– أحبك!
طوحت الكلمة بكل أعراف القبيلة، ولوحت في تمرد بكل أقنعة الخجل الأنثوي، وانزلقت من بين شفتيها عفوية، بريئة، لاهبة، تحمل في جنباتها شوق عشرين سنة انتظار للعرس الذي لم يتم.
على جناحين من نور سافرت الكلمة عبر تقاطيع وجهه التي استعارت اللهب، انسابت ناعمة على عروق عنقه التي برزت باللهفة، ثم التصقت بقلبه الذي انتفض يدق بعنف.
رقصت أشجار العرعر من حوله وزغردت عصافير الدوري بين أغصانها، وغنت حمائم برية في أعشاش قريبة،…. قبل النحل أزهار المريمية النفاذة الرائحة، فيما أدت فراشات بيضاء رقصة الحب الذي لن يموت.
ارتسم فرح طفولي على محياه الأسمر، وكأنه لم يدرك مدى حبها له إلا في هذه اللحظة، أحس أن كل شيء ينتشي سعادة وطرباً، الشمس في كبد السماء والغير عازمة على الرحيل، الصخور الحادة المنغرزة في بطن الجبل، حتى الماء الراكد في قعر البئر التي يقفان بقربها.
تأملها بعينين مغرورقتين بألم البعاد، ومد يده المرتعشة ومسح دمعة فرت من عينيها، وسقطت على لهيب خديها.
-أحبك يا قمر !
شحن الشوق والألم كلماته فتنهد بحرقة،وتابع :
– لن يطول الأمر أكثر، أعدك !
– قالها وهو يحضن يدها بين كفيه، فقالت واليأس يقطر من كلماتها :
– وهل تملك من الأمر شيئاً ؟
ثم أضافت وقد نكست بصرها إلى الأديم الأحمر :
– أتذكر يا إسماعيل،….ليلة العرس.؟
– وهل مثلها يُنسى ؟
فتابعت وكأنه لم يُعقب على كلماتها :
– كان قلبي يهفو للقاؤك، كنت أجلس بين النسوة،وسط الزغاريد والأهازيج، هذه تمشط شعري، وتلك ترسم الحياة بالحناء على قدمي ويدي، وهذه ترمي البخور على الجمر تطارد شياطين السحر والحسد، وتلك تحزم ثيابي وأمتعتي استعداداً للاستقرار في قلبك.
– ولا زلت مستقرة فيه.
قالها بحسرة وهو يتذكر لقاؤهما الأول.
بقامتها المديدة، وقفطانها التركي الأحمر الواسع الأكمام ووشاحها الذي استعار من الشفق لونه، طرحته على شعرها ولمت أطرافه بين أسنانها في محاولة لزجر الريح الشمالية المشاكسة التي كانت نسماتها الباردة تعبث في شقاوة ودلال وتحاول الكشف عن وجهها البيضاوي الساحر وجدائلها الطويلة المخضبة بالحناء والمعطرة بالقرنفل،…كانت تقف على حافة البئر التي يقفان بقربها اللحظة، تقذف الدلو الحديدية في قعر البئر فيرسل صوتاً مكتوماً حين تصطدم خاصرته بالماء، يطفو لبعض الوقت وكأنه يحتج أو يعاند، لكنه ما يلبث أن يغوص مستسلماً في الماء حتى تختفي حافته، فتعمد هي إلى نشله بسرعة وقوة وكأنها تشفق عليه من الغرق، تتتابع يداها في سحب الحبل إلى أن تمسك بمقبض الدلو وتدلق محتواه في الحوض القريب، تتزاحم شياهها على الشرب حتى كاد أن يوقع بعضها البعض، تتمتم ببعض الأصوات التي يصدرها الرعاة لتهدئة أو حث أو زجر قطعانهم، فيستغل النسيم المشاكس ارتخاء قبضة أسنانها على الوشاح، ويخطفه من على رأسها ويطير به نشوان بفرحة الانتصار، لكنه، في متعة العبث، لم ينتبه لليد التي اعترضت طريقه وسلبته الغنيمة.
كان إسماعيل يقف غير بعيد، يراقب في حياء البدوي، عود البان ذات السبعة عشر ربيعاً، التي يمتزج صوتها الشجي برنات أساورها الفضية.
بسملت في ذعر حين رأته، ورفعت يدها،بخجل بنت البادية تداري بكمها الواسع وجهها وشعرها:
– الوشاح لو سمحت !
فقال وهو يقترب بخطوات وئيدة، ويمد لها وشاحها :
– لو لم اسرقه من يد الريح لطارت به إلى قعر الوادي.
فقالت وهي تعيده على رأسها :
– أشكرك !
ثم عادت تقذف بالدلو في البئر، فدفعته النخوة أن يشد طرف الحبل الذي تركته له بعد أن فهمت نظرة الرجاء في عينيه.
وتبع النظرة السلام والكلام، والموعد واللقاء.
ثم أصر الشوق على جمعهما في عش الزوجية، وأعدت مراسم الفرح، وحين كان إسماعيل يهم بالدخول بزوجته، وقعت الواقعة، وتردد صدي النفير في الأودية أن حي على الجهاد
– يجب أن أذهب !
قالتها قمر ناشلة إسماعيل من فيض الذكريات التي كان يسبح فيها، فترك يدها تفر من دفء كفيه، وقال :
– متى الرحيل ؟
– لست أدري…ربما الليلة أو في الغد.
– اعتني بنفسك
– وأنت أيضاً اعتن بنفسك.
انتبها لخشخشة بين الأغصان، طاردت عيونهما الصوت، فخيل إليهما أنهما لمحا عينين كعين الثعلب تراقبهما من دغل قريب. هيأ إسماعيل بندقيته، وصوبها ناحية الصوت، فهربت العينان من الدغل، ركضا خلفه، فلمحا (رزق البهلول) يركض بأسماله البالية ناحية النجع.
تنهد إسماعيل وأنزل بندقيته، وقال :
– مسكين، لعلني قد أفزعته.
– قلبي غير مطمئن.
قالتها فجر وهي ترسل بصرها، إلى خيام النجع البعيدة المحاصرة بآليات الطليان،وتتذكر أحكام الإعدام التي أصدرها الطليان ببعض الأشخاص، كان آخر من رآهم رزق البهلول، أصدرت أمرها في محاولة لاعتراض القدر :
– يجب أن تذهب، الآن.
– أجل، الوداع .
– قل إلى اللقاء
– ………
أمتطى فرسه، دار بها إلى الاتجاه الآخر، غابت به الفرس في عين الشمس.
نشلتها من ذكرياتها رائحة خبز التنور وهو يحترق، فبادرت إلى نجدته من لهيب الجمر في الحال ووضعته على طبق من السعف، بسملت وهي تقاوم تعب السنيين المستوطن في الجسد،وألم الفراق المستوطن في القلب، نهضت بتثاقل وهي تلملم وحدتها، مسحت بيديها الخشنتين على تجاعيد وجهها، وحملت الطبق وصارت في اتجاه خيمتها.