دراسات

العينان والشِّعر

العينان واجهة الجسد ونافذته التي يطل منها على العالم , وهما انعكاس صادق لما يدور في جسد وذِهن صاحبهما, حتى وإن اجتهد في إخفاء التفاعل والحراك الجواني , فلابد لنظرات المرء أن تقوله أو تفضحه , وإن لم ينطق بحرف, وقد تعارف البشر على لغة تُدعى لغة العيون أو لغة النظرات , حتى وإن لم توضع لها قواعد وقوانين تضبطها , فهنالك نظرات كثيرة من السهل تفسيرها حال رؤيتها في وجه من يصنعها , فنظرة التفاؤل والنظرة الحانية أو نظرة الأزدراء والأحتقار والأستهزاء أو نظرة التعاطف والنظرة التي ترسم سوء نية حاملها وخبثه والنظرة الأليفة والنظرة الحالمة ونظرة العداوة ونظرة الطمع , والنظرة الشاردة أو النظرة المختلسة الجانبية والنظرة الحاقدة ونظرة الأستعلاء والنظرة البريئة والنظرة المرتابة والمتلعثمة والمرتبكة والنظرة الشهوانية الشبقة , وغيرها , كلها نظرات يسهل تمييزها وترجمتها حال ارتسامها فوق مُحيا صاحبها , ومن هنا يمكن تفسير وتوقع سلوك الشخص فقط من خلال نظرات عينيه , دون أن ينبس ببنت شفه .

أيضاً العينان مثلما هما واجهة للنفس الإنسانية , هما واجهة للجسد فبإمكان الطب اليوم تشخيص العديد من الأمراض التي تُصيب الجسد فقط عبر فحص العينين من ناحية التهابهما أو احمِرارهما أو ضعف النظر أو ترمدهما أو اتساعهما أو ضيقهما أو تدميعهما دون سبب ظاهر , فكل هذه الأعراض قد تكون مؤشر لحدوث خلل في الجسد قد ننتبه إليه تحت إشراف الطبيب المعالج عند ظهورها في وقتها , من هنا وجبَ ألا نستهزأ برسائل العين التي تحاول أن تبعث بها إلينا , ونوليها كل الأهتمام , بل ان العلم الحديث بعد الملاحظة والمعاينة الدقيقة , ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أرجع سلوك الشخص وعاداته إلى لون عينيه , فصاحب العينان السوداوان مثلاً يمتاز بالصفاء والتأمل والشاعرية , وهو صاحب شخصية اجتماعية مرحة ومنبسطة وحساسة وحكيمة , إلى جانب أنها نزقة وانفعالية , أما العينان الزرقاوان فصاحبهما حالم كبير وشفاف وجريء إلى جانب أنهُ أناني ونرجسي , أما ذوو العيون العسلية فيمتازون بالدهاء والتقلب والتلون والتأرجح ما بين البخل والكرم ولا تخلو قلوبهم من طيبة فطرية , أما ذوو العيون البنية فأنهم يتصفون بالرقة والكرم والتسامح والشجاعة مثلاً , فيما يمثل لون العينين الخضراوان الربيع والشباب وحب الحياة والإقبال عليها وقوة الإرادة , وهكذا إلى آخِر الألوان .

واحتفى الأدب بكامل فروعه بالعينين , لا سيما الشعر الذي خصهما بالكثير وقال فيهما ما لم يقُلهُ في عضو آخر من أعضاء الجسم , إذ لطالما تغزَّلَ الشعراء القدامى والمحدثين بحبيباتهم ولا يكتمل ذاك الغزل والتشبيب دون وصف محاسن الحبيبة وتأتي في مقدمة هذه المحاسن العيون , فلكم سحرت العيون الشعراء وخلبت ألبابهم وأطلقت خيالهم , فوضعوا من خلالها ما لا يخطر على بال من صِور شعرية وتعابير ما كانت لتتجلى لولا سِحر العيون وما تنسج من شِباك لا مرئية قادرة على أسر كل من ينظر فيهما , ودون أن يتحرك اللسان بالكلام بوسع العينين أن تنطقا بالكثير وتُعبِرا عن مكنونات النفس , وكلنا لا شك سمع بالحب من أول نظرة , وعبر هذه اللغة – لغة العينين – كتب الشعراء أروع الأبيات ودبَّجوا أجمل القصائد , ولكي يقارِبوا جمال العينين للمتلقي قاموا بتشبيهها بأشياء عدة , فتارة هما السهم القاتل لمن أصابه فالنظرة منا قادرة على صرع ذي القوة والعزم , وتارة هما الشِباك التي لا مفر منها إن وقع في حبائلها المرء وأطبقت عليه , وتارة هما البحر العميق الذي لا قرار له وما مصير من يرتاده إلا الغرق في لجته الغامرة وأمواجه العاتيات , وتارة أُخرى هي عيون المها أو البقر الوحشي كناية عن اتساعها وتناسق ألوانها وكثافة أهذابها .

وما من شاعر تقريبا في مرحلة ما لم تجتذبه المرأة كموضوع والأنثى كمادة ملهمة , وإن وصل الشاعر إلى المرأة فلابد أن يصل إلى عينيها وهما أبرز وأجمل ما فيها , ومثلما خلت المدونة الشعرية تقريباً , لا سيما العربية من تغزل المرأة بالرجل لاعتبارات عدة معروفة , خلت بالتالي من تناول عينيه بالوصف , فبقيَ جمال عينيّ الرجل مطموساً وغير مُلتفت إليه باعتبار أن هذا الجمال لم يجد من يسوقه ويبرزه بالشكل المطلوب .

أيضاً يزخر التراث الشعبي في أي دولة وعند أي شعب بالقصائد والأهازيج والأمثال التي تتخذ من العين موضوعاً لها .

أما وقد تناولنا في هذه البسطة موقع ومكانة العينين في الشعر , نرى لزاماً أن نورد بعضاً مما يؤيد ويؤكد ما سبق سوقه من حديث , فها هو ذا البيت المشهور يقفز إلى مقدمة الشواهد والأمثال في هذا المجال إذ ينشد الشاعر قائلاً :-

إنَ العيون التي في طرفها حورٌ \ قتلننا ثُمَ لم يحيينا قتلانا
يصرعن ذي اللب حتى لا حراك بهِ \ وهُنَ أضعف خلق الله إنسانا

وهما البيتان اللذان كادا أن يذهبا مثلاً وحكمة سائرة لكثرة ما يُستدل ويُستشهد بهما عند الحديث عن جمال العيون .

ومن أجمل ما قيل في العين بيت السياب الذي جاء في قصيدة ” أنشودة المطر ” والذي يقول في مطلعها :-

عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر
أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمر .

وما زاد من جمال هذا البيت السياق الذي ورد فيهِ إذ أن القصيدة التي تتحدث عن العراق فيها الكثير من الحنين والشجن والعشق , وحتى الحزن , ويستطرد السياب قائِلاً في ذات القصيدة :-

عيناكِ حينَ تبسمان تورِقُ الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يرجهُ المجداف ساعة السحر .

وهذا ما تفعله العينان بمن يعشقهما فتجعلانه يتحدث وهو واقِعُ تحت تأثير سِحرهما الأخاذ .

أما الشاعر العربي القديم , بشار ابنُ برد وهو الشاعر الضرير الذي ينتصر لحاسة السمع أمام كل الحواس الأخرى لا سيما البصر لتأكيد غلبة الأُذن ومن ورائِها حاسة السمع التي هيَ كل رأسماله فيقول :-

يا قوم أُذني لبعض الحي عاشِقة \ والأُذن قد تعشق قبل العين أحيانا .

أي أن السمع لا البصر برأي الشاعر ما يضرم العشق بقلب صاحبه أو أن العشق لا يتم ما لم يمر عبر الأذن .

وترحل عيون المؤمنين في العالم ومن ورائها القلوب وتهفوا إلى أقدس البقاع , ذاك ما تخبرنا به رائعة الشاعر اللبناني سعيد عقل ” زهرة المدائن ” التي تغنت بها فيروز فزادتها جمالاً إلى جمالها وقوة إلى قوتها , إذ تترنم قائلة :-

عيوننا إليكِ ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد .
بين ريتا وعيوني بندقية
والذي يعرف ريتا
ينحني ويصلي لإله في العيون العسلية
آهِ ريتا
أي شيء رد عن عينيكِ عينيا
سوى إغفاءتين
وغيوم عسلية
قبل هذي البندقية .

هكذا يوظف الشاعر محمود درويش عينيّ حبيبته الإسرائيلية المفترضة لصوغ قصيدته التي أراد أن يقول من خلالها أن الحب في شكله الأسمى والأعمق لا يعترف بالأختلافات العقائدية أو الدينية أو السياسية ولا حدود لهُ وهكذا حين تنمو بذرته في قلبين , لا تريد إلا أن ترى النور وتكبر لتستقبل شعاع الشمس غير عابئة بكل العراقيل .

وبرأي الشاعر القديم كل مُصاب وجريح لا خوف عليه من جرحه إلا من رمتهُ العيون بسهامها , إذ ذاك ما يعبر عنهُ البيت القائل :-

كل جريح تُرجى سلامته \ إلا فؤاداً رمتهُ عيناها .

والشاعر لثقته العمياء بعينيه فهو يصدقهما حتى وإن مارستا عليه نوعاً من الخِداع البصري , كأن تكون معشوقته ليست جميلة بما فيه الكفاية فيلومه الناس على حبه لها فيرد عليهم هاكم عيناي لتبصروا بها حبيبتي حتى يتجلى لكم حسنها الذي لا تراه عيونكم , في هذا المعنى رسم الشعراء أجمل الصور بدءاً من مجنون ليلى وصولاً إلى بعض الشعراء المعاصرين الذين يعيشون بيننا اليوم والذي يقر أحدهم بضعفه أمام عيني معشوقته فيقول مستسلماً لسحرهما الآسر :-

لم يكونا عينان
عيناكِ
بل رصاصتان
إذ اخترقتاني حتى النُخاع
ما أن احتواني عمقهما
عيناكِ نبوءتان
فلا عجب إن رأيت فيهما عمري
مصلوباً على شرفات الحلم
أو كرتان من نار
وما أبهى الأصطلاء بهما .

وهكذا يسبغ الشاعر على عيني حبيبته صفات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها خرافية أو وحشية وخشِنة , فقط ليدلل على قوة تأثيرهما فيه , ثُمَ ألم يكتشف العلم الحديث أن لبعض الناس عينان قادرتان على التنويم المغناطيسي وممارسة تأثير حقيقي فكيف الحال بعيني المعشوقة على العاشق .

عيون آلزا حبيبة الشاعر الفرنسي أراغون , أشهر من نار على علم , يعرفها القاصي والداني من متعاطي الأدب الرفيع , فها هو هنا بعد أن تماهى فيهما إلى أبعد الحدود , يخرج عن صمته ويغادر صومعة تأملاته ليقول :-

عيناكِ
من شدة عمقهما رأيتُ فيهما
وأنا أنحني لأشرب
كل الشموس تنعكس
كل البائسين يلقون فيها بأنفسهم حتى الموت
عيناكِ من شدة عمقهما
أني أضعت فيهما ذاكرتي .
حدث ذات مساء جميل أن تهشم الكون
على صخور الشواطئ التي أشعلها القراصنة
أنا قد رأيت تتألق فوق البحر
عينا آلزا . . عينا آلزا . . عينا آلزا .

وفي وصفه لعيني هيرا في القصيدة التي تحمل ذات الأسم يقول الشاعر الفلسطيني مُريد البرغوثي :-

عيناها إذا شاءت
بحرٌ للمعاصي
وسِجل للأخطار
وإذا شاءت
ضوء بري
يُعيد إيمان البحارة
بالمجاديف
وإذا شاءت
غامضات
كالحلم المنسي صباحاً

ويُدلي الشاعر الليبي الصيد الرقيعي الذي يتعاطى قصيدة النثر العامية \ المحكية يُدلي بدلوه في هذا الشأن فيضع قصيدة كاملة تتغزل بعيني سالمة بعنوان ” عيون سالمة ” ويقول في بعضاً منها عبر تشبيهاته المبتكرة واستعاراته الموفقة وتجريبيته الواضحة والغالب على مقاطعها الإيقاع والموسيقى الظاهرة :-

عيون سالمة تذكار
على جبين غيمة عاشقة
عيون سالمة أشعار
في خيال ليلة بارقة
عيون سالمة أسرار
في أحضان نجمة مفارقة
عيون سالمة أقدار ف أحزان مركب غارقة
سحر الوجود ومصدره ومصيره
عيون سالمة تحكيه
وجلال البحر ورهبته وهديره
عيون سالمة تجاريه
في عيون سالمة يرسم الظل اشجاره
وتطلع سنابل واعدة وجديدة
ف عيون سالمة تهاجر طيور وانهار
تقصد شطوط ملونة وبعيدة
وعيون سالمة ميلاد
ويبدأ الحب وينتهي وحب سالمة يزداد .

ويزخر الشعر العربي قديمه بمدح العينين وفي هذا السياق ينشد الشاعر مسلم بن الوليد :-

إن كان الخمر للألباب سالبة \ فإن عينيكِ تجري في مجاريها
سيان كأس من الصهباء أشربها \ ونظرة منكِ عندي تصبيها
في مقلتيكِ صفات السحر ناطِقةً \ بلفظة واحدة شتى معانيها .
وهذا بشار ابن برد يقول من جانبه :-
ومرتجة الأرداف مهضومة الحشا \ تمور بسحر عينيها وتدور
إذا نظرت صبت عليك صبابة \ وكادت قلوب العالمين تطير .

أما العديل ابن فرج فيقول :-

وإذا خبأنَّ خدودهن أرينني \ حُدق المها وأخذن نُبل القاتل
يرميننا لا يستترن بِجُنة \ إلا الصَّبا وعلِمنَ أينَ مقاتلي .
ويستمد الشاعر خليل مطران إما استعصت عليه القصيدة إلهامه ويستل إبداعاته من عيني الحبيبة إذ يعترف ذات شعر قائِلاً :-
وكأن لحظكِ يُهدي \ إليَّ بياني وسحري .

إيضاً ينشد آخر :-

كأنها وسنى إذا نظرت \ أو مدنف لم يفق بعد
بفتور عين ما بها رمدٌ \ وبها تداوي الأعيُن الرَّمدُ .
صاحَ والخمر جنى فمه \ سكران اللحظ معربده
ينضو من مقلتيه سيفاً \ وكأن النعاس يغمدهُ
فيُريق دمُ العُشاقِ بِهِ \ والويلُ لمن يتقلّدهُ
كلا لا ذنب لمن قتلت \ عيناه ولم تقتل يدهُ .

ولعل الشاعر الأندلسي أبن الخطيب يعني بقوله القتل غير المقصود وغير المتعمد , إذ لا عقوبة مشددة أو لا عقوبة من الأصل لمن يقتل سهواً , وهذا حال العينين الجميلتين .

ولئِن اشبع الشعر القديم العيون وصفاً ومدحاً وتغزلاً حتى ليظن المتتبع له أنهُ لم يدع شيئاً من الصور والتشبيهات للشعراء المحدثين إلا أن هؤلاء الأخيرين يفاجئوننا بين الحين والآخر بصور مغايرة ومدهشة كأن يقول أحدهم في ومضة عابرة :-

كائِنٌ من أسئلة
أنا وعيناكِ كل الإجابة .
ويضيف آخر استسلم للأعين الزرقاء :-
كأنني وعيناكِ تُبحِرانِ فيَّ
بلا أشرِعة وتجترحهما
الزرقة غزال يُخاتل المدى
ويحلم بملامسة الأفق
في عتمة المسافات .

وفي قصيدة قصيرة بعنوان ” بحر ” يحكي الشاعر الليبي سالم حماد من ناحيته قصته مع العينين الزرقاوين اللتين أخذتاه من نفسه لتزرعاه قصياً حيثُ الملوحة والنوارس والزرقة الغامرة , حين يقول :-

هدأَ من اضطراب
وسكن
لمَّا سُكِبَ في عينيك
بكامل زرقته .
فلا عجب أن
عبرتني الملوحة
وغناء النوارس والجزر التائهة
إذ نظرتُ فيهما .

فيما اختار الشاعر علاء عبد الباسط أقصر الطرق للوصول إلى أجمل عينين رآهما في حياته فطفق يُشبههما بكل ما تراءى له من ظواهر وأشكال فيحالفه التوفيق أحياناً ويخطئه أحيانا أُخرى , إلا أن الشاعر لا يلقي بالاً لذلك ولن يتوقف حتى يُشبع نهمه لوصف أحلى عينين صادفهما إذ ينشئ قائِلاً دون توقف وبلا فواصل للراحة والتقاط الأنفاس :-

عيناكِ مرايا الملائكة
أيقونة البدء
شموع وقناديل
كمائن السحر
قطعة من سماء
سقطت
جوهرتين من جواهر الفراديس
سماء طيعة
حبلى بالأمنيات
مطلع الحلم
مبتدأ السطوع
وآخر النزوات
نافورتا ضوء
سماء واطئة
في متناول القلب
درب الفناء
مفترق الوله
نعومة الموت
وقرقعة الولادات
صخب الصمت
وهدوء الضوضاء
عيناكِ .

هكذا التشبيه والتصوير والوصف بلا هوادة حتى النهاية .

_____________________

نشر بمنشور نت

مقالات ذات علاقة

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (7) .. ظلّ الذّات.. بحثاً عن صورة الضدّ

المشرف العام

زمن‮ ‬الرواية الليبية‮ ‬

رامز رمضان النويصري

الوفاءُ للمكانِ والبيئة في “حكايات شارع الغربي” عند المرحوم خليفة حسين مصطفى(*)

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق