1
القول بأهمية الشعر للوجدان العربي، حقيقة لا ينكرها عاقل، بل إنها مسلمة لا تقبل التفـنيد أو الطعن. أمام الشعر، نقف أمام عملاق لا يقبل رهان الخسارة، ودليلنا الأشكال التي اتخذها الشعر والمظاهر التي تلبسها، قدرته علي مجاراة العصر، بداية بالحداء إلي الرجز إلي الشعر كنصٍ إبداعي، إلي آخر أشكاله في النص الحديث. وفي الذائقة العامة (الشعبية) يتحول الشعر إلي وجدان جمعي، وذاكرة تحفظ تاريخ الشعب وتحولاته الاجتماعية وترصد تبدلات العصر، والمحن. لذا كان الشعر الشعبي (بكل أشكاله وصنوفه) في ليبيا ديوان الشعب الليبي وسجله الراصد لمحنه وابتلاءاته، وهذا ما أكده الكاتب الكبير خليفة التليسي في مقالته الشهيرة (هل لدينا شعراء)1
وهذا مالا يخفي حتي علي الشخص العادي من أثر الشعر الشعبي في وجدان المجتمع، واعتماده شكلاً معرفياً، وربما هذا يفسر نجاح تجربة نشر الشعر الشعبي عن طريق الأشرطة التسجيلية، والأقراص المضغوطة، وتبادله عن طريق البلوتوث. وفي جانب آخر يقدم هذا الشكل الحديث ما يمتلكه الشاعر الشعبي من فطنة لابتكار الأساليب التي يتواصل بها والمتلقي، وهذا المظهر نجده عاماً في المجتمعات العربية، ومازالت بعض هذه المجتمعات تجل الشاعر وتقدره وتنزله منزلة الرواد، تتحلق حوله في الأمسيات وترحل في كلماته.
أعود للمقالة العلامة، وأعني (هل لدينا شعراء)، لالتقط خيط تجربة الشعر الفصيح، وتأكيد الكاتب علي فقر التجربة الشعرية الليبية مقارنة بالشرق الأستاذ، الذي لم يتوقف فيه الشعر العربي عند المناسبات، إنما كان لسان المجتمع وديوانه الراصد. أما تجربتنا الليبية فظلت تحاول اللحاق بالتجربة العربية، وتتمثلها أستاذاً، وصورة لا تقبل الجرح، فتم استيراد الأشكال والأنماط الشعرية دون أن يكون ثمة حراك ثقافي قادر علي تحمل أسئلة ونقاشات الشعر واتجاهاته، فظلت التجربة محصورة بين المثقفين بمعزلٍ عن المجتمع (الشعب)، فظل المواطن الليبي أبعد ما يكون عن الشعر العربي، بالتالي أبعد أن يشكل هذا الإبداع وجدانه. وحتي ربط الكاتب منصور بوشناف الشعر بالغناء والبداوة في مقالته (نثر المدينة)2 ،فإنما قصد الشعر كمقابل للنثر كفن ارتبط بحياة المدينة (وسنعود لهذا الخيط فيما بعد). وبالتالي لا يمكننا حقيقة التعويل علي الشعر كذائقة تشكل الوعي العام للمجتمع (المدني بشكل خاص)، فنحن حتي نفقد التاريخ الشعري القادر علي منح تجربتنا ثبتا يرصد أهم الإشارات، وأعيدكم لمقالة الشاعر سالم العوكلي في مقالته المعنونة (هل لدينا تاريخ للشعر؟)3. إذ يعول العوكلي علي ذائقته في إنتاج هذا الرصد للحركة الشعرية في ليبيا، خاصة وإنها تفتقد للناقد الدارس 4.
وبقدر ما انعزل الشعر العربي الحديث عن المتلقي، بقدر ما انعزال الشعراء، بالتالي فإنه في حالتنا الليبية لا يكاد يجد (أو ينعدم) مكاناً بين المتلقين، إذ لا تواصل بين المتلقي (في شكله العام) وبين الكاتب، ليتحول الشعراء جماعة تمارس إبداعا منغلقا.
2
في تسعينيات القرن الماضي راج مصطلح (زمن الرواية) أو (الرواية ديوان العرب)، وفي زعمي أن هذا التنظير كان نتاج عملية نقدية اعتمدت ما أنتج من رواية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من ذات القرن، خاصة وإن الرواية كجنس إبداعي في شكلها الحديث تم إدخاله المنظومة الإبداعية العربية في وقت متأخر. فتقرير الزمن للرواية، لم تقرره بيانات استطلعت الرأي العام (المتلقي)، ولا مسح لمبيعات المكتبة العربية. وبالعودة، نجد أن هذا التنظير روجت له الصحف والمجلات الأدبية، وأفردت له الصفحات والملفات. 5
هذا الجهد النقدي فرض نفسه علي الساحة، للتتفاعل معه الأجهزة الثقافية والإعلامية كحقيقة واقعة. وهذا لا يعني رفضنا، بقدر ما يقدم صورة عن قدرة النقد علي تلمس لحظات الإبداع المهمة، وتفسيرها، وتسليط الضوء عليها وتمثلها. وبالتالي القبض علي اللحظات المهمة للرواية العربية، التي استطاعت أن تكون نصاً راصداً ومسجلاً للكثير من اللحظات التاريخية المهمة في المجتمع، وهو رصد لا يقع تحت منهجية الدراسة التاريخية، إنما إعادة إنتاج للحدث برؤية أدبية إبداعية، متشبعة بأفكار وتداعيات المرحلة، وقدر من التعاطف مع مرحلتها/أحداثها، كونها تمثل في جزء منها تجربة شخصية، فتتحول إلي سيرة شبهة ذاتية يتداخل فيها الخاص أو السِّيرَوُي والعام، لينفتح النص علي أفق أكبر من الدلالات بدخوله مغامرة التضمين والمواربة والمسكوت عنه.
لقد استطاعت الرواية العربية الحديثة أن تفتح القمقم، ليعاد تشكيل الواقع وضبط صورته وإزالة ما شابها من ران. والرواية كجنسٍ إبداعي مستورد _أسمح لنفسي بهذا الإقرار_، استفادت من تقـنيات اللغة العربية والسرد العربي، فتجاوزت نماذج المباشرة الأولي وتمثلات وظيفة الأدب إلي غاية الوعي.
3
رغم الاختلاف في تحديد البدايات الفعلية للرواية الليبية / 6، إلا إن التجربة لم تعرف الكثير من التحولات، إنما كانت مرآة صادقة للمجتمع الذي عاشته أو انطلقت منه، وكونها ارتبطت بالمدينة فقد عبرت نماذج الرواية الليبية الأولي بشكل خاص- عن مجتمع المدينة وعلاقاته المتشابكة وتغيراته الاجتماعية، وما أوجده هذا المكان في ساكنيه (وهنا نوصل الخيط بمقالة بوشناف المعنونة بـ(نثر المدينة)، إذ كان النثر الأقدر علي التعبير)، هذا دون أن تغفل بعض الكتابات مجتمعات القري والنجوع، ومحاولة الالتفات إلي فترة الاستعمار. لكن لو قلنا إن الرواية بدأت في 1937 ،كما ذكر الدكتور الصيد أبوديب في ثبته /7، فإنها متناً لا تشكل حجماً مقارنة بالقصة القصيرة، والتي تتفوق عليها في دخولها أكثر في التجريب، واجتراحها الكثير من الموضوعات وفتحٍ لعديد الأسئلة.
لكن الرواية الليبية عرفت بدخولها القرن الجديد الكثير من التحولات، خاصة بدخول مجموعة من الأقلام الشابة من خلال مجموعة من الروايات، صدرت متقاربة زمنياً مختلفة في موضوعاتها وأساليبها الروائية، عاكسة شخصيات كتابها وانفراده، وأعيده لطابع النشأة الفردية للمبدع الليبي أو استقلاله عن التكون ضمن مدرسة أو مجموعة ما، بالتالي يكون النص صورة لبحث الكاتب واجتهاده، وفي الغالب سيكون مخلصاً لنصه أكثر من التجربة في شكلها العام، وتلميذاً نجيـباً لأستاذه.
والآن لماذا زمن الرواية الليبية؟، الإجابة الظاهرية، هو حجم ما صدر من روايات ليبية خلال السنوات الماضية، بداية الألفية الثانية، حيث تنوعات موضوعات الروايات، لتطرق بعض المسكوت عنه (كرواية: التابوت/ عبدالباسط غزال)، أو أن تذهب في الكشف أكثر (كما في رواية: للجوع وجوه أخري/ وفاء البوعيسي)، أو إنها تتعامل من منطلق الذات صعوداً (كما في روايات محمد الأصفر)، أو ارتكازها علي المادة التاريخية (كما في رواية: حكايات نجمة/ خليفة حسن مصطفي-رحمه الله-)، أو المكان (كما في رواية: دردنين/ عاشور الطويبي) كما أن المنظومة الاجتماعية (كتابو) وعلاقتها بالفرد كانت من الموضوعات التي تم الاشتغال عليها (كما في روايات نجو بن شتوان).
هذا وشهدت الرواية دخول الكثير من الأسماء، خاصة الشابة، لتـنضم إلي كوكبة كتاب الرواية الليبية، فلم يعد من حاجة لأن يكون المنتج لها روائياً، أو من علي صلة بالسرد، بل رأينا الشاعر يكتب الرواية (عاشور الطويبي، أبوالقاسم المزداوي، صلاح الدين الغزال،…)، كما رأينا الرواية كإصدار أول للكاتب (عبدالله الغزال، منصور بوشناف،…). كما وعرفت هذه العشرية إسهام الكاتبات في متن الرواية الليبية، واجتهادهن في إنتاج رواية مغايرة (علي سبيل المثال تجربة الكاتبة نجو بن شتوان، وتجربة وفاء البوعيسي).
أما الإجابة المبطنة (غير الظاهرة)، فهي غلبة الرواية علي بقية الأجناس الأدبية من شعر وقصة، وصعود نجمها علياً بقدرتها علي شد المشهد الثقافي إليها، وليس القارئ8، وللبحث في هذه الإجابة المبطنة أو غير الظاهرة، سأضع ملخصي في مجموعة نقاط، في محاولة للتركيز أكثر
انغلاق الشعر (كنص)، ودائرة تلقيه الضيقة. خاصة وإن النص الحديث تخلي عن الإيقاع والوزن إلي النثر، وتحوله من المباشرة والرصد النمطي إلي التقاط الصور والاشتغال علي اللحظة، بالتالي تحول النص الشعري من الحسي إلي البصري حتي وهو يشتغل باليومي ويبحث في التفاصيل. فانحصر الشعر بين الشاعر والمتلقي الواعي، وهذا المتلقي إما مبدع/ مثقف يمكنه إنتاج نص موازي في شكل قراءة، أو متلقٍ متذوق للشعر.
تعلق الشعر بالشاعر، أو لنقل ارتفاع مستوي الذات في النص، ليتحول النص إلي صورة موازية للشاعر، فالنص الحديث خرج بالشعر من العام إلي الخاص. فالشاعر يعيد صياغة تجربته (الحياتية) في صورة نصية. لتغيب الأسئلة الكبري في شكلها العام، إلي بحث خاص/ذاتي عن الطريق إليها، واستنطاقها.
الأمر الذي تحول معه الشعر من الديوان الحافظ للذاكرة الجماعية، إلي الذاكرة الشخصية، وما يتماس وإياها.
ولأنه نص يعتمد الحدث، أو الالتقاطة الخاطفة، فإن القصة لم تستطع التسجيل للأحداث المهمة والكبيرة، بما يكفل الإحاطة بالحدث أو معايشته. كما وإن أشكال القصة القصيرة الحديثة، لم تعد تعول علي الحدث كمحور للنص، الأمر الذي تتحول معه القصة إلي نصٍ سردي، أو مفتوح، يقبل التشكيل والتجنيس.
والملاحظ إن القصة الليبية لم تعد تملك من ألق الثمانينيات وبداية التسعينات شيئاً، حتي إن القصة لم تعد تلقي الكثير من الحضور، إلا من خلال بعض الأسماء.
الرواية نص مرن قادر علي التشكل، والالتفاف بمهارة. وهي نص مفتوح لا يمكن الوقوف علي حدوده. قادر علي إذابة الأشكال المختلفة والتعامل معها، وصهرها في قالب واحد.
الرواية تستفيد من فترات الاستقرار الاجتماعي، ونعني الصعود الزمني الثابت، في قراءة الحوادث والأحداث المهمة، وإعادة إنتاجها وفي الغالب بالاعتماد عل ذائقة الكاتب (قراءته)، الأمر الذي يحول الرواية إلي عمل أقرب للسيرة الذاتية، حال تفرد الرّاوية بالنص ونفترض الكاتب-، أو أن يتحول النص إلي الرصد فيكون صورة للواقع، أو صورة موازية له، لذا فهي أكثر التصاقاً بالواقع والمحيط (المحلي في حالتنا هنا).
السرد يمنح النص القدرة علي التشكل والاحتواء. التشكل في الاستفادة من الأشكال الإبداعية المختلفة حتي التشكيل-، وإنتاج شكل سردي يخص العمل الروائي. الاحتواء في ما يمكن للسرد من الذهاب في التفاصيل، والإحاطة بلحظاتها. السرد ينجح مع المنظومات والنظريات المعرفية، ناحية تقديمها بشكل لا يكون غريباً علي المتلقي، كما إنه يمكنه حمل الكثير من الشحنات والانفعالات، والأفكار التي ربما يضيق بها النص الشعري أو القصصي.
كما إن الرواية يمكنها الاضطلاع بدور المؤرخ (الراصد)، لكنها وهي تقدم الحدث التاريخي، لا تقدمه كمادة تاريخية جافة، بل تتداخل المادة التاريخية بقراءة الكاتب للحدث رؤيته الشخصية-، وقد يستقل بها، وقد يقارب قراءتها بما وازنها من قراءات. بالتالي فهي أكثر وقعاً وتأثيراً من النص الشعري والقصة القصيرة، كون الأولي حالة انفعالية والثانية حالة استدعاء حدث لعينه.
الرواية كجنس- حالة من الوعي بمفردات العمل وتقنياته، وفي المقابل رغبة في التجريب. هذا لا يجعل من الرواية قالباً جامداً أو صورة منعكسة، هي تتحرك بحرية، فالرّاوية يختفي هنا، ويعود هناك، يستأثر بالحدث، ويواربه في الناحية الأخري.
في اعتقادي الشخصي، إن الرواية الليبية انتماءً للثقافة المحلية، أو كنص ينتمي منتجه إلي ليبيا- مازلت تملك من الإمكانيات الكثير، ومازالت لم تفصح عن نفسها وما يعتمل في داخلها. إنه زمن الرواية الليبية، هي نص اللحظة الراهنة، والمعول عليها. والحاجة لكتابة رواية ليبية جديدة، هي الحاجة للكشف، لإنتاج نص معرفي يمكنه كأثر البقاء والتأثير أكثر. أنا هنا لا أنتصر لجنس إبداعي علي حساب آخر. بقدر ما أسجل ملاحظة هي حصيلة متابعة للحراك الثقافي في ليبيا، فهو وإن كان محصوراً في مثقفيه، إلا إن الواجب يحتم علينا الملاحظة.
_______________________
هوامش:
1 ـــ خليفة التليسي (هل لدينا شعراء؟) صحيفة الليبي 1952/10/20 .
2 ــ منصور بوشناف (نثر المدينة، قراءة في القصة القصيرة الليبية) مجلة الفصول الأربعة العدد:95 ـــ 2001/4 .
3 ــ للأسف لا أملك بيانات العدد 3 .
4 ــ رامز رمضان النويصري (النقد والنقاد، قراءة في التجربة النقدية في ليبيا) القدس العربي 2006/5/18 العدد: 5278 .
5 ــ نشير إلي أنه انعقدت بمدينة طرابلس، ندوة الرواية العربية وقضايا الأمة، في طرابلس 7-9 يوليو_ 1999 .
6 ــ في الثبت الذي أعده الدكتور الصيد أبوديب بمناسبة احتضان طرابلس لندوة الرواية العربية، أن أول رواية مطبوعة هي رواية (مبروكة) للأستاذ حسين ظافر بن موسي وطبعت بدمشق العام 1937، وإن كان البعض يرجح أن أول رواية ليبية هي (اعترافات إنسان) للأستاذ محمد فريد سيالة وصدرت عن دار الشرق الأوسط للطباعة والنشر، الإسكندرية، 1961. صدر هذا الثبت في شكل كتيب تحت عنوان (ببليوغرافيا الرواية الليبية المطبوعة 1937- 1998) .
7 ــ المرجع السابق .
8 ــ الرواية الليبية كأي منتج إبداعي لا يمكن رصده من خلال القراء .