قصة

تحـــــلل!

فتح جهاز الإذاعة المرئية، فصدمته الصورة.

– لا حول ولا قوة إلا بالله.

قالها وهو يسارع إلى التقاط جهاز التحكم، ويسعى لتغير المنظر، لكنه  حين ضغط على أزراره لم يطاوعه،ربما مؤامرة شيطانية، وربما لعطب ما، ضربه  في تأفف،واضطر للنهوض من مكانه وتغيير القناة من خلال جهاز الاستقبال مباشرة.

الغصة التي ولدتها الصورة في المرئية لم تفارقه، لكنه صمم أن يفارقها.

طاف بين أقمار العرب سات والنايل سات التي يقتنيها، وهو يمني النفس بفلم  أكشن أو مسرحية كوميدي،أو مسلسل مدبلج له بداية وليس له نهاية،  أو حتى مبارة كرة قدم غير مثيرة.

شعر ببعض الامتنان لهذه المحطات، ولمن أخترع وسيلة الهروب ( أقصد التسلية تلك ).

دخلت زوجته بفنجان القهوة، وضعته على المنضدة بطريقة آلية، وخرجت،همس لنفسه:

– الحمد لله أنها لم تشاركني الجلسة، لأنها لو فعلت لتحكمت في اختياراتي.

طافت في ذهنه صورة من الماضي، تذكر كيف كان أفراد العائلة جميعاً، يجتمعون على نفس المسلسل أو البرنامج،حين كانت القناة أرضية واحدة، وكيف كان الحدث الوارد من المحطة الأرضية اليتيمة، يناقش في لمات النسوة وعلى مناضد المقاهي وحتى في أماكن العمل، أما اليوم فكثرة المحطات الفضائية،أكثرت  الاختيارات،ونشأ عن ذلك تشتت مزاجي  حتى داخل نفس الفرد الواحد.

ومع ذلك فلم تعد قناة واحد مملة  تجبرنا على متابعة برامجها  والتفاعل مع مزاجها السياسي… وصار لكل منا أن يتابع ما يريد تبعاً لمواعيد راحته، فهذه قنوات الرياضة، وأغلبنا يرتادها ربما لنشبع وهم البطولة الذي ظل يراودنا منذ حطين، وتلك قنوات الأفلام والأكثرية يفزعون إليها هروباً أحياناً، وأحياناً أخرى ملل…..وهذه قنوات الأخبار…التي تقلصت نسبة مشاهديها لدرجة هددت بإفلاسها، خاصة بعد أن أثبت أطباء الغرب أن الإنسان الذي يحرص على متابعة الأخبار السياسية بالذات مهدد بارتفاع ضغط الدم، وتصلب الشرايين، وهبوط القلب المفاجيء، والسكري  بل والسكتة الدماغية….ونحن حريصون على صحتنا وحياتنا، وإذا حاول حدث أن يخدش صفو حياتنا فلابد أن نركله من ذاكرتنا بكل قوة،…. وكيف إذا كان هذا الحدث عمره أكثر من ستون سنة ؟!،…هذا العمر إن لم يبعث في أنفسنا الملل فهو بالتأكيد سيبعث فيها اليأس.

سألت زوجته وهي تدخل حاملة كوب ماء :

– ما أخبار غزة ؟

وأضافت وهي تضع كوب الماء من يدها، و تجلس على الأريكة :

– نسيت الماء.

فكر أنها تعرف تماماًًً أنها ستنشف ريقه، على أية حال، فخطة الهروب التي وضعها لم تفلح هذه المرة، فأغلب المحطات الفضائية كانت تصر على غرسه وسط الحدث، نفضت الغبار عن أشرطة أغانيها الوطنية التي حفظناها في طفولتنا :

وين الملايين،…الضمير العربي….الحلم العربي….اليأس العربي !!

مزجتها (بفيدو كلبات) من أحداث غزة، وصممت على إعادة تكرارها أربع وعشرين ساعة.

أسترجع الألم والبكاء والغضب، وكالعادة كبله العجز.

أصرت زوجته على متابعة حوار مع محلل سياسي في إحدى القنوات  حول الحدث، نفذ رغبتها وهو يشتمها في سره، فهي بالتأكيد تريد أن تعكر مزاجه، وتخدش صحته، بل وتقصر من عمره.

– غريب هذا الزمان…الحق صار عدواناً، والجهاد إرهاباً، وقتل الأطفال والنساء العزل، دفاع عن النفس.

قالتها زوجته، وهي تضغط على عينيها بأصابعها، تقاوم دموعاً همت بالذرف، ثم أضافت آمرة :

– غير القناة، ما بأيدينا حيلة.

– ليكن الله في عوننا وعونهم.

قالها وهو يرتاح للقرار…قناة أخرى…محلل آخر…كلام وكلام… ممزوج بشتى التعابير  والصورة المباشرة خلفه مشوشة بغبار القنابل التي تقذفها الصواريخ.

نظر إلى زوجته في خيبة وانكسار،وقال :

– هل فهمت شيئاً ؟

-……………

جلس بجانب زوجته، وطأطأ الاثنين رأسيهما نظر إلى قهوته التي بردت، مد يده إلى جهاز التحكم، وضغط زر الإغلاق، وهذه المرة استجاب الجهاز.

مقالات ذات علاقة

التراب الوطني

أحمد يوسف عقيلة

تخاريف

هدى القرقني

سطوة الذباب

عوض الشاعري

اترك تعليق