رواية العلكة للكاتب منصور أبوشناف.
حوارات

حوار مع الأديب الليبي المبدع منصور بوشناف حول روايته (العلكة)… المرشحة لجوائز عالمية

حاوره: يونس الفنادي

ليبيا المستقبل

الكاتب: منصور أبوشناف

قبيل احتفاله بعيد ميلاده الثاني والستين بأسابيع معدودة كان هذا اللقاء الإذاعي المسموع الذي سجلته لإذاعة صوت طرابلس مع الأستاذ الكاتب المسرحي الأديب منصور بوشناف الذي يعد رمزاً من رموزنا الابداعية، ووجها مضيئاً بكل ألق ونبوغ في فضاء ثقافتنا الوطنية، حيث انشغل منذ بواكير عمره بهوس الكتابة النثرية، لإيمانه بها كرسالة هادفة وفاعلة لإرساء قيم الخير والمحبة في قلوب الناس، وإشعاع صور الفكر والجمال في عقولهم، وظل وفياً بكل شغف وتألق لممارسة مجاله الابداعي وهو المسرح أبو الفنون وأستاذ الشعوب، وكذلك فن المقالة الأدبية السياسية وأخيراً الرواية السردية.

فاز الأديب منصور بوشناف بجائزة النصوص المسرحية عام 1973 حين كان عضواً بفرقة المسرح الوطني بمدينة مصراته، وهو لايزال آنذاك طالباً في مرحلة التعليم الثانوي، وحين انتقل لمواصلة دراسته الجامعية بمدينة بنغازي الحبيبة تغير مسار حياته كلياً إثر عرض مسرحيته (عندما تحكم الجرذان) التي أودت به وآخرين، قرابة عقد ونصف من الزمن خلف قضبان السجن.

وترشحت روايته «العلكة» التي صدرت العام الماضي 2014 لجائزة Emerging Voices الأميركية لأدب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وتم اختيارها في أغسطس 2014 ضمن مجموعة من الأعمال الأدبية العالمية لتوزيعها مجانًا على المسافرين في محطات القطارات بالعاصمة البريطانية لندن. وكذلك ترشحت مؤخراً للفوز بجائزة سيف غباش/بانيبال للترجمة الأدبية لعام 2015، في منافسة على الجائزة مع ستة وعشرين عملاً روائيًا عربيًا مترجمًا للغة الإنجليزية، والتي ستعلن نتائجها خلال العام الجاري 2016.

ولكل ذلك كان لابد في بداية هذا الحوار من توجيه تهنئة مزدوجة للكاتب المبدع منصور بوشناف.. بمناسبة عيد ميلاده المديد… وترشح روايته لجائزة الترجمة قبل أن نبدأ الحوار الممتع الذي أعرضه عليكم في السطور التالية.

• أهلاً وسهلا بك أستاذ يونس وشكراً على هذه المقدمة الجميلة حقيقة. خالص الشكر لك ولإذاعة طرابلس وكل المستمعين، ويسعدني جداً أن أكون معك وإن شاء الله يا رب العام الثاني والستين يكون أفضل مما مضى… “العلكة”.. حدثنا أستاذ منصور عن هذه الرواية التي ولدت سنة 2008 بلسان عربي بعنوان (سراب الليل).. ما مضمونها؟. شخصياتها؟. رسالتها؟

رواية “سراب الليل” طبعاً تعتبر هي أول عمل روائي كتبته. سبق وأن كتبت رواية اسمها “الفتوحات الليبية” ولم تصدر إلى حد الآن بكل أسف. ولكن “سراب الليل” تعتبر فعلاً هي أول عمل سردي روائي يصدر لي وكان ذلك سنة 2008. وللعلم هو مكتوب قبل سنة 2008، صدر في القاهرة وبكل أسف تم منعه في ليبيا، ولم يوزع. هذه الرواية، أقصد “سراب الليل” تناولت مدينة طرابلس في الثمانينيات وبالتحديد شارع البلدية والحديقة التي بجانب الفندق الكبير ومتحف السرايا الحمراء، وما كان يدور في تلك الفترة. في الثمانينيات انشغل الليبيون بالسفر إلى تركيا واستيراد “العلكة”. وهذه العلكة صنعت مليونيرات وناس مؤثرين في هذا المجتمع، ومن هنا كان التقاط هذه الموضوع الفكرة، وهو موضوع سيادة العلكة في تلك الفترة، حيث تحول كل شيء إلى ما يصفه الليبيون “التمضييغ” أو “اللوك الفارغ”، تحول علم الاجتماع إلى لوك فارغ، والسياسة إلى لوك فارغ، والأدب إلى لوك فارغ. كل شيء تحول إلى لوك علكة في تلك الفترة، ومن هنا كانت الالتفاتة للرواية.

• ما هي أبرز شخصيات الرواية؟

البطل الأساسي في هذه الرواية هو المكان، وهو طبعاً مدينة “طرابلس”. وبالإمكان القول إنها رواية مكان، ولكن هناك أبطال يقومون بتفجير الحادثة، وأحد الشخصيات الرئيسية على ما أذكر هو “مختار”، “فاطمة” و”الأب” وهناك أيضاً شخصيات أخرى مثل “الحديقة” التي تعتبر شخصية رئيسية، وكذلك “التمثال” شخصية رئيسية. والذي يعد جديداً في الرواية هو أن تكون “حديقة” أحد أبطال الرواية، أو “تمثال” أحد أبطال الرواية، إلى جانب الأبطال وهم الشخصيات الإنسانية.

• ما هي رسالة هذه الرواية من خلال شخصياتها المكانية وشخصياتها الإنسانية؟

هذه الرواية هي أنا. أعتقد أنها تقدم بشكل أو بآخر تحولات. أو دعني أقول بأنها تقدم خراب المدن خلال فترة من فترات تاريخنا المتعبة التي كان بها الكثير من العراقيل ضد تحول هذا المكان وتطوره، وما انعكس على الشخصيات نتيجة هذا الخراب السائد سواء في المكان أو الإنسان. هذه قد تكون الرسالة التي تقدمها هذه الرواية بمعنى أن كلاً من الأمكنة والبشر يصابون بالخراب والتسّمر والتجمد والتحجر، كما يقولون، إن لم يستطيعوا ممارسة إنسانيتهم أو حريتهم.

• لماذا منعت “سراب الليل” من التداول في ليبيا عقب صدورها سنة 2008؟ حسب تقديرك؟

أعتقد أنه كانت هناك قراءة سياسية لهذه الرواية بشكل أو بآخر، رغم أني أعتبر السياسة هي جزء من المشهد وليست كل المشهد. الرواية منعت ربما لتماسها المباشر مع ما كان يجري في تلك الفترة. أيضاً لغتي في هذه الرواية كانت أقرب إلى الصحافة، خالية من التورية، بل تقدم شخصيات كما هي، بحركتها في الواقع كما هي، كذلك الأمكنة وما حدث بها تقريباً منذ العهد التركي إلى الآن، فكانت الرواية تمس بشكل أو بآخر ما يتعرض إليه المكان والإنسان في تلك الفترة.

• صدرت “سراب الليل” بعنوان آخر وهو “العلكة”. هل تغير عنوان الرواية كان للتحايل على الرقيب؟

لا…لا… بالعكس. فلقد صدرت “سراب الليل” باللغة العربية ومنعت. الرواية لها عنوان رئيس وهو “سراب الليل” وبين قوسين “العلكة” ولما ترجمت الرواية إلى اللغة الانجليزية اختاروا “العلكة” وكانوا أذكياء جداً في هذا الاختيار لهذا العنوان الملفت … للبحث في ماذا بجعبة العلكة؟

• ما علاقة “العلكة” بسراب الليل؟

اللوك هو نوع من ممارسة العبث، اللاشيء، ومطاردة السراب وهي أيضاً نوع من العبث. وكما تعلم فإن السراب لا يكون في الليل، والرواية بها فصل بعنوان “سراب الليل” الذي يلمح إلى مطاردة الحرية وسط الظلام، يعني تصبح حرية الشخصية وتطلعاتها هي نوع من السراب داخل هذا الظلام الدامس، ومطاردة النور والأمل.

• ما الأهمية التي يضفيها ترشيح الرواية لمثل هذه الجوائز العالمية؟ وما مردود ذلك على المؤلف والناشر معاً؟

بقدر ما كان هذا العمل سيء الحظ في ليبيا، فقد كان محظوظاً خارجها. فبعد صدور الترجمة الانجليزية بشهر تقريباً تم اختيارها من قبل هيئة القطارات البريطانية لتكون جزء من مكتبة القطارات التي تقدم للمسافرين بجانب العديد من الأعمال العالمية الأخرى من جميع أرجاء العالم فأختيرت “العلكة” كعمل روائي عربي.

رواية سراب الليل - العلكة
رواية سراب الليل – العلكة

• كيف أختيرت الرواية للترجمة؟

حقيقة أنا لا أدعي معرفة كيف ولماذا تم اختيارها، كل ما هنالك أن الناشر اتصل بي وأبدى رغبته في ترجمتها فوافقت وهو أمر يسعدني. ومرت فترة نسيت هذا الموضوع ولكن بعد فترة أرسل لي الناشر نسخة من الترجمة لمراجعتها فقمت بمراجعتها وأعطيته موافقتي عليها، وأثناء دورة معرض طرابلس الدولي للكتاب سنة 2013 بعث لي الناشر عقد النشر والترجمة مع الدكتور غازي القبلاوي، فوقعت العقد. والغريب أنني أول مرة أرى ناشراً بمثل هذا الالتزام حيث سلّمني مباشرة حقي المالي وفلوسي كاملة. ويبدو لي أن الناشر هناك قد وجد في الرواية شيئاً جديداً أو ربما منطقة مجهولة قد يقدم أدبها.

• يبدو لي أن الرواية لم تتعرض إلى شيء من النقد والتشريح أو الكتابة عنها في المطبوعات المحلية.

صدرت الرواية باللغة العربية، وما أقوله هنا يعد شيئاً مؤسفاً، وتم توزيع الرواية بشكل غير رسمي، ولكن بيد ليد كما يقولون، بسبب منعها من التداول في ليبيا، فأهديت نسخاً بيدي لأصدقاء ونقاد ومهتمين بالأدب، وكتب عن النسخة العربية حوالي ثلاثة مقالات، بينما في بريطانيا وبعد صدورها بثلاثة شهور كتب عنها حوالي اثنى عشرة مقالاً آخرها كان الملحق الأدبي لجريدة التايمز اللندنية، وكتب عنها في الولايات المتحدة والبرازيل وبالتالي لاقت صدى طيباً. المؤسف والمحزن بالنسبة لي، أن أصدقائي الذين أهديتهم النسخة العربية أتوا يسألوني أين نجد روايتك “العلكة”، فأذكرهم بأني قد أهديتكم نسخاً منها قبل أن يصبح لها صدى. وهذه إشكالية مؤسفة وهي أن أعمالنا الابداعية لا تصبح مهمة وننظر إليها إلا إذا اهتم بها الأجانب وأعجب به الآخرون.

• هل تؤمن بأن النقد هو محرك رئيسي للإبداع؟

طبعاً. النقد هو ركن أساسي مهم جداً للإبداع، وبدون متابعة نقدية سلباً أو إيجاباً سيظل العمل وكأنه ميت ولا يوجد أي تفاعل بينه وبين الناس.

• وأنت كمؤلف كيف تنظر إلى الآراء النقدية حول عملك؟ هل تبعث فيك نوعاً من الإثارة أو نوعاً من القلق أو ربما تكون محركاً إضافياً للإبداع المتواصل؟

صدقني هي دائماً محرك إضافي للإبداع، مهما تكون هذه الآراء. أنا أذكر أنه بعد صدور النسخة العربية أهديت الدكتور الصيد أبوديب نسخة منها فكتب عنها مقالة سلمها لي وأخبرني بأنه لا يريد أن ينشرها. قال بأنه لم يعرف ماهية هذا العمل، هل هو رواية أم تاريخ أم أنه لا ينتمي إلى أي جنس أدبي. المقال يصف العمل بأنع غير روائي ولا يرقى إلى هذا المستوى، ولم يعجبه العمل. وسلمني المقال للإطلاع الشخصي فقط وليس للنشر، فشكرته وقمت بدوري بتسليم المقال لإحدى الصحف لنشره، لإيماني بأن ما ورد في المقال سيضيف لي الكثير فهناك من لم يتواصل مع العمل وبالتالي فالعيب أراه في العمل نفسه. أنا أؤمن بأن أي نقد هو مفيد جداً لأي عمل أدبي.

• تعتمد الرواية على نظرية تغير الأفراد وتغير الأمكنة سواء كان تغير إيجابي أو سلبي ولكن كما تعرف فإنه في علم الاجتماع  يقولون بأن (التغيير هو الثابت الوحيد Change is the only constant). إلى أي مدى تعاملت الرواية مع هذه النظرية الاجتماعية؟

جميل السؤال. حلو. هذه فكرتي ولعبتي. هنا تكمن أدواتي الفنية. ففي علم الاجتماع مثلاً أن التغيير هو القانون الأساسي، لكن لدينا نحن هنا بكل أسف هذا غير مقبول. عندنا نحن هذه الدائرة الفارغة ننتقل فيها من حالة إلى حالة ونحن في نفس الحالة. زمان كتبت مقالة قلت فيها أننا تعرفنا في علم الاجتماع على أن الصناعة تغير بنية المجتمع، تفتت القبيلة، تحدث تغيير في المجتمع وتحوله إلى مدن و…الخ. ولكن لدينا يحدث العكس، فالصناعة في ليبيا خلال فترة من الفترات كانت ترسيخ للقبيلة. يعينوني مديراً لمصنع فأحضر أبناء أقاربي وعائلتي وقبيلتي فيصبح المصنع بدلاً من أن يكون لتفتيت النزعة القبلية يتحول إلى سند اقتصادي لاستمرار هذه القبيلة. وأعتقد أن هنا تكمن لعبة الأدب والفن فهي أحياناً تسخر للتعامل مع هذا الجانب. ومن هنا كانت “العلكة” كأنها تواجه أهل العلم بأن كل نظرياتهم العلمية لا تطبق لدينا لأنها غير صحيحة بالنسبة لنا. فنحن حين تمر مائة سنة نحس أنها تغير ربما فارغ ولا معنى له ونعتبره مجرد قشور سطحي.

• (فاطمة) و(مختار) شخصيتا الرواية. (فاطمة) تغيرت ولكن (مختار) ظل في الحديقة ولم يتغير لعقود من الزمن. هل (فاطمة) و(مختار) سيواصلان ظهورهما في الأزمنة التالية أم أن دورهما ينتهي في زمن الرواية فقط؟

لا لا.. بالعكس، هما يتواصلان في هذا السكون وهذا التغير، وعلى رأي (أوغست كونت) في هذه الديناميكا الاجتماعية والاستاتيكا الاجتماعية. فالشخصيتان مستمرتان، هذه شخصيات حقيقية موجودة في الواقع، ويمكن الرواية تقدمهم هنا بشكل غرائبي مثلاً، ولكن هذه مجرد أبعاد نفسية وأخرى لهذه الشخصيات. فهذه الشخصيات مستمرة ما استمرت الحياة أكيد في المجتمع الليبي.

• البعض احتار في تصنيف “العلكة” هل هي رواية ساخرة أم تاريخية سردية توثيقية؟ كيف تراها؟

هي كل هذا. هناك شيء مهم فيما أتصور وهو أن العمل الأدبي هو قطعة من الحياة. والحياة هل كل هذا التنوع، هذا الضحك وهذا البكاء وهذا التاريخ وهذه الجغرافيا.

• إذاً ما هي الدلالات الرمزية لكل من “الحديقة” بورودها المتنوعة، و”التمثال” الجامد الناطق و”العلكة” المتوالية؟

هل تصدق بأن التمثال الجامد هو أكثر حيوية من الحديقة في الرواية. وللأمانة فهذا التمثال حقيقي وله حكاية. ذات مرة كنت ماشياً إلى السراي الحمراء برفقة الصديق العزيز رضوان أبوشويشة فقادنا المشي إلى مكان وممر به تمثال مرمي على جانب الطريق، وأنا لازلت مهووساً بهذا التمثال. وهذا التمثال هو عبارة عن امرأة جميلة مستلقية على حائط وكأنها تنتظر حضناً معيناً. وطبعاً هذا التمثال لا قيمة له من الناحية التاريخية والفنية لدرجة أنه مهمل ومرمي وسط الخراب لأنهم لم يعرفوا عصره هل إسلامي أم يوناني أم روماني ولا ينتمي إلى فترة من فترات النحت. لكن بالنسبة لي فقد نشأت علاقة به مثل العلاقة في “سيدتي الجميلة” وتمثال “أنتيجون”. فأنا ارتبطت بهذا وأحسست أن من ينظر إليه يصاب بجنون وهوس أو لعنة بهذا التمثال. واستعرضت بخيالي طبعاً كيف نحت هذا التمثال، وكيف أصيب النحات بلعنته وقتل. وبعد ذلك كيف وجدوه جنود أمريكيون في السرايا أحدهم جن وتخيله إمرأة ويأتي للسكر حتى الثمالة بجانبه، ومن يرى هذا التمثال يصاب بلعنة أو لوثة. عساس أثار ليبي رأى التمثال فأصيب بلعنته فظل خلال الستينيات يسكر ويأتي أمام الكنيسة رفقة بعض الإيطاليين فقتل بنفس اللعنة. وكذلك بطل الرواية (مختار) عندما رأى التمثال أصيب بلعنته وتسمّر وظل في مكانه بالحديقة، وظل كلما يحاول أن يعانق حبيبته (فاطمة) يجد نفسه يعانق التمثال. إذاً هذا التمثال هو المتجمد المتحرك. هذا الجمود الذي قاده إلى تحريك الآخرين، وعلى فعل شيء في الآخرين. أما “الحديقة” فهي تاريخ المكان. وأنا استلهمت من الحديقة التي وراء الفندق الكبير، حديقة البلدية، فأشتغلت عليها تاريخياً من الفترة التركية إلى الفترة الايطالية إلى الستينيات.

• هل بالإمكان القول بأنك أثناء كتابة الرواية قمت بزيارة الحديقة واطلعت على بعض مكوناتها وفضائها وحركتها؟

قمت بذلك مراراً، وكثيراً ما استرحت فيها لأتابع حياتها اليومية وقت القيلولة، وأقرأ بها بعض الكتب وأكتب بعض النصوص.

رواية العلكة

• أستاذ منصور.. صرّحت بأنك أنهيت كتابة روايتك الجديد (الببغاوات). هل نتوقعها مثل “العلكة” أم مختلفة عنها؟

هي تجربة أخرى. أشتغل فيها على فترة تاريخية لم يشتغل عليها أحد في السابق وهي “قرزة” في بني وليد وترهونة ومسلاته ولبدة العظمى في القرن الثالث والرابع الميلادي.. أي خلال تلك الفترة.

• ما هو القاسم المشترك بين هذه المدن؟

طبعاً “قرزة” كانت أحد مناطق الثخوم، كما تسمى، والتي أنشئت في القرون الوسطى لحراسة لبدة وصبراته وأويا من هجمات الجرمنت، فأنشأوا ما يسمى “قوس النار” أو “أحزمة النار” وهي تمتد من غدامس إلى عند بونجيم وهي عبارة عن مجموعة من القلاع العسكرية والمزارع المحصنة كما أطلق عليها. و”قرزة” كانت هي العاصمة لتلك المنطقة وبالتالي فهي مرتبطة بترهونة وبمدينة لبدة تحديداً. وقصة الببغاوات طبعاً توجد أسطورة ليبية تقول بأن هناك شاعر ليبي من “قرزة” في تلك الفترة من القرن الثاني، شعر بالفشل في “قرزة” فألتجأ إلى المدينة وهي لبدة العظيمة في تلك الفترة.

وأثناء تجواله في لبدة وجد طيوراً تتكلم وهي الببغاوات وهذا كان شيئاً مذهلاً بالنسبة له، فخطرت له الفكرة في تلك اللحظة وهو كان يسمى “فيديل” أو “فضيل” بالليبي أو “فيدييليوس” بالروماني. ففكر وقال بأنه بإمكاني أن أجعل الطيور تتكلم باسمي فأخذ مجموعة من الببغاوات ولقّنها وحفّظها اسمه وادعى الألوهية فذهب بها إلى “قرزة” وأطلقها وهي تسبح باسمه.. “فيديليوس الإله”…. “فيديليوس الرب”… فركع كل من في “قرزة” لهذا الرجل وحوله إلهاً وحكم تلك المنطقة كرب أو كإله. وهنا تكمن عملية التقاط الفكرة وتصوير كيفية صناعة الإله عبر ترديد أشياء معينة. وهكذا تكون اللعبة بسيطة جداً ولكن الآن طبعاً يوجد تلفزيون.

• تبدو وكأنها تمثل آلية صناعة الزعيم؟

بالضبط. هذه هي اللعبة، طبعاً بجانب استعراض عادات وتقاليد الحياة في تلك الفترة، فهي مغامرة أخرى أخوضها.

• ماذا عن مشروعك الممتزج بين الرواية والمسرحية “المسراوية” التي ذكرت بأن عنوانها «بعيدًا عن عدن»؟

هذا اللون لم يكتب كثيراً. ربما كتبه “جوته” في “أوفست” وهو عمل طويل جداً لا يمكن أن يكون عملاً مسرحياً، ولكنه رواية في قالب مسرحي. كتب “برناردشو” في “العودة إلى ميثوشالح” وهو مزيج بين الرواية والمسرحية، وآخر عمل قرأته كان عمل ايطالي للكاتب “البيرتو مورافيا” بعنوان “حياة سابقة” وهو يجمع بين الرواية والمسرحية. في “بعيداً عن عدن” استحضرت قصة “هاروث” و”ماروث” واشتغلت على هذه القصة بفكرة أننا نحن كبشر لا يمكننا أن نكون ملائكة، وحتى الملائكة مثل “هاروث” و”ماروث” لو خلق الله فيهم العطش والرغبة في البقاء والجوع والغرائز التي لا توجد لديهم وبالتالي هم مستريحين، ولكن عند خلق هذه الغرائز فيهم سيقعوا فيما وقعنا نحن فيه، وبالتالي عند أول نزول لهم كانوا مزودين بالعطش والجوع، وهم لا يعرفون ذلك في عالمهم الملائكي، فعند نزولهم الأول شربوا الخمر وزنوا وقتلوا، فعلينا ألاّ نلوم الإنسان كثيراَ على أخطائه.

• هل لازلت تؤمن بالمسرح؟

جداً. طبعاً هو أبو الفنون ومدرسة الحياة.

• حتى أمام المنجزات البصرية والسمعية الحديثة؟

ولا معنى لها بالنسبة لوجود المسرح من عدمه، فهي داعم تقني للمسرح. وحتى قديماً عندما ظهرت السينما قالوا بأنها نهاية للمسرح ولكن المسرح يظل هو المسرح. ولكن كما تعرف فإن المسرح ثقافة بريطانية ظهرت بعدها السينما كمنجز أمريكي في هوليوود، والآن في ظل التطور المرئي والسمعي والفكري البعض يقول بأن المسرح لن يصمد طويلاً أمام هذا التطور. بالعكس .. شارع برودواي في أمريكا به حوالي مائتي مسرح وكلها مكتظة بالرواد. بريطانيا يعد المسرح بها أهم الأعمال الابداعية. وحتى السينما الحقيقية لابد أن يمر ممثلوها عبر المسرح لأنه هو المدرسة الأصلية للفنون. وهناك شيء مهم جداً وهو أن المسرح في العالم الآخر سواء آسيا أو أوروبا ارتبط بالطقوس الدينية، أما لدينا فقد ارتبط المسرح بالمقهى .. المسرح العربي انطلق من المقهى أما المسرح الآخر فقد انطلق من الكنيسة، ومن هنا كان تبجيل تلك الحضارة للمسرح لارتباطه بالمقدس بينما لدينا فهو مرتبط بالـ”سيمينسا”.

• هل وجود المسارح في المدن الاغريقية واليونانية والرومانية القديمة يدلل ويؤكد هذا القول؟

صحيح. وبإمكانك أن تتبع تطور هذه المسارح عبر الفترات اليونانية حين كانت توجد مسارح المدينة يرعاها تمثال “أبولو”. الإله “أبولو” هو إله الفنون. وفي الفترة المسيحية كان المسرح يأخذ شكل الكنيسة والغرفة الايطالية هي المسرح كما نعرفه الآن.

• مسرحيتك (عندما تحكم الجرذان) كانت الطريق إلى محنة السجن في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. حدثنا عن تلك المسرحية وتنبؤاتها أو إشاراتها النقدية الحادة؟

أنا لا أحب هذه المسرحية. وهذه المسرحية كتبتها سنة 1972 على ما أظن أو 1973.

• هل هذه أول مسرحية تكتبها في تلك البواكير؟

لا… لا. أنا ارتبطت بالمسرح منذ سنة 1965 وأنا عمري عشرة سنوات تقريباً. كتبتُ أول عمل مسرحي بمدينة مصراته حين انتقلت إليها مبكراً مع عائلتي من بني وليد. مصراته كان بها مناخ ثقافي كبير جداً وبها أساتذة كبار ومهمين جداً. أنا سنة 1965 قدمني الأستاذ إبراهيم الكميلي للمسرح وأنا بالصف الخامس الابتدائي، وفي سنة 1967 كنت أدرس وأتعلم العزف على آلة الكمان وكان يدرسني فيها الأستاذ عبدالله السباعي. كل ذاك المناخ التربوي والتعليمي يجعل براعم الابداع الكامنة فيك تتفتح وتنتج. فأنا بدأت الكتابة مبكراً منذ السنة الأولى الإعدادية تحديداً. ومن الطرائف طبعاً أنني في الصف الخامس الابتدائي كتبت شعراً وأرسلته للسيدة خديجة الجهمي رحمها الله، ولازلت أحتفظ بردها منذ سنة 1965 والذي تقول فيه “الطفل منصور بوشناف أتمنى أن أراك كاتباً”.

• ما هي القراءات التي زرعت فيك بذرة الكتابة والهوس الفني؟ حدثنا عن ذاك الفضاء الأسري والمدرسي والمجتمعي عامة؟

أنا والديّ أميين، ولكن سنة 1965 وأنا أدرس بالصف الخامس الابتدائي كنت مقيماً مع عمي وهو رجل يحب القراءة، وكان يكلفني بأن أقراء له قصة “ألف ليلة وليلة” الشهيرة، وبدأت أذهب إلى السينماء، وبدأت أطالع الجرائد اليومية، هذه كلها فتحت مداركي. وأيضاً كانت هناك أستاذتي الأولى وهي ابنة جيراننا التي كانت تكبرني بسنوات حيث كانت تدرس بالمرحلة الإعدادية في حين كنت تلميذاً بالصف الخامس الابتدائي، وكانت تقدم لي روايات إحسان عبدالقدوس وروايات نجيب محفوظ.

• إذاً هذا التراكم المعرفي والمطالعة كان البذور التي كتبت بها مسرحيتك “عندما تحكم الجرذان” التي للأسف لا نجد لها نصاً ولا تسجيلاً في أرشيفنا الوطني. حدثنا عن شخوصها وفضائها والرسالة التي تبعثها في المتلقي؟

المسرحة كنص موجودة في بنغازي والقاهرة عند بعض الأفراد ولكنها للأسف لم تطبع. “عندما تحكم الجرذان” هي عبارة عن حدوثة معروفة وعادية أضفت إليه تقنية مسرحية، وهي تمثل قصة سيدنا “موسى” و”فرعون” حين أخبر أحد العرافين “فرعون” بأن هناك طفلاً سيولد وسيقضي عليك فلم يجد “فرعون” حلاً سوى قتل كل الأطفال المواليد في تلك الفترة. وظل يمارس هذا القتل حتى مولد طفل في قصره. وهنا لا يتوانى “فرعون” من قتل الوليد حيث يقول له لا أنكر أنك ابني ولكني سأذبحك وأقتلك. لأن لعبة السلطة لا أبوة فيها ولا يحزنون. طبعاً أنا في كتابتي للمسرحة بدلاً من تقديم شخصيات بشرية تحولت إلى مجموعة من الجرذان تضم رئيسهم وكاهنهم ومغنيهم وشاعرهم وعسكرهم.

• لماذا اخترت الجرذان ولم تختر الأرانب مثلاً؟

وذلك لما للجرذان من عداء للورق والكتاب والمعرفة فهي تلتهم وتمزق وتقرض وتدمر كل شيء. أنا حين كتبت هذه المسرحية كان عمري لا يتجاوز سبعة عشرة عاماً.

• هل تم عرض هذه المسرحية على المسرح الجامعي بجامعة بنغازي؟

لا. دعني أصحح هذه المعلومة. في تلك الفترة قامت فرقة المسرح العربي بعرض مسرحيتي “عندما تحكم الجرذان” وقام بإخراجها الفنان عبدالحميد المالطي وكان بطل المسرحية المطرب الليبي الفنان “محمد نجم” الذي غنى أنشودة “ليبيا يا نغماً في خاطري” والممثلة كريمان جبر ومجموعة من الممثلين الآخرين. بعد ذلك وقعت أحداث مظاهرات الطلبة سنة 1976 وأجتيحت مدينة بنغازي بالعسكر والمخابرات حين كانت المسرحية جاهزة للعرض والملصقات معلقة في العديد من الأمكنة، فتم تكسير الاعلانات والملصقات ومنعوا عرض المسرحية. وفي الفترة نفسها كانت تعرض لي مسرحية أخرى بعنوان “تداخل الحكايات عند غياب الراوي” من إخراج الفنان عبدالفتاح الوسيع وكانت حينها تعرض في مدينة بنغازي وهي أهم من مسرحية “عندما تحكم الجرذان”. وللعلم فإن العروض المسرحية بمدينة بنغازي عادةً لا تلاقي إقبالاً كبيراً عكس مدينتي طرابلس ودرنة، ولكن مسرحية “تداخل الحكايات عند غياب الراوي” رغم أنها كانت باللغة العربية الفصحى إلا أن قاعة المسرح ظلت مكتظة بالكامل طوال فترة العرض التي استمرت لمدة أسبوعين متتالين في بنغازي. ومن الطرائف أيضاً أنه أثناء اعتقالي والتحقيق معي وتعذيبي كان هناك في حجرة التعذيب تلفزيون يعرض اعلانات عن مسرحيتي التي اعتقلت بسببها.

• عرّفنا بالأصداء التي تركتها المسرحية على المستويين الشعبي والمسرحي من جانب والحكومة والسلطة من جانب آخر في ذاك الوقت؟

عرفت ككاتب مسرحي في سنة 1975 تقريباً عند ذهابي لمدينة بنغازي والتحاقي بالدراسة الجامعية حيث أسسنا المسرح الجامعي وكان معي زميلي رضا بن موسى وزملاء أخرين. كان أيضاً معنا المرحوم السنوسي حبيب كشاعر هام خضنا معاً تجربة نشر كتاب مشتركة. قدمت في الجامعة مسرحية بعنوان “صراع” ولاقت نجاحاً كبيراً على المسرح الجامعي سنة 1975. وبعدين سنة 1976 كان لي مسرحية “تداخل الحكايات عند غياب الرواي” للمسرح الوطني ومسرحية “عندما تحكم الجرذان” للمسرح العربي التي منعت قبل عرضها بعد اعتقالي ومنعت كل أعمالي الأخرى. كما ذكرت عرضت مسرحية “تداخل الحكايات عند غياب الراوي” في بنغازي ولاقت نجاحاً كبيراً وحين حضرت الفرقة لعرضها في طرابلس تم اقتحام قاعة المسرح الذي كانت ستعرض عليه وهو مسرح الكشاف من قبل أفراد الأمن وتم تكسير كل الديكور الخاص بها وسحب الممثلين .. إلخ.

• إلى أي مدى يؤثر المسرح وتؤثر الكلمة في استفزاز السلطة؟

دائماً هناك علاقة حساسة جداً بين المسرح والسلطة… مع أي سلطة. ولذلك دائماً هناك حذر من المسرح من قبل كل أشكال السلطة. باعتبار أن المسرح غالباً يقدم صوتاً آخر مختلف مع صوت السلطة.

• هل تعتقد أن عرض مسرحية ما سواء في طرابلس أو بنغازي أو غيرها من المدن سيكون لها تأثير؟ بمعنى هل لازال دور المسرح فاعلاً في هذا الزمن؟

أنت ذكرتني بمقالة كتبها الأستاذ محمد الأصفر يتسأل فيها بالقول ماذا سيحدث في الكاتب منصور بوشناف لو عرضت مسرحيته “عندما تحكم الجرذان” في الوقت الراهن. للعلم فإن علاقة النشر أو العرض بالرقيب والسلطة لا تنتهي وهناك طرفة أخرى وهي أن رواية “العلكة” التي منعت سنة 2008 قدمها ناشر سنة 2012 ومنعت أيضاً. ومن خلال تجربتي أؤكد لك بأن منع العمل من التداول العادي يسهم بشكل كبير في زيادة انتشاره.

• يقولون بأن مكابدات الحياة تضيف للمبدع… كالعود يزيده الاحتراق طيباً وشذى… بالنسبة لك ماذا أضافت لك محنة السجن؟

لا شك ومن المعروف أن السجن مؤلم وقاسي وسيء وغيرها، ولكن في جانب آخر بالنسبة لي السجن علّمني الكثير لعل أبرزه هو قبول الآخر. فحين توضع في زنزانة أو حجرة بها شخص لا تعرفه ويمكن أن يكون عكسك تماماً. وهذا يذكرني بغرفة “جان بول سارتر” التي قال فيها “الجحيم هو الآخرون” حين تخيل الجحيم بأنه ناس مسجونون في غرفة.. رجلان وإمرأتان.. إن كان هذا يحب اللون الأزرق .. فذاك يكرهه.. وإن كانت هذه تحب الخبز… فتلك تكره الخبز.. لا يوجد أي تطابق بينهم في أي شيء… وطالما أن الحياة هي صراع رهيب.. تصبح المشكلة لديهم حين يدركون أن هذا هو الجحيم.. لا أمل في الخروج منه… هذه هي الأبدية. فالدرس الأول في السجن هو قبول الأخر وخلق آلية للتعايش معه بالبحث عن إيجابيته. رغم أن هذا قد يكون مخالفاً ونقيضاً لوجهة نظرك لكنه في تلك الفترة يعتبر ذاك الآخر هو أقرب إليك من الجميع… أقرب من أبيك وأخيك وأصدقائك.

• هل يختلف سجن عن آخر؟ فالأستاذ عبدالفتاح البشتي في كتابه “المحنة.. الملحمة.. 15 سنة في سجون القذافي” قدم صورة للسجن الوردي حيث كان المرحوم عبدالعزيز الغرابلي يربي العصافير ويصدر نشرات وصحف داخل السجن؟

دعنا نتعامل مع السجون بشكل هندسي. أنا أمضيت ثلاثة عشرة سنة في السجن. منها سنة تجولت خلالها في العديد من السجون مثل الجديدة والحصان الأسود وسجن الحرس الجمهوري وسجن كتيبة الفضيل وغيرها. ثم ثلاث ليسانسات كما أسميهم. أمضيتُ بسجن الكويفية أربعة سنوات، والحصان الأسود أربعة سنوات، ثم في بوسليم أربعة سنوات، ولذلك سأتحدث هندسياً. فأنا بقيت في الكويفية مثلاً.. وهو سجن مبني بشكل جيد، به تهوية طبيعية وصحي تمام، وسجن الحصان الأسود الذي صممه مهندس ايطالي جعل حوائطه بعرض لا تحتاج معه إلى تكييف وسقوف مرتفعة طبعاً، والسجن الأسواء كان سجن بوسليم بصراحة سيء جداً مبني بخرسانة مسلحة وبه عدائية لا يتصورها إنسان حيث أن الحوائط الداخلية في كل زنزانة مطرطشة باللياسة وغير ملساء أو مستوية، فالحائط داخل الحجرة يلذع السجين المتكيء عليه بالنتؤاءات البارزة فيه وهي كألسنة السكاكين، ولذلك فهو الأسواء معمارياً، ولكن في كل الأحوال السجن بعد فترة يتحول إلى روتين حياة .. تكيف مع الواقع المرير… أنا كنت أقرأ حوالي ستة ساعات يومياً.. من الثانية عشرة ليلاً وحتى السادسة فجراً.

• جميل أن يسمح لكم بالقراءة !!

أكيد يسمح ماعدا فترة سجن بوسليم والتي كانت الأسواء فلم يكن مسموحاً. كنا نقرأ بشكل كامل وأنا دائماً أذكرها كمثال حين كنتُ في سجن الكويفية لما صدرت رواية “الجذور” للكاتب الامريكي “أليكس هلي” قرأتها داخل السجن بعد خمسة عشرة يوماً من صدورها في الولايات المتحدة الأمريكية.

• ماذا تركت لك محنة السجن؟

تركت لي المعرفة. وهي الكنز الأثمن. أنا قرأت بشكل جيد وعرفت الناس بشكل كويس. أكيد تركت لي الكثير من العقد النفسية والمشاكل. أكيد تركت شرخاً في داخلي. وفي المقابل أفادتني إلى حد كبير، وأنا أعتقد هنا تكمن قدرة الإنسان على كيفية الاستفادة من محنته وألا يحولها إلى كارثة ودمار بل يجعل منها جانباً إيجابياً. فالمتصوف مثلاً يجد ويجهد حاله من أجل الوصول إلى المعرفة الحقيقية، فلنعتبر السجن جزء من هذه الرحلة المعرفية.

• يقولون إن الرواية هي ابنة القصة. وكان المشهد الأدبي في ليبيا خلال عقدي الستينيات والسبعينيات يحتفي بالعناوين الجديدة لنماذج القصة القصيرة. كان التوقع هو ازدهار للقصة القصيرة وليس الرواية. كيف حدث هذا الانقلاب؟

هذا ليس في ليبيا فقط بل في أغلب الوطن العربي والعالم أخذت القصة القصيرة في السبعينيات خاصة مكانة كبيرة جداً. وأنا أعتبر القصة القصيرة الليبية أفضلها ومن أهم منتجات العرب في القصة، وسيظل ملوك القصة العربية بعد يوسف إدريس طبعاً سيظل أحمد ابراهيم الفقيه ويوسف الشريف وكامل المقهور. هؤلاء ملوك القصة القصيرة في الوطن العربي، مشكلتهم أنهم ليبيين للأسف… فالقصة الليبية متجذرة بشكل مذهل. فعند قراءة ما كتبه الراحل كامل المقهور في الخمسينيات والستينيات يعتبر شيئاً مذهلاً  ومتقدماً جداً. أيضاً فالقصة القصيرة الليبية لم تتراجع لازالت منجزات الأستاذ عمر أبوالقاسم الككلي وعزة المقهور وأحمد يوسف عقيلة وقبلهم طبعاً جمعة الفاخري وآخرين لهم منجزات هامة في القصة القصيرة الليبية. أعتقد أن موجة الرواية هي عالمية وليس في ليبيا فقط بل ليبيا جغرافياً متأثرة بما يجري في العالم وفي الوطن العربي.

• وهل صنعت الرواية رموز ذات قيمة إبداعية معينة؟

طبعاً، فالانتاج الروائي الليبي حقق منجزات عالمية ونال جوائز عديدة. روايات إبراهيم الكوني ترجمت إلى حوالي خمسة وثلاثين أو ستة وثلاثين لغة وهذا شيء مذهل. روايات أحمد إبراهيم الفقيه ترجمت إلى عدد من اللغات. هناك إنجاز في الرواية الليبية على صعيد الانتشار العالمي

• الأديب الراحل خليفة حسين مصطفى مهد طريق الرواية الليبية كان ناسكاً في محرابها الوطني بينما إبراهيم الكوني قطف ثمارها وهو يستمتع بحبات الثلج السويسرية. هل قدر الرواية الليبية أن تعلن ولادتها خارج ليبيا أم أن المكان الجغرافي لا علاقة له بالابداع الروائي؟

دعني أقول بأن تجربة المرحوم خليفة حسين مصطفى الروائية هي التجربة الليبية شبه المتكاملة كتجربة. هذا الرجل كان ينهض من النوم فيشرب قهوته ويبدأ الكتابة يومياً وهذا سلوك الروائي الحقيقي. كلنا كليبيين نكتب بمزاجية وننتظر مجيء الإلهام وغيرها، أما هذا الرجل فتعامل مع الرواية كعمل حقيقي لابد من ممارسته بشكل يومي.

• تمنيت لو أن روايته الرائعة “ليالي نجمة” أن تعد كعمل مرئي سينمائي أو تلفزيوني.

نعم. وهي عمل لا يقل عن الأعمال العالمية الكبيرة، وقد لاقت نجاحاً شعبياً بشكل لا يصدق. ولم تقرأ أي رواية ليبية بقدر ما قورئت رواية “ليالي نجمة”. أما بالعودة إلى سؤالك حول مدى ارتباط العمل الروائي الابداعي بالمكان والجغرافية فأقول بأن الرواية هي بنت الجغرافية لدرجة يقال بأن المجتمعات غير المستقرة لا تنتج روايات. الرواية من إنتاج مجتمع مستقر سواء ريفي أو مديني، ومن الصعب على المجتمع البدوي أن ينتج رواية، وهنا تكمن قدرة وتركيبة الروائي إبراهيم الكوني العجيبة الغريبة لأنه يقدم شخصيات رحل وأجواء غير ثابتة ومستقرة صنع منها رواية ولهذا انتشر عالمياً، هذه هي البصمة المختلفة التي لم يقدمها أحد في العالم لكن الكوني قدم شيئاً مختلفاً وهو رواية من مجتمع بدوي.

• أعود لطرح السؤال بطريقة أخرى حول المكان وعلاقته بالكتابة الابداعية … فهذا الروائي الكوني يعيش خارج ليبيا ويقيم في سويسرا منذ سنوات هل بإمكانه الكتابة عن الصحراء الليبية؟

هنا لابد من أشير إلى طرفة وهي أنه زمان الأستاذ محمود البوسيفي وهو أفضل من يكتب مقال صحفي في ليبيا كتب يقول: هناك كتّاب في الداخل وعينهم على الخارج بينما هناك كتّاب في الخارج وعينهم على ليبيا ويكتبون على ليبيا ومن بينهم إبراهيم الكوني. فأنا رددت عليه قائلاً امنحونا كرسياً بالخارج حتى نتمكن من رؤية ليبيا بشكل جيد. فعلى أية حال، ليس شرطاً أنه أثناء الكتابة أكون متواجداً في المكان الذي أكتب عنه. المكان هو عبارة عن حصيلة من التجارب التي لها علاقة بالمكان سواء كانت قديمة أو حديثة. فالمكان الذي يكون حاضراً في الذهن هو أساس الكتابة وليس شرطاً أن تتواجد فيه فعلياً. لكن الشرط هو أنك لابد أن تكون قد عشت هذا المكان طبعاً.

• (مؤميات ليبيا أكثر قدماً من المصرية)… هذا أحد عناوين مقالاتك والتي يبرز عشقاً للحقيقة وللوطن … ويبرز هوسك بولوج الكهوف والصحراء والبحث في الآثار والمعتقدات التاريخية القديمة. ما قصة المؤميات الليبية.. والتحنيط.. وما الرسالة التي تود إيصالها بهذا العنوان؟

طبعاً هذا المقال نشر في صحيفة الحياة اللندنية تقريباً، حين كنت ملتزم بالكتابة فيها. وحين نشر بها وتناقلته العديد من الوسائل الإعلامية كأنه شكل صدمة معرفية للكثيرين. في التسعينيات كان الليبيون يحسون بأن ليبيا هي عبارة عن صندوق رمل وفراغ حضاري كبير. أنا في داخلي أشياء ساهمت في تكويني منذ الصغر، فعندما كنت في السنة الأولى الاعدادية قرأت كتاباً لمؤلف ليبي اسمه مصطفى بازامة من مدينة بنغازي، ليبيا هذا الاسم في جذور التاريخ يحكي عن الحضارة الليبية القديمة في جرمة، فظل هذا الموضوع في ذهني منذ تلك السنوات، وفي سنة ثالثة اعدادي زرت بنغازي ووجدت صحيفة اسمها “العمل” لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ مصطفى بازامة وهو أول من نشر لي نصاً في صحيفته. أنا منذ تلك الفترة تعبأت فكرياً من ذلك الكتاب بشيء اسمه ليبيا، وصدق أو لا تصدق، وهذا ليس إدعاء، في التسعينيات أنا تجولت في الصحراء الليبية قرابة عشرة ألاف كيلو متر وبالتالي فغالبية وديان وبقع وواحات وأينما وجدت أثار وجبال الصحراء زرتها في أكاكوس وأوجلة وغدامس إلى أي مكان يخطر على بالك أنا زرته وبحث فيه، حتى الجبل الأخضر. فماذا اكتشفت؟ اكتشفتُ أن ليبيا هي مجموعة من الحضارات الموهولة وكيان حضاري ضخم جداً، وفي المؤميات أنا بقيت مع البروفيسور موري مكتشف المؤميات حوالي شهراً في أكاكوس وقد أثبت التحليل التي أجريت عليها في مختبرات روما بالعاصمة الايطالية بأن هذه المؤميات هي الأقدم في العالم وعمرها 5500 سنة.

• هل مقالك يتوافق مع كتاب “آلهة مصر العربية” للدكتور علي فهمي خشيم؟

الدكتور علي فهمي خشيم رحمه الله يشتغل بشكل آخر، فهو يعمل على تأويل الوقائع التاريخية، أما أنا فأعمل على تقديم التاريخ. طبعاً عمل الدكتور خشيم يعتبر مهم، فهو كان يحاول إيجاد علاقة بين العروبة والليبية والمصرية فابتدع نظرية العروبية وهي تشمل كل هذه الجوانب. لكن أنا أذكر وقائع تاريخية تثبت أن المؤميا الليبية والتحنيط في ليبيا أقدم منه في مصر. كما أنني تتبعت واقعياً الأهرامات الليبية فوجدتها أقدم من أهرامات الجيزة في مصر. فحين ذهبت إلى “جرمة” و”سرت” وجدت أن بداية الهرم كانت بدفن الموتى وهم جالسين فتأخذ الجثة وهي جالسة شكل الهرم بعد ذلك كبر تدريجياً ووصل لعند أهرامات “الحطيئة” التي لازالت حتى الآن بعدد عشرين هرماً بارتفاع أربعة أمتار تقريباً، لكنه هرم بنفس الفكرة حيث يدفن تحته الميت ويعتبر ذلك تخليداً للميت وملوك جرمة. هذه مراحل تتابع وتتطور حتى مرحلة الرحيل إلى مصر. فقد كانت صحراء شمال أفريقيا غابات وأشجار ووديان وغيرها وبها حضارة مزدهرة ولكن بعد الجفاف رحل الجميع إلى نهر النيل بمصر ونقلوا معهم كل معارفهم وثقافتهم ومعتقداتهم وطقوسهم وأدواتهم وعاداتهم وأغراضهم حيث استقروا هناك وأسسوا حضارة أخرى كما حصل مع الحضارة الأوروبية إلى أمريكا، فالأوروبيون نقلوا معهم كل معارفهم.

• ما هي الرسالة التي تود إيصالها من خلال هذا المقال؟ ولمن؟

هذه مجموعة من المقالات وأنا مهتم جداً بالتاريخ الليبي القديم .. تاريخ ما قبل التاريخ. رسالتي هي التأكيد على أن ليبيا ليست كيان فارغ حضارياً. بل ليبيا كيان حضاري مهوول. أنظر إلى الطبيعة .. في ليبيا أقدم مؤميا .. أقدم عجلة .. وهي عجلة الجرمنت. أول اختراع للأصباغ… أكبر متحف. هل تصدق أن أكاكوس وتاسيلي هي مائتي كيلو متر من اللوحات المرسومة التي عمرها عشرة ألاف سنة وثمانية آلاف سنة وأربعة آلاف سنة … يعني شيء مذهل هذه الاهرامات وحضارة التخوم في غدامس ومزدة وورفلة وترهونة ومسلاتة وكذلك الجيل الأخضر المأهول بالحضارة والكنوز التاريخية. أنا لم أتعرض للحضارات اليومانية والرومانية والاغريقية بل هذا فقط عن الحضارة الليبية القديمة وتعاقباتها والتي تبدأ من أبيار مجي في ترهونة والاتجاه جنوباً فتجد أن العمل الليبي لازال كما هو تماماً دون أن يتناوله أحد.

• كأنك تدعو إلى ضرورة تواصل الأجيال المعرفي … ولكن هل يعرف هذا الجيل أن صحيفة “طرابلس الغرب” هي أقدم من صحيفة “الأهرام” القاهرية بعشرة سنوات؟

طبعاً.. وتلك هي المسألة.. لأنه حدث انفصال عن هذه الجغرافيا.. بل نتربى على عداء هذه الجغرافيا.. الكل يقول هذه لا يوجد بها شيء.. هذه فراغ… وكان حلم كل واحد هو تركها والهجرة والرحيل عنها.

• لماذا الشعور بالدونية .. نجلس دائماً روادنا وتاريخنا في الصفوف الخلفية؟

هذا للأسف لأننا لا نعرف أنفسنا ولا تاريخنا ..فالذي لا يعرف إرثه فبالتالي لا يعرف نفسه. في حين ينبهر لما يرى الآخر بإرثه وحضارته وهو لا يملك شيئاً.

• من كان له الفضل في مشوارك الابداعي عامة؟

كثيرون طبعاً. أولهم الأستاذ إبراهيم الكميلي من مصراته، ثم عبدالبديع العربي الممثل المصري المعروف. وهناك طرفة هنا ففي بداية السبعينيات كنت أرغب في الكتابة في صحيفة “الفجر الجديد” في تلك الفترة فأول صحفي نشر لي كان الأستاذ إدريس بن الطيب. صدقني كثيرون أثروا في ومن بينهم أناس لم أقابلهم ولكنهم أثروا في تكويني.

• لماذا لا نجد لك في أرفف المكتبات أي كتاب مطبوع.. لا نصوص مسرحياتك ولا كتب تجمع مقالاتك. من المسئول يا ترى.. أنت أم مؤسسات النشر؟ فأعمالك الابداعية لم تعد ملكاً لشخصك بل هي صارت جزء من الإرث الثقافي للمشهد الأدبي الوطني.

هذا كلام صحيح… أنا لم يصدر لي إلا ثلاثة كتب وهي “العلكة” أو “سراب الليل” و”الإرث” وهي مسرحية كتبتها سنة 1989 بعد خروجي من السجن مباشرة. وصدر لي كتاب باللغة الانجليزية حول المواقع الأثرية في ليبيا، شبه سياحي. والحقيقة لا أنكر أن هناك تقصيراً مني ولكن غياب المؤسسة الثقافية الوطنية يظل هو السبب الأهم. زمان كانت المؤسسة العامة للثقافة تنشر، ومجلس الابداع ينشر، ولكني كنت ضد تسليمهما أي مخطوط لنشره، لأني اعتبره كما ذكرت في مقابلة مع محطة البي بي سي قتل للكتب ووئد للمعرفة. يطبعون الكتاب ويخزنونه ولا يوزعونه.. أيضاً أنا ضد النشر لوضع الكتب والاصدارات على الأرفف دون توزيعه أو قراءته لذلك كله فإن لم تكن عملية النشر والتوزيع مدروسة بشكل جيد فلا جدوى منها إطلاقاً.

• مسيرة عطاءك الابداعي بين أول عمل لك وحتى الآن طويلة ولكنها ليست باذخة بالتأكيد..  بل معبدة بالكثير من المواقف والعذابات والمسرات عبر محطاتها المتعددة.. فما أبرز المحطات في هذه المسيرة؟

المحطات هي انتقالي لمصراته وأنا في عمر صغير فكانت نقلة ثقافية هامة جداً. ثم السجن. واللغات الأجنبية فأنا أقرأ بغير العربية بثلاثة لغات وهي الانجليزية والفرنسية والايطالية وهذه فتحت لي آفاق ربما لم تتسنى لغيري. هذه أبرز البوابات حسب ظني.

• كثيراً ما تجيب عن سؤال الهدف من كل هذا العمل الابداعي بأنك تريد أن تفهم.. فهل فهمت الإنسان الذي هو ذاتك.. هل فهمت القاريء الذي تكتب له…؟

لا … نسبياً نعم .. ولكني لا أدعي الفهم بشكل كامل.. أنا لا أزال أتعلم وأحاول الفهم.

_________________________________

(*) أجري هذا اللقاء الإذاعي المسموع لإذاعة صوت طرابلس بتاريخ 15 ديسمبر 2015، وتم نشر جزء منه صحفياً، وهنا يقدم اللقاء بالكامل.

مقالات ذات علاقة

المسرحي علي الجهاني ‏جئت إلى المسرح ماشيا على قدميّ‏

المشرف العام

مقبولة ارقيق.. الكتابة رهان وأعيد ما يتساقط مني بكل هدوء….!

حنان كابو

الكاتبة رزان نعيم مغربي.. دمشقية النشأة وطرابلسية الأب

المشرف العام

اترك تعليق