منيرة نصيب
” ليس ثمة باب مغلق , كل الأبواب مشرعة أمام الآه اصرخي بكل ما أوتيتِ من قوة , تأوهي أو حتى اشتمي قولي أياً من تلك الألفاظ البذيئة التي أخبرتني أنكِ كنتِ تسمعينها وترددينها في سركِ كل يوم في طريقك من وإلي المدرسة . ليس ثمة ما تخشينهُ , الآن هو وقتها , ها هي الأبواب فُتحتْ أخيراً على الجانب الآخر , ها هو الضوء يعمي العتمة , اقتربي .. اقتربي أكثر لأراكِ لم يعد هناك الكثير من الوقت ” .
لم يكن وقتها سوى كهلٍ ملأت قساوة الصخر والملح صوته غير أني أحسستُ بالمذاق الحلو لصوتهِ على الريق ظل صوتهُ الأجش يقضمُ أُذني وينسابُ كحبات عرق فوق نحري , دون الاقتراب أو محاولة التفوه بحرف , لكلماتهِ حدة زعتر الجبل ورائحة الميرمية والبردقوش , عظمة آلهة قورينا لم تفارق ملامحه , تأملتُ كلماتهِ كلمة ..كلمة تزحف فوق شفتيه بروية العسل . كُنت وكأني وريثتُه الوحيدة وكان وكأنه سيترك لي يده أو الجانب الإيسر من قلبه كاملاً أو يودع أسرار آلهة صدره أمانة لدي , حسهُ الغريب في المخاطبة , طريقته القديمة التي تشعرني بالخفة , وتجردني من أفكاري كمن يخلعُ عني ثيابي ويبدلني غيرها في لحظة دون أدنى رفض أو اعتراض .
بُطء كلماتهِ منحها براعةً أعرفها بمداعبة حلمتي أذنيّ , وبرقص الصالونات والقفز كأميرٍ ضفدعٍ عند الظهيرة فوق كفي , والقبضُ آخر الليل على ثديي كطريدة أسقطها التعب .
لا شيء كان يفصلني عنه , كُنت فارغة تماماً كورقةٍ بيضاء , مليئةً به كنورهِ حين يُعبّئ بلاداً كاملة في لحظات , وحدهُ الوقت والصراخ والأفكار والطرق التي لم نسلكها سوية وتلك التي سلكنها كلاً على حده والزفرات التي لم تكن لتخرج في هذا الوقت من الفصل بالذات كانت تحول بيننا .
لم يكن لأي كلمة ستعبُر سليمة للضفة الأخرى حيث يقف , أن تُغير أي شيء .
كان مقتنعاً تماماً وكأنما غول ألتهم كل شيء حتى الخطوة الفاصلة بيننا ليلتها , وكنتُ على خلافه لا يمكنني تصور سوى أبوابٍ جديدةٍ تُفتح في كل مرة أسمعهُ بها , كنتُ بذات حماقتي لا شيء تغير , كيف لا وصوتهُ سحابةٌ محملةٌ بالمطرِ يجيءُ فيخرج السيل من سُرّتي , يتخطاني فيخضر خصري كسهلٍ وتتفتح بخجلٍ زهرات الأقحوان مكان لمس يديه ..
اتوسد كل هذه الأسئلة الآن وعينيهِ تغوصان في فنجان قهوتي المرّ كسفينة غارقة .
لم أعد أبحث عن أيةٍ أجوبة مقنعة , الإجابات الغائبة مثيرةٌ أكثر , صار يُثيرني السؤال لمجرد السؤال مثلما كانت تُثيرني فكرة غبية كبقائنا لساعات في مصعدٍ عالق .
أشعر أني متعبةٌ وساخنةٌ كرأس سيجارةٍ تتأرجحُ بين أصابعهِ وأنّي سأنتهي بعد دقيقةٍ أو أقل بين شفتيه , احتجتُ لمن ينفخني بعيداً بشدة , لمن يُطيّرني فوق ذاك الجبل الذي حفظ خطوتهُ وظلّهُ وضحكتهُ وطعم دموعهِ المالحةِ أكثر من كل شيء , لم أكن هذه المرّة بالذات مستعدة للتحول فوق كرسيه الهزاز لدخانٍ وعوين ..
مرّ الوقت .. ذاك الذي لا ينسى لحظة أن يمرّ , و تراصفت في صدري الحروف كجيشٍ يتأهّبُ للهجوم , و ازدادت خشيتي أن أخذلَ جيشي و أن أزُجّ به في معركةٍ خاسرة , ذلك الغولُ كان قادراً على ابتلاع كل شيء , ولم يعد أحدٌ يربح أي حربٍ هنا , كلما تخاصم طرفين طرفٌ ثالثٌ يأتي محملاً من وراء البحر بنصرهِ ..
” وقت ” يا لها من كلمةٍ صغيرةٍ ذاتِ جبروت , كيف تسنّى لها أن تقف ملتفةً كأفعى بيننا , صامتةً , شاسعةً ضاحكةً , شامتةً , ساخرةً بنا ..
قبل أيامٍ أضفتُ عشرين عاماً وأزلتُ قميصهُ الأزرق جانباً , ورتبتُ حضني للقائهِ , وقبل شهرٍ , وقبل أكثر من عامٍ أيضاً , لم يعد يُقلقني صدى خيبتهِ الآن , ولا شدّة برودتهِ , صرتُ أهتمُ لأمر الغد ,
– ولكن ما الجدوى أيضاً من الاكتراث بأمر الغدِ يا وقت .؟ أخبرني أيها الغول اللطيف ..
– أما آن أن تشيخ ولو قليلاً , أن تسقطَ منهزماً آسفاً راكعاً بعد كل هذا الوقت .؟
– أما آن أن تموت .؟
أتخيلُ طريقة ردّهِ المتعاليةِ في كل الآحيين , وجهه المكفهر , عينيه الحزينةِ ترمقنني بنظرة ازدراء , وجعه يبتسم شامتاً في وجهي , نبرة صوتهِ الفخمة : لا .. و يمضي .!
أعود لدائرتي الأولى لشريط الأقحوان فوق خصري .. آه صوته , أتبرّءُ من كل ما كنتُ سأكتبهُ وأبدأ باعتناقِ أفكارٍ جديدةٍ , أفكارٌ لم أصادفها قبلاً ولم تخطر لي على بال , أُطلق المزيد من أوراقِ ذاكرتي مع الريح , أفتحُ الكثير من الأبواب , أستمرُّ بحملِ بنات أفكاري على القفز من أماكن شاهقة من البال , على الانتحار ..
لم أعد أنتظرُ أن يأتيني الوحي , وددت جداً قول ذلك لهُ لكني جبنت . منذ وقت رحيله وأنا أسافر دون تذكرة إليه ,
– كل هذا الحب ولم أصير إلاهاً ؟
– ما الجدوى يا الله , ما الجدوى من الحب إذن قل ليّ ؟
– ما الجدوى من كل هذا الوقت الراكض نحوي كثور ؟
كنتُ سأطلبُ إليهِ اصطحابهُ معه وهو يغلق الباب , ولكن القطة أَكلتْ لساني يومها , القطةُ التي كانت تُزاورني بقلقٍ من عينيهِ , القطةُ التي لم تُصغي لنصفِ ما قلتُهُ ولم يسمح لها الوقت بأن تجيب ولو بمرةِ مواءٍ وحيدةٍ , أو أي إيماءةٍ من بُعدِ خطوة , كانت مثلهُ ملولةً مسرعةً تتأفّفُ وكان الضوء ساطع …
انتبهتُ الآن أنيّ وهذه الكلمةُ على خلافٍ كبير , كيف كنتُ أعتقدُ أنّي أحترمها وأنا منذُ البدء أكرهها , أكرهها هكذا فقط دون أدنى سبب وهل من الضروري أن يوجد لكرهِ شيءٍ ما سبب أو لحُبّهِ حتى .؟ الأسباب تفسد كل شيءٍ حتى الكره .!
ثم أنه ثمةَ غولُ أبتلع منذُ أقل من القليل كل شيء .