قصة

الرصيف.. والمطر

بدأت مياه البحر كأنها بركة من الدماء عندما أخذت شمس الغروب تلامس سطح الماء، بينما العمال ينسحبون من رصيف الميناء متجهين إلى حيث يستلمون أجرة يومهم.. ألقى على كتفه بالشوال الفارغ الذي يستعمله غطاء لرأسه يتقي به تراب أكياس الإسمنت عند إنزالها من على ظهر السفينة إلى الرصيف.. أكياس الإسمنت التي ازدحم الرصيف بها هذه الأيام.. كم حمل منها فوق ظهره.. ثم يرى الرصيف يمتلئ بها.. في الغد يذهب كل شيء ليأتي غيره.. إن كل ما يعرفه عن هذا الازدحام “الإسمنتي” يجد تفسيرا له هو هذه المباني المتعددة الموضوعة بعضها فوق بعض بشكل يبعث الرهبة في نفسه كلما وجد نفسه يسير بجانب أحدها.

اقترب من طابور العمال المعوج وقد بانت ملابسه ذات لون واحد مع بشرة وجهه.. لون رمادي باهت أضفى على ملامحه المكدودة كآبة حزينة..

خرج المستخدم يناديهم بأرقامهم ليعطيهم أجرتهم اليومية..

نودي على رقمه مرتين، عندها تحرك إلى الأمام ببطء وإجهاد وهو ينظر إلى المستخدم ذي الشارب الأسود الكث.. كان دائما يحس بالرهبة تداخل نفسه كلما وقف أمام هذا الرجل.. استلم أجرته وخرج مبتعدا عن طابور العمال، وهو يتحسس النقود كالعادة.. برقت عيناه لحظة.. ثم خبأ بريقهما بسرعة..

سار في الشارع الطويل العريض ذي الأنوار الباهرة والسيارات الفخمة التي أخذت تمرق بجانبه كأنها تهرب من شبح يطاردها.. كان بين لحظة وأخرى يرفع نظره إلى العمارات كأنها أشباح تراقب سيره المكدود شامتة ساخرة.. إنه ليتذكر كل عمارة حيث بدئ في تشييدها.. بل إنه ليتذكر كل شحنة اسمنت حملها على ظهره، وهي تتحول بقدرة قادر إلى هذه الأشباح التي تبعث في نفسه الضيق والتبرم كأنها تمنع عنه الهواء النقي.. إنه يشعر بضآلته وهو يسير بجانبها فيزداد ضيقه وتبرمه..

وصل إلى نهاية الشارع، بعد أن مرق من بين هذه العمارات التي خيل إليه، في كل مرة أنها ستسقط عليه.. واصل سيره شرقا، منحدرا بين الحوانيت وقد جلس أصحابها كأنهم ينتظرون أمثاله ليسلبوهم أجرتهم مقابل ما يعطونه لهم من أشياء معلبة.. يا للسخرية لقد كان هو أول من يستلمها وينزلها من على السفينة.. ليستلمها مرة أخرى.. لكن مقابل عمل يوم بطوله.

أحس أن الإرهاق قد بلغ منه مبلغا لا يستطيع معه أن يواصل سيره إلى مسكنه.. لكنه تحامل وأخذ يجر نفسه في طريق مظلم، تناثرت على جانبيه بعض الحوانيت المضاءة بمصابيح ” القاز ” الباهتة.. أخيرا تنسم رائحة عفنة هبت ناحية وجهه عندما أخذ يمر بجانب بعض المستنقعات والبرك المتلألئة تحت ضوء القمر الوليد.. لكنه لم يشمئز ولم يتقزز، لقد اعتاد مثل هذه الرائحة.. ما عادت تبعث في نفسه أكثر مما يبعثه العطر لدى زوجات الأثرياء.

وجد أطفاله كالعادة، كل مساء ينتظرونه مع أمهم، وهم يقاومون كابوس النوم الذي أخذ يجثم عليهم.. يقاومون هذا الكابوس بصلابة حتى يصل أبوهم ومعه بعض تلك المعلبات التي تعودوا تناولها في الأيام الأخيرة.

في هذه الليلة أحست الزوجة، عندما أعطاها الشوال، بأن هذه المعلبات لم تكن كالعادة كافية للأسرة.. عندما ترجمت هذا الإحساس، إلى زوجها، في شكل تساؤل افهمها بأن أصحاب الحوانيت لم يعد باستطاعتهم بيع المأكولات بالسعر المعتاد، لأن الأسعار – كما يقولون – تزداد يوما بعد يوم، وإن كانوا يلقون باللوم على التجار اليهود.

هدأت الحركة داخل كوخ “الزنك” المنتصب على تل الرمال، بعد أن نام الأطفال الثلاثة.. وتوسد “خليفة” الشوال الذي التهم الأطفال ما كان يحويه.. اقتربت منه زوجته وهي تهمس له، بأن سكان الحي يتحدثون عن إشاعة تقول بأن هناك من اشترى ارض الحي، وأن عليهم أن ينتقلوا منها لأن صاحبها يريد أن يقيم عليها مساكن.. عند ذلك تذكر في مرارة.. من الممكن أن تكون شحنة الإسمنت التي أفرغها اليوم لصاحب هذه الأرض.. ضحك بسخرية، وهو ينظر إلى زوجته التي رفعت يديها تتمتم بدعاء خافت لم يسمع منه إلا: “أعطنا مما أعطيتهم” فرد عليها وهو ينقلب على جنبه لينام: “إنه لم يعط أحدا”، لكن هم الذين يسرقون منا “انتبهت الزوجة إلى أن زوجها قد قال شيئا، فقالت “خليفة.. ماذا قلت” فرد عليها بتكاسل: “لم أقل شيئا.. لكن طلبت منك أن تنامي”.. ثم انقلب على ظهره محدقا إلى سقف الكوخ وقد تسربت من ثقوبه أشعة خفيفة من ضوء القمر سقطت على عينيه فضايقه هذا ورفع رأسه فرأى أطفاله قد تكوموا على بعضهم كبضاعة مهملة في ركن من أركان الرصيف، انتصب واقفا، ومشى على أطراف أصابعه ثم نزع سترته البالية ووضعها برفق على الأطفال، عاد إلى مكانه وتمدد يريد أن ينام.. لكن الصور التي بدأت تتوالى وتتتابع أمام مخيلته جعلته يقظا.. الصور التي تمثل ثلاث سنوات قضاها في المدينة، بعد أن جاء إليها من الجبل.. إنه ليتذكر أول يوم غادر فيه الجبل لينزح إلى المدينة بعد أن تناهى إلى سمعه أن العمل فيها مربح ومريح.. غادر أرضه في الجبل، مع من غادر، وجاء إلى المدينة، ارتاع لهذا العدد الهائل من السيارات المسرعة وهي تحمل كتلا آدمية أشبه بأكياس الشعير المجلوبة من الجبل.. شعر أنه غريب عن سكان المدينة وعن مبانيها المختلفة.. سكان المدينة لا يعرفون بعضهم، الكل مطأطيء الرؤوس كأنهم يبحثون عن شيء في الطريق التي يسيرون عليها.. أشتاق أن يرى اثنين يكلمان بعضهما.. أو يتبادلان التحية والسلام.. ومباني المدينة طويلة موحشة ككابوس مرعب.. حرك رأسه شعر بالارتياح بداخل نفسه.. كأنه صورة لذلك الارتياح الذي أحسن به عندما وجد، لحسن حظه، هذا الكوخ فاتخذه مسكنا له ولعائلته، لكم سمع في الأيام التالية كلمات التهنئة الممزوجة برنة الحسد توجه له لحصوله على هذا الكوخ.

بعد أيام قضاها ضائعا في المدينة، استطاع بعد السؤال، أن يصل إلى مكتب احتشد أمامه أناس كثيرون، لا يختلفون كثيرا عنه من حيث المظهر، وهناك سجل اسمه وأعطيت له ” بطاقة ” قيل له إن هذا هو اسمها.. كل عامل لا بد له من أن يحصل على واحدة مثلها لكي يستطيع الحصول على عمل.. لم يحاول أن يجهد نفسه بمحاولة البحث عن تفسير لذلك، إذ كان شغله الشاغل أن يحصل على عمل كالذي سمع الناس يتحدثون عنه، والذي قيل إن مرتب الشهر فيه يبلغ، على أقل تقدير ثلاثين جنيها.. ثلاثون جنيها ؟.. يالله.. إن هذا لشيء عظيم حقا.. سوف يشتري ملابس لأولاده وزوجته، وربما استطاع أن يشتري لزوجته أيضا شيئا من الذهب أو سوارا من الفضة.. إنه سيقبض ثلاثين جنيها..

.. لم ينس ذلك اليوم الذي وصل فيه إلى معسكر العمل في الصحراء.. حيث صفعته صورة جمهرة من العمال يهتفون: نريد العودة.. لا نطيق العمل هنا بعد اليوم، لقد أزعجته هذه الهتافات، لكنه لم يعرف عنها شيئا.. في المساء تفرق العمال إلى مجموعات تضم كل منها خمسة.

انتبه إلى زوجته تهزه: خليفة.. لماذا لم تنم ؟.. فأطلق زفرة من صدره ثم أجابها بلهجة حاسمة.. لكن بمرارة وأسى: ” نفيسة.. لقد قررت الرجوع إلى أرضي.. لم أعد أحتمل البقاء هنا.. لكن.. نفيسه لم تسمعه لأنها قد استسلمت لنومها.. إيه.. إنه ليتذكر تلك الأيام، بل العام، الذي قضاه في الصحراء.. كانت تلك الفترة في بدايتها حياة جديدة بالنسبة له.. إن فرح أطفاله كان عظيما عندما جاء إليهم يقضي أول إجازة له وأحضر معه المأكولات المعلبة التي تصرفها له الشركة.. صار الأطفال ينتظرونه في نهاية كل شهر، لم ينس ملاحظتهم في آخر مرة، عندما قطعت الشركة عنه تلك المعلبات فاضطر إلى شرائها من السوق ليرضي أطفاله.. لقد عرف الأطفال أن هذه المعلبات الجديدة لم تكن كالأولى..

اهتز ضوء القمر الباهت من خلال ثقوب الكوخ، أثر زوبعة ريح.. فأعاد إليه ذكرى ذلك الشتاء الذي قضاه في الصحراء.. آه.. لشدة ما تعب في ذلك الشتاء: عمل مجهد في الصباح تحت سيول المطر وفي الليل يظلون مستيقظين حتى لا تفاجئهم السيول من تحت الخيمة.. يا لتلك العاصفة التي اقتلعت الخيام في إحدى الليالي.. بدأ المعسكر يموج بالعمال وهم يحاولون اللحاق بحوائجهم التي حملتها الرياح العاتية.. إنه ليحس يدا قاسية تعصر قلبه عندما يتذكر صياح أحد العمال وهو يستنجد: ” أنقذوني.. رجلي.. النجدة.. ” لكنه لا يدري ما حدث له.. في الصباح بعد هدوء العاصفة بدأ العمل مع غيره من العمال، لكن أكثرهم لم يستطع الصمود إجهادا وتعبا، فكانوا ينتهزون الفرص ويهربون من مراقبة المسئول القائم عليهم، لكم صاح اليوناني ذلك اليوم يحثهم على العمل وينذرهم بالفصل والطرد.

قطع عليه سلسلة ذكرياته، التي كان مستغرقا في استرجاعها، عواء كلب، وما أكثر الكلاب في هذا الحي.. إن هذا العواء قد ذكره بصيحة الألم: أو هكذا خيل إليه: التي انطلقت من أحد العمال الذين كانوا يقومون على آلة الحفر ذات السارية العالية.. يا للفظاعة.. لقد وجد خلفه العامل ممدا على الأرض وقد انغرس قضيب من الفولاذ في ظهره، إنه يذكر أن صورة ذلك المكان قد اهتزت أمام ناظريه، كاد أن يقع مغشيا عليه.. اندفع نحو العامل الملقى على الأرض التي بدت كبركة من ماء أسود، قد انبعثت في أرجائها رائحة الزفت المندفع من الأنبوبة الموصلة بجوف الأرض، عندما كان يحمل العامل المصاب إلى خيمته، كان السائل الأسود يندفع معربدا حاملا معه رائحة كريهة ما تزال عالقة بأنفه.. بحث عن الطبيب لعلاج العامل، لكن بدون جدوى.. إذ أن جميع من في المعسكر قد ذهب ليشاهد اندفاع السائل الأسود ذي الرائحة الكريهة.

وضع العامل المصاب في سريره وهو يئن ويهذي: ” لقد أخرجته أنا.. البترول.. دعوني أقابل المدير لأخذ المكافأة.. دعوني أذهب.. ” ثم أخذ يئن بإجهاد، فواساه بكلمات لا يدري ما هي ثم خرج عله يجد الطبيب..

عندما وصل إلى الجموع المحتشدة حول البئر المتدفقة، رأى المدير عاقدا يديه على صدره وقد احمر وجهه أكثر من ذي قبل.. ثم تكلم مع المترجم الذي نقل لهم كلام المدير بركاكة ذات لكنه أجنبية.. ” لقد انتهت أعمالكم بتفجر البترول.. يمكنكم أخذ مستحقاتكم والعودة إلى أهلكم.. انتهى العمل.. ؟ ” سرت همهمة بين الجموع وبدئوا يتفرقون، لكن المترجم أضاف بلسان المدر:.. أحب أن أشكر العامل الذي تمكن من استخراج البترول.. ” ابتسم وهو يتذكر العامل المصاب المقعد داخل الخيمة وهو بين حياة موت.. في الخيمة بدأ يجمع حوائجه استعداد للرحيل.

 انتبه على صوت حمار جاره الحمال، ورأى خيوط ضوء الصباح تتسلل من خلال شقوق الكوخ.. فانتصب واقفا وهو يشعر أن قوة جديدة قد تولدت بداخله، رغم أنه لم ينم بتاتا.. أيقظ زوجته ليقول لها بإصرار وعزم: نفيسه.. لمي حوائجنا.. لقد تعبت من هذه المدنية المليئة بغبار الإسمنت، والمزخمة برائحة الزيت الأسود.. سنعود إلى الأرض..

خرج من كوخه متجها إلى حيث نزل أول مرة.. إلى محطة السيارات.. كان أثناء الطريق يكلم نفسه بصوت خفيض: ” يجب أن أبحث عن وسيلة للخروج من هنا قبل أن أطرد كم طردت أول مرة من الصحراء.. لا أستطيع أن أحتمل ذلك مرة أخرى..

رجع عند الظهر ليجد أن جميع الأشياء قد حزمت وجهزت، أعطى الصغار قرطاسا من الفاكهة ليلهوا به ثم أخذ يساعد زوجته في تجميع الأشياء مع بعضها.

.. غادرت الأسرة الكوخ وقد بدأ الأطفال يتساءلون بإلحاح: ” أبي ” هل نترك منزلنا ؟.. فربت على كتف أحدهم قائلا:.. إنه لم يعد ملكنا.. وجدت لكم منزلا أجمل منه.

ابتعدت السيارة عن المدينة وهي تنهب الأرض كأنها مثله تهرب من هذه المدينة التي ظهرت على البعد بمساكنها وقد غسلتها أشعة الشمس، فبدت جميلة رشيقة.

أخذت السيارة تهدئ من سرعتها.. انتشرت في الجو رائحة الأعشاب النضرة.. نزل ” خليفة ” وزوجته وأطفالهما واتخذوا طريقهم نحو دار تهدم قسم منها، قائمة وسط حقل مهمل.. انطلق الأولاد يجرون، وصاح أكبرهم: ” هذا بيتنا الأول.. أحسن من بيتنا الذي تركناه “.. ثم اتجه هو وإخوته نحو الجزء المتهدم من الدار وأخذوا يصفون الأحجار محاولين إصلاحه.

نظر ” خليفة ” إليهم والفرحة تتراقص في عينيه.. وفي اللحظة بدأت الأمطار في الهطول.. فسارع الأطفال بدخول الدار مع أمهم.. لكن خليفة بقى واقفا ورفع يديه ليلتقط حبات المطر المتساقطة بقوة كأنها ترحب بقدومه.. أجاب زوجته التي دعته إلى الدخول: ” دعيني أغتسل لأعود إلى أرضي نظيفا “.

1963

مقالات ذات علاقة

مسعود وأخواته

جود الفويرس

وماذا بعد..؟

سعد الأريل

الحد الفاصل بين الشعر والنثر

عادل بشير الصاري

اترك تعليق