرت من أحد عشر ديواناً، أقدمها مؤرخة بسنة 1989 وهي قصيدة “أحاول إنقاذ آخر أنثى قبل وصول التتار”، وأحدثها قصيدة “لا وسيلة للتدفئة… سوى أن أحبك” التي كتبت في لندن خلال شتاء عام 1996. وإذا تأملنا تاريخ هذه الفترة التي ولدت فيها القصائد فإننا سنجد أنها تعكس حالة الشاعر ونتاجه الإبداعي خلال إقامته في العاصمة البريطانية التي اختار المكوث بها منذ أواخر الثمانينات وحتى وافته المنية بها عام 1998.

والحديث عن الشاعر المرحوم نزار قباني وشعره يطول ويتشعب، ذلك لأنه لم يكن مجرد قصيدة أو حتى معلقة في ديوان الشعر العربي فحسب، بل كان على مدار سنوات طوال ركناً من أركانه الأساسية التي بدونها لا يكون للحرف العربي والخيال العربي والموسيقى العربية والصور البلاغية والمفردات العذبة حضور متميز في هذا الديوان وفي قاموس حياتنا اليومية. فالمرحوم شغل الدنيا والناس معاً بداية من عناوين قصائده الإستفزازية المثيرة إلى مضامينه ومواضيعه الثائرة على التقليد، ونمطية مفرداته البسيطة الموغلة في أعماق التعبير الوجداني عن خلجات الإنسان ومشاعره وأحاسيسه، وصولاً إلى شكل بناءه المتميز للقصيدة الشعرية الحديثة.

و”من قصائد العشق والمنفى” تتزين في بدايتها بصورة فوتوغرافية للمترجم مع الشاعر المرحوم نزار قباني، ثم رسالة بعث بها الشاعر المرحوم إلى صديقه المترجم د. سعدون السويح في 1/7/1997، وبعدها مباشرة نقف على كلمة شكر وعرفان يقدمها المترجم (إلى الشاعر الذي حملنا جميعاً في قلبه، وعلّمنا أن الحب فعل راقي، وشرط جوهري لتحقيق جدارة الإنسان بالحياة فوق هذا الكوكب، إلى الشاعر الذي علّم أجيالاً عربية متعاقبة كيف تحطم “حائط القبح” كي تصبح جديرة بمملكة الخير والجمال) ويختمها قائلاً (لقد حاولت – أخي نزار – أن أكون وفياً لكلماتك، فإن أصبتُ بعض النجاح فبتوفيق من الله، وإن أخفقتُ فلي عذر المحب، وحقاً لا تولد القصيدة مرتين، لكنها قد ترتدي أكثر من ثوب جميل) …وبعدها تطل علينا المختارات بنصها العربي.

وإذا انتقلنا إلى الجانب المترجم إلى اللغة الإنجليزية من الكتاب، فسنجد صورة فوتوغرافية أخرى للمترجم مع الشاعر، ونصاً مترجماً لكلمة الشكر والعرفان الواردة بالعربية، ثم إهداءً خاصاً يقدمه المترجم لزوجته الحبيبة –لا نجده في النص العربي- ثم نفاجأ بسيرة ذاتية مفصلة عن المترجم أدرجها الناشر لعله سعى من وراءها إلى التعريف بالمترجم ومؤهلاته المتميزة، وخبرته الطويلة والجيدة في مجال الترجمة والنشاطات والمنشورات التي قام بها، ورغم أنها ثرية مختلفة وكثيرة ومتعددة فإننا لم نتعود أن نطالع مثلها في الأعمال المترجمة.

بعد ذلك نجد أنفسنا أمام إشارة أو حاشية غير واردة في النص العربي كتبها المترجم في مقر إقامته في جزيرة مالطا بعد حوالي أسبوع من وفاة الشاعر الكبير نزار قباني يقول فيها: (كان عظيم أملي أن يرى شاعرنا العزيز نزار قباني مختاراته هذه مطبوعة، فلقد قرأ مخطوطاتها، وأسدى تعليقات قيمة حولها، ولكنه بصورة عامة كان مسروراً جداً بها، معتبراً ترجمتي أمينة ورقيقة، وتعاطياً حساساً مع شعره الجميل. نزار قباني توفى بمقره في لندن فجر يوم الخميس 30/4/1998 وفقداني الشخصي له لا يوصف، ولكن عزائي يكمن في حقيقة أن شعره سيعيش إلى الأبد، ورؤيته للجمال ستقود خطواتنا دائماً).

تعليق الشاعر نزار قباني على الترجمة

وبعد طي هذه الصفحة نقرأ نصاً (نزارياً) كتبه الشاعر المرحوم في لندن 1994، ولن يجد له القاريء الإنجليزي عنواناً أو إشارة باعتباره غير مدرج ضمن النصوص التي يحتويها الكتاب الصادر .. وهذا النص هو من قصيدة (متى يعلنون وفاة العرب؟) التي أطلقها المرحوم نزار قباني سنة 1994 بكل الغضب والهيجان والثورة على الواقع العربي المتدني، وترجمة نصها الإنجليزي إلى العربية هي:

(أحاول رسم بلاد
لها برلمان من الياسمين
وشعب رقيق من الياسمين
تنام حمائمها فوق رأسي
تبكي مآذنها في عيوني
بلاد تكون صديقة لشعري
تجعلني حراً
ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني
أحاول رسم بلاد
تكافؤني إن كتبت قصيدة شعر
وتصفح عني إذا فاض نهر جفوني)

ثم نجد مقدمة طويلة –باللغة الإنجليزية طبعا- عن حياة الشاعر نزار قباني ومسيرته الشعرية، ونلاحظ أن المترجم أو الناشر لم يحاولا إعادة صياغتها أو تعديلها بعد وفاة الشاعر، لأننا من خلال كلماتها نجدها تعتبر نزار قباني أكثر الشعراء الآحياء شهرةً…!!

ثم ينتقل المترجم للحديث عن مختارات (من أشعار العشق والمنفى) فنكتشف أن هذه المختارات تعد الثانية من نوعها التي ترجمت إلى الإنجليزية بعد (أشعار الحب العربية) المنشورة في أمريكا سنة 1993 والتي تشارك في ترجمتها البروفيسور بسام فرنجية، والبروفيسور كليمنتينا براون، ثم يتناول المترجم اللغة والأسلوب في الترجمة، فيؤكد بأن ترجمة النصوص الشعرية هي مخاطرة كبيرة جداً لأن الشعر يعقد أو ربما يتجاوز طبيعة مفردات اللغة، ثم ختم هذه المقدمة بالحديث عن صفة الرومانسية التي انطبعت بها قصائد نزار قباني، فيقول إن الشاعر لم يقتصر في شعره على هذا الجانب فقط، بل يمتد شعره إلى الواقعية والصوفية وغيرهما.

بعد ذلك عرض النصوص الشعرية المترجمة إلى الإنجليزية، والتي كم تمنيت لو أن الناشر في عملية إخراجه لهذا الكتاب عمل على مقابلتها بالنصوص العربية باعتبارها لغتها الأصلية حتى يتمكن القاريء الذي يجيد اللغتين من مقاربة الألفاظ الرقيقة التي يزخر بها شعر نزار ويستمتع بتذوق ومقارنة التعابير الواحدة بلغتين مختلفتين.

ولإطلاع القاريء الكريم على ظروف وخلفيات ترجمة هذه المختارات، كان لي هذا اللقاء القصير مع المترجم الدكتور سعدون اسماعيل السويح.

– كيف ولدت فكرة ترجمتك لمجموعة قصائد شاعرنا الكبير نزار قباني، ومتى بدأت فيها؟

• ولدت فكرة ترجمة قصائد شاعرنا الكبير الأستاذ نزار في أواسط سنة 1994، وكنت أعمل آنذاك في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة في مدينة طرابلس .. غير أن بذور الفكرة كانت تراودني قبل ذلك بسنوات كثيرة، وكنت قد كتبت بعض المختارات منذ أوائل التسعينيات لكنها ظلت حبيسة الأدراج.. غير أنني بدأت العمل الفعلي الجاد في الترجمة منذ سنة 1994، ثم واصلت العمل عليها بعد انتدابي للعمل في جامعة مالطا سنة 1995، وفرغت من صياغتها شبه النهائية مع بدايات صيف 1996، وطبعتها طباعة مبدئية، وسافرت إلى لندن لإطلع الأستاذ نزار –رحمه الله – عليها.

– كيف تم اختيار القصائد، وهل هذه المختارات تحمل مواصفات معينة، أي أنها ذات مواقف خاصة بالشاعر من حيث الحدث أو المكان أو التاريخ؟ أم أن اختيارك كان عفوياً عادياً؟

• فيما يتعلق باختيار القصائد، فإنني أعتقد أن عملية الترجمة هي في حد ذاتها عملية تجميع لقصائد مختارة، ومن هنا لم يكن الاختيار عفوياً أو عشوائياً، لكنه جاء نتيجة مصاحبة طويلة لشعر نزار قباني جعلتني أملك نوعاً من الحساسية الخاصة تجاه قصائده، وما يمكن نقله منها إلى اللغة الإنجليزية، دون إخلال بروح النصوص الأصلية وجماليتها، فالذوق الشخصي إذاً لعب دوراً هاماً. كما راعيت التسلسل الزمني في اختيار القصائد بحيث تقدم صورة (بانورامية) قدر الإمكان لتحولات الشاعر، وقد ضمت المجموعة قصائد تعود إلى سنة 1956، وتحديداً قصيدة عنوانها (وجودية)، وإنتهاء بأخر دواوين الشاعر وهو (تنويعات على مقام العشق) الذي اخترت منه قصيدتين هما “حب بلا حدود” و”لا وسيلة للتدفئة سوى أن أحبك”، وقد صدر هذا الديوان سنة 1996. وأعتقد أن ما يميز ترجمتي عن تراجم أخرى سابقة لأعمال الشاعر بالإنجليزية هي أنها ضمت عدداً لا بأس به من قصائد المرحلة الأخيرة في حياة الشاعر –مرحلة المنفى اللندني- والتي ظهرت فيها بوضوح قضية إحساس الشاعر بالمنفى واستحضاره للوطن عبر المرأة وطناً وحضوراً طاغياً في منفى الشاعر .. ولذلك فقد كان عنوان المجموعة (من قصائد العشق والمنفى).

– هل تدخل الشاعر المرحوم نزار قباني في عملية اختيار وانتقاء هذه القصائد وفي عملية الترجمة ذاتها؟

• عندما ذهبت إلى زيارة صديقي المرحوم نزار في لندن صيف 1996، كان سعيداً بعملي، واعتبر ترجمتي أمينة وصادقة وتحمل “دفء الشعر” في ثناياها. ولم يتدخل –رحمه الله- في اختياراتي، ولكنه طلب مني زيادة عدد القصائد المترجمة، والتي تمثل مرحلة المنفى اللندني الأخيرة “1989 – 1998” وقد أضفت فعلاً قصيدتين مهمتين في التعبير عن مرحلة المنفى، وهما قصيدة “فاطمة تشتري عصفور الحزن”، وقصيدة “فاطمة في هايدبارك”.

غلاف الترجمة: من قصائد العشق والمنفى.

– ترجمة الأدب والشعر قضية شائكة خاض فيها العديد من الكتاب، حيث أن البعض منهم يعتبر المترجم مجرد ناقل حرفي للكلمة من اللغة الأم إلى لغة أخرى دون أي تدخل في مضمون النص، بينما يرى البعض الأخر أن المترجم يصبح شريكاً في النص بشقيه المتمثلين في اللغة والمضمون، أي أنه يعيد ولادته من جديد .. كيف بدت لك هذه المسألة خلال ترجمتك لأعمال الشاعر الكبير المرحوم نزار قباني؟

• مسألة الترجمة وعلاقة المترجم بالنص الذي يترجمه تعتبر من القضايا الجوهرية التي تواجه العاملين في حقل الترجمة، وبخاصة الترجمة الأدبية، أي ترجمة النصوص الإبداعية، وفي تجربتي الشخصية مع شعر نزار انطلقت أساساً من “حب النص” ومحاولة النفاذ إلى خصوصيته وتفرده باعتباره نصاً شعرياً. ترجمتي لشعر نزار كانت نوعاً من “التقمص” للشاعر، نوعاً من “التوحد” معه. وقد أتاحت لي هذه الرؤية للنص درجة من النجاح في تحويله من لغته الأصلية “العربية” إلى اللغة المنقول إليها “الإنجليزية”. ولم أتعامل مع النص تعاملاً آلياً، ولم أكتفِ برؤيته من خارج شكله ومضمونه. وبهذا المعنى كنتُ “شريكاً” في صياغة النص في منحه “حياة جديدة” في لغة غير لغته الأصلية، ولا يعني ذلك أنني ذلك “حراً” في ترجمتي. كما لا يعني ذلك أن الترجمة كانت تفسيراً للنص، فذلك تجاوز لا أعتقد أنه يجوز لمترجم. لقد كنتُ أقترب من “الحرفية” أحياناً حفاظاً على جمالية استعارات الشاعر وصوره الشعرية، لكن هذه “الحرفية” كانت تخدم النص، ولا تميته أو تفقده وهجه وبريقه. لم تكن التجربة سهلة على الإطلاق، ولم تكن خالية من المخاطر.

وقد قلتُ لنزار (إن نقل القصيدة من رحمها الأول إلى رحم جديد عملية خطيرة قد تقود إما إلى “موت” القصيدة في النص المترجم، أو إلى “بعثها” ومنحها حياة جديدة). ترجمة الشعر –إذاً- لا يمكن أن تكون “خيانة” للنص الأصلي متى صدرت عن حب للنص وعن قراءة واعية له يحاول فيها المترجم الاقتراب من العالم الداخلي للنص، ومن رؤية الشاعر. ومتى أفلح المترجم في ذلك، وكان ممتلكاً لأدواته اللغوية والفنية، استطاع أن ينجح في تقديم ترجمة جميلة. ولكن لا يمكن لي أن أدعي أن النص الأصلي لا يخسر شيئاً في الترجمة، وأن بعضاً من إيحاءات النص الأصلي وظلاله وموسيقاه قد تضيع. ولكن تبقى الترجمة ضرورية لتواصل الثقافات. فتبقى الترجمة الجيدة ممكنة متى توفرت لها الشروط اللغوية والفنية والنفسية والوجدانية التي أشرت إليها، وتحت هذه الشروط يمكن النظر للترجمة باعتبارها نوعاً من الإبداع.

________________________________________________

* نشر هذا اللقاء بصحيفة العرب العالمية، السنة الثالثة والعشرون، العدد 5658، بتاريخ 7/7/1999، الصفحة 10، لندن. وينشر هنا لاول مرة في الصحافة الإلكترونية.

مقالات ذات علاقة

كاتبة ليبية تؤكد أن التحكم الذكوري حال دون ظهور الكثير من المبدعات

المشرف العام

الدكتورة فريدة المصري تحكي تفاصيل عن روايتها (أسطورة البحر)

يونس شعبان الفنادي

جمعة الفاخري: أُقحمْتُ لأكونَ ربَّانًا يمكنُهُ إنقاذُ سفينَةٍ تغرقُ في عرضِ محيطٍ هادرٍ

المشرف العام

اترك تعليق