(ميمونه تعرف ربي، وربي يعرف ميمونه)…
حكمة ليبية…
تستوقفنا الديباجة التقديمية لمسودة الدستور التي نشرت بتاريخ 18 اكتوبر 2015 منذ جملتها الأولى وتدعونا إلى التأمل، فقولنا (تأسيساً على قيم ديننا الحنيف) يبدو غير بين وفي حاجة إلى توضيح ما نعنيه بقيم ديننا الحنيف التي تعلن الديباجة أن هيئة إعداد الدستور قد حددتها أساساً للدستور المكلفة بإعداده، وذلك اختيار حسن ولا يحتمل أن يلقى عدم رضىً أو الرفض من عاقل مؤمن بالإسلام، لكنه لا يمنع من التساؤل عن ماهية قيم ديننا الحنيف المعنية هنا، وعن مدى في وضوحها في أذهان أعضاء هيئة إعداد الدستور بل وفي أذهان المعنيين بمواد الدستور وأحكامه، لما للإفتقار إلى الوضوح في هذا الشأن من مخاطر ومحاذير تذكرنا بما عشناه وعايشناه من تزوير وتشويه لقيم ديننا الحنيف تحت شعار (القرآن شريعة المجتمع).
ولأن الدستور عقد إجتماعي، فإن مسألة القبول به والموافقة عليه أو رفضه ورده أو تعديله حق لكل المعنيين به أي أفراد وفئات المجتمع الذي أعد ذلك العقد ليحدد أبعاد علاقات بعضهم ببعض وينظمها وليكون مرجعاً أخلاقياً وحقوقياً وسياسياً لتلك العلاقات، ولأن الديباجة الافتتاحية لعقدنا الاجتماعي المأمول تعلن أن قيم ديننا الحنيف هي أساس هذا العقد، فيحسن بنا أن نتذكر ونستدعي حقيقة أن ديننا الحنيف يؤسس الإجتماع الإنساني على قيمتي المودة والرحمة ومنظومة القيم التي تتصدرانها وتتضمنانها أيضاً والتي تضم قيم (الحياة والحرية والمساواة والعدالة والحكمة والكرامة والشورى والمواطنة) حتى أن الخطاب القرآني المبين في سورة الروم (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها. وجعل بينكم مودة ورحمة) ليس موجهاً لفرد بعينه ولا لفئة دون غيرها ولا لجنس دون آخر بل هو يتوجه إلى الناس جميعاً بكل فئاته ولكل ذكر وأنثى دون استثناء ولا محاباة، فخطاب هذه الآية شأن كل الخطاب القرآني لا يفرق بين البشر ولا يفاضل بينهم إلاّ وفق تحقيق كل منهم للقيم التي عليها يتأسس وجودهم الإجتماعي والموافقة للفطرة الإنسانية السليمة، أو قصوره عن ذلك بسبب الجهل أو الأنانية والتعصب.
لكن منظومة القيم التي يؤسس عليها الإسلام الإجتماع البشري ليست قائمة في الفراغ، فهي بمجيئها كاستجابة لنزوع الإنسان الفطري إلى الإجتماع وإجابة شافية لما يطرحه من تساؤلات وقضايا وحلاً لما قد يعترض طريق تحققه من عقبات، وتقوم كتخم يحول دون تداخل نزوع الإنسان هذا إلى الإجتماع مع نزوعه إلى التملك واختلاطه به، ولمنع ما لابد أن يجئ عن ذينك التداخل والإختلاط من فوضى وارتباك يعم وجود وحياة الإنسان ويفسدهما، فمنظومة القيم التي تتصدرها قيمتا المودة والرحمة مؤسسة على أسمى المبادئ على الإطلاق، أي (مبدأ التوحيد) المعبر عنه بشهادة أن (لا إله إلّا الله) الذي يستجيب لنزوع الإنسان الفطري إلى السموا وتجاوز كل المتاح والمتداول من مكونات عالمه والإجابة الشافية لتساؤلاته حول الكيفية المناسبة التي ينبغي أن تكون عليها صلته بذلك المتاح والمتداول وعلاقاته به.
فمبدأ التوحيد بذاته وبتجاياته التي تجسدها مبادئ (الحق والخير والجمال) التي إستمرأنا الفهم والتفسير الأفلاطونيين المغلوطين، والذي علمنا أنها مثل عليا مفارقة غير ذات صلة بالواقع البشري وما من أمل في إمكانية تحققها فيه، فمبادئ الحق والخير والجمال شأن مبادئ الإيمان والصدق والحب والعدل والأمان والفرح تجليات واقعية للمبدأ الأسمى والأساس للوجود بكليته بما فيه الوجود البشري وهو الذي يمنح ذلك الوجود المعنى الذي يمكن به تحديد هويته وتحديد ماهيات الموجودات جميعاً، وهو الذي يضفي عليه القيمة عبر منظومة القيم المؤسسة عليه، إلى ذلك فإن مبدأ التوحيد يظل وحده القسطاس المؤهل دون غيره والمناسب لمدى نجاح الإنسان ومجتمعه أو فشلهما في ارتقاء معراج الإنسانية.
وفقاً لهذا الفهم يمكن لنا أن نستوعب ونفسر معنى أن يتأسس عقدنا الإجتماعي على قيم ديننا الحنيف، وفق ما تعلنه ديباجته التقديمية، وتتاح لنا قراءة مستنيرة وواعية لبنوده قد تقودنا إلى تغيير ما نجد به حاجة إلى التغيير حتى نقطع الطريق التي قد تجيئنا عبرها رياح الديكتاتورية، ونسد الثغرات والشروخ التي قد تمرق عبرها روائحها النتنة، ونعي كذلك أن الديكتاتورية ليست فردية دائماً مثلماً تصر ديباجة الدستور، بل أنه مثلما يمكن للفرد أن يكون ديكتاتوراً وطاغية، يمكن لفئة أو جماعة أو فئة إجتماعية أن تطغى وتكون ديكتاتورية، فليس الطغيان والديكتاتورية إلا نتيجة لتلوث الفطرة الآدمية بأدواء النزوعات المنحرفة إلى الإستحواذ والتسلط، وهي تجسيد للأنانية القميئة والجاهلة التي قد تقود فرداً إلى نفي الآخرين باختزالهم في.. “أنا”.. وقد تتورم إلى “نحن” أشد قماءة وجهلأ وتمارسها إثنية أو قبيلة أو طائفة أو حتى قرية على الآخر المختلف.