المقالة

وداعاً سيد الريشة المقاتلة

تعرفت على الفنان حسن دهيميش المعروف بـ”الساطور” عام 2004، عندما طلب الإضافة على موقع فيسبوك، وفي نفس الليلة أجرينا أول محادثة. شعرت بأنني أعرفه منذ زمن بعيد. كنت أتابع رسومه على المواقع المعارضة بشغف، وكان يتابع مقالاتي باعجاب كبير، وهكذا ولدت صداقة فريدة لم تشبها أي شائبة. كنت أقترح عليه بعض الأفكار فاشاهدها في اليوم التالي وقد تجسدت رسومات مبهرة. التقينا أول مرة في أبريل عام 2011 عندما التحقنا بقناة ليبيا لكل الأحرار في الدوحة، وعشنا أكثر من عامين في فندق واحد. نلتقي على مائدة الأفطار فاقترح عليه فكرة ونذهب إلى العمل فيرسمها وهكذا ظهر اسمي تحت ساطوره حتى أعتقد الكثيرون أنني الساطور، وأنني كشفت عن اسمي بعد قيام الثورة.

روى لي الكثير من أطوار حياته المتقلبة، فهو ابن الشيخ الجليل محمود دهيميش إمام الملك إدريس وأول مقريء في الإذاعة الليبية. في طفولته كان وعائلته يعيشون في طبرق في كنف الملك إدريس في فيلا فخمة، وكان والده يصلي بالملك إدريس، وعندما فاحت رائحة الفساد وخاصة بعد العقد الذي ذهب إلى شركة عبد الله عابد السنوسي لتشييد طريق فزان، شعر الشيخ أن عليه أن ينبه الملك لهذا الفساد، فصلى به ذات مرة وقرأ الآية “إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها”. شعر الملك بغضب شديد وقرر فصل الشيخ من عمله، وهكذا انتقلوا بين ليلة وضحاها من الفيلا الفخمة إلى بيت بالايجار جداره مشقوق في شارع السبالة في بنغازي، ومع ذلك ظل الشيخ يحب الملك إدريس حتى آخر يوم في حياته، وكان يضع صورة كبيرة له في صالون بيته، ومرة زاره مصطفى الخروبي فشاهد الصورة، وسأل الشيخ لماذا لا تزال محتفظا بها، فقال له إنها مجرد صورة وصاحبها توفى هل تخشون من صورة؟.

في مثل هذه البيئة الصارمة والواضحة والعادلة ولد وتربى حسن دهيميش. حكى لي أن والده لم يضربه أو يعنفه أبدا، وفي منتصف السبعينات عندما طلب منه الالتحاق بالتدريب العسكري العام، شعر أنه سيهان وسيضرب عندما يقف في طابور أمام نائب عريف، فقرر الخروج من البلاد وسافر إلى لندن في مغامرة محفوفة بالمخاطر. واجه مصاعب عديدة وشعر بالضياع. ارتبط في البداية بتنظيم معارض يقوده محمود المغربي أول رئيس للوزراء في عهد القذافي قبل أن ينشق عنه، لكنه أدرك بسرعة تهافت المعارضين وطمعهم ففضل أن يكون مستقلا، ومنذ ذلك الوقت لم ينضم إلى أي فصيل معارض، ولكنه وحده أصبح أهم من جميع أطياف المعارضة. عمل في البداية في كل المهن الهامشية. نادلا في مطعم إيطالي أو في مقهى مكتفيا بالحد الأدنى من ضروريات الحياة، وكان دائما مطاردا من الشرطة بسبب إقامته غير القانونية، وفي هذه الظروف الصعبة انتبه إلى أهمية الكمبيوتر فقرر تعلمه، وبعد زواجه من زوجته الإنجليزية تحصل على الإقامة الدائمة، وكان دائما يثني على زوجته التي يعتبرها انتشلته من الضياع، فيما بعد درس الفنون الجميلة في جامعة برادفون حيث تحصل على دبلوم عالي في علوم الاتصال ثم ماجستير في الفنون الجميلة، وهكذا تسلح الساطور بكل ما يعينه على محاربة الاستبداد والظلم والقبح.
تعرفتُ على زوجته عندما زارتنا في الدوحة عام 2012 كما تعرفت على ابنه شريف الذي عمل معنا في موقع القناة الانجليزي، كما تعرفت على ابنته هناء التي كان يناديها بـ”هانوي” ولم أتعرف على ابنته الثانية، ولاحظت أنه يعاملهم كأصدقاء وليس كأبناء. كان ينفق القليل على نفسه ليرسل معظم راتبه إلى عائلته. يلبس أي شيء يصادفه. المهم أن تبقى القبعة على رأسه، وكان ودودا مع الجميع ويمكنه أن يعقد صداقة بسرعة مع العاملين في الفندق أو عمال النظافة في القناة. لم ينس لحظة واحدة سنوات تشرده لذلك ظل وفيا لذلك الماضي. الشيء الوحيد الذي عجزت أن أغيره فيه هو مناداته لي دائما بـ”الأستاذ عمر”. أقول له يا صديقي أنا أناديك بـ”يا حسونة” وأنت ترد علي بـ”الأستاذ عمر”، بالإضافة إلى أنك أكبر مني سنا، ولكنه أبدا لم يناديني إلا بهذا الاسم.

في عام 2013 منعته من زيارة بنغازي خوفا على حياته. كانت موجة الاغتيالات في ذروتها وكان الساطور مطلوبا من الجميع. كم أشعر بالندم. ليتني تركته يزور المدينة التي أحبها أكثر من أي مكان في العالم، لعله يكحل بها عينيه قبل أن يغمضهما إلى الأبد. رحم الله الساطور سيد النقاء والكبرياء والتواضع ومقارعة الطغاة حتى آخر نفس.

_____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

ليبيا التي لم يرها المنصف وناس (2)

سالم الكبتي

الصادق النيهوم يكتب في السنوات الأخيرة من حقبة الاستقلال – 30 مارس 1968

محمد دربي

ليبيا في معرض 2020

فاطمة غندور

اترك تعليق