[ إلى شهيد الكلمة مفتاح بوزيد ]
. . صباح مزروع بشمس أحدأيام مايو، سماء فسيحة تلتقط أنفاس مدينة يخضّها الوجع ، ارتشف قهوته الصباحية، دوّن ملاحظات عابرة في مفكرته الشخصية ، رؤوس أقلام لافتتاحية العدد القادم من الصحيفة ، تأنق كعادته مثل عريس ليوم زفاف ، تأبط حقيبته الجلدية ، اتجه نحو الباب ، التفت نحو زوجته التي تصافحه بعينيها القلقتين ، قال لها :-
– هل ثمة ما ينقص البيت ؟
قالت :-
– حاليًا لا أتذكر .
– على أية حال لو تذكرتتِ شيئًا اتصلي هاتفيًا.
.. لاحقته ببصرها حتى توارى .
في السيارة تفقد رزم الصحيفة ، مسح بنظراته العناوين الرئيسة ، تذكر ليلة البارحة واللقاء التلفزيوني ، وَمَا وصل إليه من تهديد عبر هاتفه ، استرجع عباراته التي قالها لمحاوره الإذاعي : – سأُقتل كما قُتِل عبد السلام المسماري ، وسيذهب دمي هباءً كما ذهبت دماء ضباط الجيش . تمتم :- إنما الأعمار بيد الله ، ابتسم وهو يقود سيارته على امتداد شارع جمال عبد الناصر ، أوالاستقلال الذي لم يثبت على اسم بعد ، كل الأشياء تترنح في هذا الوطن ، من اسماء الشوارع إلى السياسيين ، إلى طلّاب السلطة ، والثراء ، وجه الإرهاب وحده الواقف على قدميه ، ركن السيارة جانبًا ، سجّل في مفكرته مادار في ذهنه من أفكار ، سيضمّنهاالافتتاحية ، وصل قرب المكتبة ، فرز رزم الصحيفة التي سيسلمها .
. . قبل أن يخرج من السيارة باغته وابل مفاجيء من الرصاص ، تناثرت دماء غزيرة ، مال برقبته إلى رزم الصحيفة، بقع حمراء على الورق ، اختلطت بشعر رأسه ، وبالعناوين ، والأحرف، أغمض عينيه من دون أن يرى وجه قاتله ، شعر بآلام تهاجم جسده كله ، ثم خدر بطيء في أطرافه يرحل به نحوغيبوبة تراءى له خلالها كأن طائرًا يشبه الفينيق ينهض من الرماد ، يحلق عاليًا وسط سماء المدينة رغم الضباب .
. . على بعد مسافة تمتد بين الحياة ، والموت كانت زوجته تتصل للاطمئنان عليه ، ولتذكره بتوخي الحذر، والعودة مبكرًا ، وأن يشتري خبزًا ،وقنينة ماء ، وبعضًا من فاكهة الموسم . ظل هاتفه يرن وهو غائب في سِنة من نوم ، ترتسم على شفتيه ابتسامة أمير متأنق باللحظة تحت سماء رحبة ، وشمس ازداد قرصها احتراقًا .