أعطني النايَ و غَنّ فالغنـــا سُّر الوُجود
و أنينُ النّــاي يَبقَـي بعد أن يَفني الوُجُودْ
من سمع تلك الأبيات، طرب لها، تغنت بها المُطربة فيروز، و أجشت بها الكثير، مقاطع باعثة للحُلُم و الأمل، هي بعض من أبيات مُختارة من قصيدة المواكب لجبران خليل جبران (مع إستبدال كلمة الوُجود بكلمة الخُلود)، فهل يا تُري يدري من أستمع إليها أن جبران بدأ قصيدته بـ
الخُير في النّاس مَصنوعُ إذا جبرُوا و الشُّر في الناسِ لا يفَني و إنْ قُبرُوا
بداية قصيدة المواكب لجبران، ظاهرها غضب، و عُمقها حُلُم و أمل، تحوي في طياتها غضب غير مُدمر، غضب ولاد، نابع من أن الناس بأمكانهم أن يَسلكوا السلوك الحسن، هم قادرون عليه، إلا أنهم و لدوافع المصلحة الشخصية ينتهجون نهجاً مُخالفاً، الروح المُستترة لجبران خلف مواكبه روح تنشد السكينة و الوئام، و إحتاجت لحظات هذا المقال أن تستظهرها من أعماق غضب جبران، فهل هذا الغضب لحظي؟ أم مُستأصل في نفس جبران؟
هل تستطيع أن تصنع شيئاً إن لم تتوافر خامته؟ تستلزم صناعة الخير في الناس أن تكون هناك خامة، فهل هذا يعني أن الخير موجود في أعماق النفس البشرية؟ لهذا يحث جبران الناس على إستخراج الخير من أعماقهم! و إن جبراً بالقانون، أليست هذه طبيعة النفس البشرية؟ فما قد يُفهم من أول أبيات قصيدة المواكب، أن العصا “القانون” هي الوسيلة لإخراج الخير من أعماق الإنسان، و هذه حالة إجتماعية، يتبع إلغاء القانون عواقب وخيمة، على الجميع، فعندئذ تكون السيادة للمنفعة الشخصية المُعارضة لمنافع الآخرين، و بالتالي هلاك المُجتمع لا محالة، فهل يا تري هناك وسيلة أخري؟ هل يريد جبران من الناس أن يخرجوا خيرهم من أعماقهم طوعً لا جبراً – محبةً لا كرهاُ؟ لربما ترجع هذه الفكرة إلى الفوضوية الفلسفية “إنكار الذات”.
إنبعاث الخير من أعماق الشر، دليلاً على أن الشر لا يفني، البيت الأول للقصيدة و إن كان قاسياً في ظاهره إلا أن المُستتر فيه يُدلل على الطبيعة البشرية، فكيف بالإمكان إستثارة الناس طوعاً ليخرجوا خيرهم من أعماق ذاتهم؟ هل لحاجتهم للأمن و الآمان؟ إن كان كذلك، فهذا خير لهم جميعاً، عندئذ ستعم المصلحة العامة، فالمصلحة العامة تحمي و تحافظ على الإنسان في مجتمعه، و هي في ذاتها مصلحة شخصية، فكل فرد سيتمتع بالأمن و الآمان، إذن في أعماق المصلحة العامة تكمن المصلحة الشخصية، الخيّرة – لا الشريرة، النافعة – لا الضارة، و لتكون المنافع الشخصية بألوانها و احجامها فسيفساءً للمصلحة العامة التي ينشدها الجميع.
تسترسل مواكب جبران من لحظات غضب – إلى لحظات يتغني فيها بالغابة، و غابة جبران ليس كما نعرفه من الغابات، فالغابة عند جبران مكان رَحِب، يصول و يجول فيه بحرية، يتمتع فيها بالحرية، فلا يوجد من يأمره – أو يتغول عليه – أو يسوده، لا وجود للسيد الآمر لينخص عليه حياته – و لا و جود لأمر يكدره:
ليس في الغابات راع لا ولا فيها القطيع
و في مقطع آخر
ليس في الغابات حزن لا ولا فيها الهموم
الغابة عالم جبران الأفتراضي، تُخفف حزنه – تُسكن غضبه، و السيادة فيها ليست للقانون، بل للقيم الأخلاقية النابعة من أعماق النفس البشرية، فالنفس البشرية الخيَّرة لا تضمر السؤ لأحد، لأنها لا تحب السؤ لنفسها، فكيف تحبه للأخر! فما تحبه لنفسها تحبه لغيرها! و في مقطع آخر يغضب جبران على النكرات، نكرات لا تستطيع أن تفكر لنفسها بل تحتاج لمن يُفكر عنها و يقودها:
خُلق الناس عبيداً للذي يأبي الخضوع
فإذا ما هَب يوماً سائراً سار الجميــع
لنرجع إلى البيت صدر المقال: “و أنين الناي يبقي بعد أن يفني الخلود: ربط جبران في هذا المقطع من المواكب بين أنين الناي و الخلود، الناي وحده كينونة لا حياة فيها، فكيف للناي أن يصدر أنينه؟ يحتاج الناي لعازف ليصدر أنينه، لذا يدلل “الأنين” على وجود فاعل “العازف” فالفعل حركة تصدر عن فاعل، و تدلل الحركة على أن الناي في يد العازف ليس كينونة ساكنة ، فالحركة حياة – وجود، لذا يدلل الشطر الأول على الوجود – الحياة، أما الشطر الثاني: ففناء الخلود تأكيد على العدم – اللاوجود، فكيف يبقي أنين الناي بعد أن يفني الخلود؟ “أين العازف؟” هو موجود لا محالة! فهل هذا يعني أن الحياة ستنبثق من العدم – اللاحياة؟ بمعني آخر أنين الناي ظاهرة، و الظاهرة لا تحدث إلا بسبب فاعل، هكذا يقول مبدأ العِلية “السببية”، و هو أحد القوانين الأساسية للفكر الإنساني، و سميت هكذا بسبب أنها لا تحتاج إلى تجربة لأثباتها، و هذا المبدأ صاغه علماء الحضارة العربية الإسلامية و أطلقوا عليه “قانون العِلية”.
الصراع بين الأضطاد عند جبران يسمو فيه الخير دائماً، بصفات الجمال، “نظرية سمو الضد الخيَّر” هذه إن جاز التعبير هي الحياة نفسها، فالسمو دائماً للضد الخيَّر، تتصارع الأضطاد في أعماق سكناها ليخرج الخيَّر منها، هكذا هي فلسفة جبران في كتابه “النبي” ففي أعماق الشر يكمن الخير، و من أعماق الحزن يولد الفرح، و من لم يذق الحزن لا يعرف السعادة، فهل بالإمكان القول أن الأضطاد دائماً تتصارع ليخرج الخيَّر منها؟ الناس ليست ملائكة و لا شياطين، و لكن بين هذا و ذاك، و غلبة المصلحة الشخصية هي التي تظهر ذلك، فغلبة المصلحة الشخصية مُدمرة، أما غلبة المصلحة العامة فخيَّرة، الحياة ذاتها ليست كلها فرح – و سعادة أو كلها كدر – و شقاء، هي بين هذا و ذاك، و بالتالي حياة الإنسان كفاح طويل لأجل إظهار إرادته – و إثبات اختياره بكل حرية, و أختياره دائماً خيَّر.
هذا ما كان من غضب جبران في مواكبه، غضب ينطلق من حِنقه على الناس، لأفعالهم الشائنة، فهم بإمكانهم مواكبة سبل الخير و الفلاح، إلا أنهم يسلكون السُبل المُحققة لمنفعتهم الشخصية، و إن أضروا بالأخرين، فالسلوكيات الشائنة مُدمرة – قاتلة، فهي تُضَّاد مسيرة الحياة، فمواكبة الحياة تتطلب: الفرح لا الحزن – الغبطة لا الحسد – الحب لا الكره – الحياة لا الموت – الوجود لا العدم، فهل غضب جبران في مواكبه غضب حالم – تأملي يأمل فيه جبران أن تسود المحبة و الأخاء العالم؟
غضب جبران في مواكبه، غضب للمصلحة العامة، غضب ظاهره التجريح و باطنه العِتاب، غضب يدعوا فيه الناس أن تسموا بسلوكها للخير – للجمال، أما غضب مواكب الربيع العربي فظاهره الثورة على الظلم و التسلط، و باطنه ترسيخ الظلم و التسلط، يُخاطب جبران بروحه المُستترة الناس ليقول لهم: أن الخير فيكم – في أعماقكم فأخرجوه، و أما غضب مواكب الربيع العربي، غضب للمصلحة الشخصية، هادمة اللذات و مفرقة الجماعات، فهي منفعة النُخبة! لذا فهو غضب هدام لا نفع فيه.
الغضب عند جبران في مواكبه، غيض من فيض، صراع بين الأضطاد ليخرج خيَّرها، أما غضب مواكب الربيع العربي، و بالرغم من إزاحته لأنظمة مُتسلطة إلا أنه لايزال بين قمة و قاع، فهذا الغضب ليس صراع أضطاد ليسمو خيَّرها، بل صراع خصوم فرقتها المصلحة، غابة جبران غابة حَالمة، يسود فيها الإنسان بقيمه ليسمو، أما غابة الربيع العربي فهي غابة تسودها القوة، فالحياة فيها للأقوي، حيث تنحدر القيم الإنسانية.
بدأ جبران مواكبه بغضب، و أنهاها بحُلُم باعث للأمل، تفائل لا تشائم، هكذا دائماً روح جبران المُستترة – الُمتمردة، لا سيما وراء مواكبه، أما مواكب الربيع العربي فبداءت بتململ – فإنتفاضة – فثورة – و أنهت الظلمون المُتسلطون – لتجد نفسها تُمارس ما يُمارسون، فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، فغضب مواكب الربيع العربي، غضب ظاهره الدمار، و باطنه العدم، مُدمر لا يبقي على أحد، و لا حتى صاحبه، فهل سيسموا الخير فيه يوماً على أضَّطاده؟ الغلبة للحياة دائما لا للعدم!
فيما سبق ليست قراءة نقدية لبعض من أدب المواكب لجبران خليل جبران، و إن لامست شىء من ذلك، و لكن خواطر أسترسلت لسبر أغوار ما قد يتماثل في مواكب جبران خليل جبران مع مواكب الربيع العربي، و هذا لا يعني أن جبران قد نادي بثورة على سلطة سياسية، فالثورة الوحيدة التي نادي بها جبران في مواكبه هي ثورة الإنسان على نفسه، ليسموا في رحاب الحياة – في أحضان الدنيا بالسلوكيات الخيرة، هي خواطر لنفس ألم بها ما ألم الناس من هم و كدر، قراءة أملتها اللحظة عند قراءة مواكب جبران خليل جبران، لترى ما ألم الوطن من شؤون و شجون، و بالرغم من هذا و ذاك، فالحُلُم قادم لا مَحالة، فهو الأمل – الحياة، و هذا ما تمليه مواكب جبران خليل جبران، فهي مواكب الحياة بحلوها و مرها، و في هذا يقول جبران في مواكبه:
ليس حزن النفس إلا ظل وهم لا يدوم
و غيوم النفس تبدو من ثناياها النجوم
شحات/21/7/2015