المقالة

معالم دعوة الإسلام إلى استقلالية الأمة

من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي
من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي

لا شك أن لكل أمة خصائصها ومحدداتها التي تميزها عن باقي الأمم، وتجعل لها سياجها الذي يمنعها من الذوبان، ويحول بينها وبين التبعية، وتصيرها إلى التخلف وتجعلها تتموقع في ذيل الركب الحضاري.

وأمتنا التي اختار الله لها صبغة الإسلام فصارت إليه تنتسب وبه تعرف حتى اكتسبت هذا الاسم المشر «أمة الإسلام».

وهذا الاسم الذي يشرفها يحتم عليها تميزاً وتمايزاً يظهر خصائصها وفضائلها، ويبين مبادئها ومفاهيمها، ويجسد أخلاقها وقيمها.

ولا شك أن كل ذلك يظهر استقلاليتها فيجعلها متبوعة لا تابعة، وحاضرة لا غائبة، وفاعلة لا مفعولاً بها، ومن ثم تتموقع أمتنا في موقعها الذي يليق بها وتحقق الدور المنوط بها في النهضة والشهود الحضاري.

ولأهمية استقلالية الأمة، خاصة في هذا الزمن الذي تعالت فيه الأمواج العاتية التي تحاول أن تجرف الأمة بعيداً عن مسارها فتجعلها تضيع هويتها، نسطر هذه السطور في عنصرين؛ مفهوم الاستقلالية، ودعوة الإسلام لاستقلالية الأمة.

أولاً: مفهوم الاستقلالية:

الاستقلال هو القدرة على اتخاذ القرار والانفكاك من القيود التي تمنع من التحكم فيما نملك.. وهو التحرر من السلطة الخارجية، ويقال: دولة مستقلة إذا تحررت من الاستعمار وكانت ذات سيادة وتفردت بحكم نفسها وتقرير مصيرها.. وهو التخلص من أي تبعية، وأن يكون الفرد أو المجتمع صاحب إرادة حرة يقوم بأعماله ويُصدر آراءه وفقاً لقناعاته وتصوراته بعيداً عن أي إكراه.

إذن، فمفهوم الاستقلال واسع يقوم على دعامتين، هما: التحرر من سيطرة الآخرين سواء كانت مادية أو معنوية، والقدرة على اتخاذ القرار وفقاً للتصورات والقناعات والقيم التي يؤمن بها الفرد أو المجتمع.

هذه الأمة التي يجمعها الإسلام الذي ارتضاه الله ديناً للعالمين، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (آل عمران: 19)، وقد اختاره أبناؤها المنتمون لها ديناً سائرين على منهج الأنبياء من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).

إذن، فالإسلام هو الجامع لكل أفراد الأمة عبر التاريخ، وقد تحقق هذا الانتماء بشكل جلي منذ مجيء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصار علماً على أتباعه على تعدد أعراقهم واختلاف لغاتهم وتنوع أمصارهم.

وهذا الجامع الذي هو الإسلام جعل لهذه الأمة تصورات وقناعات، مبادئ ومنطلقات، فضائل وميزات، ومقاصد وغايات.

وكل تلك الأشياء تشكل سياجاً يحفظ لها كيانها ومعالم تميزها، فتنال بالتالي شرف الخيرية وتكون كما قال الله فيها: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110).

ثانياً: دعوة الإسلام لاستقلالية الأمة:

لا يخفى عن أي دارس للإسلام دعوته الكبيرة والملحة لاستقلالية الأمة، ويمكن أن نتتبع مظاهرها ومساراتها فيما يلي من نقاط:

1- وضع الإسلام المنطلقات والمقاصد لهذا الدين، وحدد له ضوابطه العقدية والتعبدية؛ ليجعل تلك المحددات تمثل أدلة على الانتماء الحقيقي لهذا الدين، وتتشكل بها شخصية الفرد المسلم ومن ثم الأمة الإسلامية.

– ركز الإسلام على فهم المسلم لرسالته في هذه الأرض وربطه بمعاني الاستخلاف والإعمار لهذه الأرض وفقاً لمنهج الله تعالى، وأكد له أنه لا مكان للعبث في وجوده بهذه الدنيا، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون: 115).

آيات كثيرة في كتاب الله تعالى تحدد معالم هذه الأمة وأوصافها وشروط خيرتها التي تجعلها شامة بين الأمم تحقق فضائل الرقي والارتقاء، يقول تعالى في كتابه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).

يؤكد الإسلام دائماً لأفراده أن تكون لهم شخصية مستقلة، وأن تكون اختياراتهم وقرارتهم منطلقة من كتاب ربهم وسُنة نبيهم، قائمة على الدليل والبرهان لا على الاتباع والتقليد، وقد شنع القرآن على منهجية الاتباع دون علم ولا هدى في عديد المواضع، منها قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة: 170).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه ويستمع إلى آرائهم ويحثهم على التصريح بقناعاتهم ويحرضهم على قول الحق ويحذرهم من الأمعية والتبعية العمياء.

يدعو الإسلام إلى تحقيق التوازن بين استقلالية الفرد واستقلالية المجتمع والدولة، بحيث لا ينحرف الفرد ويخرج عن مسار الجماعة بدعوة الحرية والاستقلالية، وفي الوقت نفسه يجب ألا يستبد المجتمع بأعرافه وتقاليده ولا الحكومات بسلطتها وسلطانها على الفرد وتسحق استقلاليته وتكبل حريته بدعوة الحفاظ على استقلالية المجتمع.

هذا التوازن يشكل انسجاماً يعزز استقلالية الفرد والأمة ويجعل العلاقة بين الحاكم والمحكوم منضبطة بالضوابط الشرعية، وتؤدي في النهاية إلى أن يكون الفرد معول بناء في نسيج الأمة.

يؤكد القرآن التنوع والاختلاف، فالبشر أمم وشعوب وقبائل، متنوعون عرقاً وفكراً، ولغة وديناً، وهذا التنوع والتعدد يجعل العالم فسيفساء رائعة يجب الحفاظ عليها وإدراك أهميتها واعتبارها من آيات الله، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم: 22).

والإسلام إذ يؤكد بقوة استقلالية الأمة ويدعوها للتمسك بثوابتها والحفاظ على هويتها من الذوبان، فإنه مع هذا التأكيد يدعو للانفتاح المنضبط مع الآخرين واستيعاب التنوع والاختلاف معه، داعياً لأن تكون العلاقات مع الآخرين تعاوناً وتعارفاً لا إقصاء وإلغاء، رفقاً وإحساناً لا عدواناً وتصادماً، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).

وختاما من خلال هذه النقاط يظهر لنا بجلاء دعوة الإسلام القوية لاتباعه للحفاظ على استقلاليتهم واستقلالية أمتهم لأنها تحفظ هويتها وهيبتها، وتجعلها أمة قوية فاعلة تشع نورا وهدى على العالمين.

مقالات ذات علاقة

عزلة المثقف الليبي

سالم العوكلي

حول الزواج!!!

عطية الأوجلي

المنطقة العربية والحروب المتواصلة

خالد الجربوعي

اترك تعليق