قصة

صعاليك بلا هوية

.. إنها جدارية هائلة.. تتكون في إطارها الواسع شبيهة بتلك المنمنمات المتعددة الألوان والأشكال.. متداخلة في بعدها اللامنتهي.. واللامنتمي..

.. نداءات الباعة الجائلين.. وهدير أجهزة المذياع في المقاهي.. ولعنات عرب الشوارع.. والحوانيت الصغيرة والكبيرة التي تحميها مظلات مهلهلة.. وأكشاك الفواكه الخشبية.. لم تتغير منذ ذلك الزمن البعيد..

صورة للمدينة.. والمدينة في الصورة.. بقت بعض الوجوه كما هي عليه، في حين تغيرت الأخلاق والصفات.. العباد أصبحوا أكثر قيحاً، ففي المدينة زاد الشذوذ.. وتنوعت السمسرة.. وكبرت حمأة المكيدة.. والمكيدة المضادة..

التقط السيد متعب بن تعبان صوت المؤذن الأعمى من بعيد.. وعينه على اليهودي القميء صاحب الوجه البليد.. الذي يقف بصلف وراء حاجزه الخشبي يسقي التعساء من العرب العاربة خمراً رديئاً.. عافه متعب بن تعبان وأشمئزت نفسه منه ومن ذلك اليهودي المحتفي وراءه بأنخاب النصر.

انسحب متعب من جدارية المشهد.. وفي قرارة نفسه شعور متعدد الاتجاهات وجلس في ركن قبالة خمّارة اليهودي.. يراقب ويعد من يدخل ومن يخرج من هذا الحضن البائس.. أصابته الدهشة لهرولة الداخلين، كأنهم يستبقون تكمال النصاب للعدد اثنين وعشرون.. نعم اثنان وعشرون كعدد أبنائه بالكمال والتمام.. هاله التطابق في الكمّ والنوع.. ولفت نظره بشدة ابتذال وذلّ وخنوع المترددين على خمّارة اليهودي.

قهقه في داخله وهو ينسحب برفق.. ليلتقط الخبز من الطرحات المرصوفة أمام المحروقي صاحب المخبز المكلل بسواد الواجهة.. ثم أودع الخبز في قفته.. وفي نفسه ألم الفجيعة لما حوله.. تنبه السيد بن تعبان إلى صوت المحروقي يأتيه من خلال الثقوب الفاصلة بينهما في جدار الكوشة.

– كم فردة خبز أخذت يا متعب؟

– أجاب وقد تباطأ خروج الكلمات من فمه..

– اثنتا وعشرون فردة!.

– أتكفي فردة خبز لكل واحد من أبنائك يا متعب؟! أليس هذا بقليل!!

– تكفيهم، إنه خبز مبارك.. غير منحوس !!

– أمسك لسانك يا أخي متعب.. بل عضّ عليه كي لا يخونك !!

– الحياة معركة.. يا محروقي.. وكل شخص يخوضها لسبب ما.. وها أنت ترى الحكومة تتعقبنا.. وتترصدنا وتسجننا.. وتعذبنا.. ثم تطلق سراحنا.. بعد أن تطلق علينا صفة كلب.. وكأن الكلب ليس كالإنسان له روح.. ونفس.. وأنفة !!

ألست معي في القول بأن ما حلَّ بنا هو نتيجة ضعفنا وانهيارنا.. وممارسة أسيادنا.. نحن الآن نمارس طقوس المهزوم في تصرفاتنا وبين ذواتنا.

– أراكَ يا متعب تحمل حزناً أكبر منك ؟!!

– ومتى فارقنا الحزن !! إننا مزروعين في أرض غير أرضنا !

– صدقت يا متعب.. في بلادي.. باستثناء الريح لا شيء يثبت أو يقاوم.

– كفى.. كفى.. قبل أن تسمعنا الريح.. فننام خارج مساحاتنا المسموح بها إلينا.. سلام عليك.. أو لنقل شالوم فالكلمة مستساغة لدى النخبة المتميزة !!!

– ………!!

مقالات ذات علاقة

دهشة مبتورة…

أحمد يوسف عقيلة

شاي بالنعناع

هدى القرقني

مدينة مضطربة

المشرف العام

اترك تعليق