تترك تجربة السجن الأليمة تأثيراتها السيئة على الشخص أو المواطن العادي مهما امتلك من قوة وإرادة وصبر فكيف يكون الحال بالشاعر صاحب الإحساس المرهف والمشاعر الرقيقة، متى ما تعرض هو الآخر لهذه التجربة القاسية، فإن يعزل شخص عن محيطه ويوضع عنوة وراء الجدران والقضبان تحت مبرر سياسي، يكون قد تعرض لضغط نفسي هائل ومعاناة شديدة قد تستمر أثارها السلبية على نفسيته سنين طويلة حتى بعد أن يغادر السجن ويتنسم هواء الحرية، خاصةً إذا كانت أسباب السجن واهية أو لمجرد أن طاغية أو ديكتاتور أراد إسكات صوت أو وأد رأي مخالف فقام بتغييب صاحبه وإقصائه قسراً عن طريق الزج به في غياهب السجن أحياناً بتهمة ملفقة وأحياناً أخرى بلا تهمة واضحة، حيث مارس النظام السابق في ليبيا هاته السياسة الإقصائية فقام بسجن بعض المثقفين ومن بينهم شعراء معروفين لأن أراءهم تخالف أراء النظام أو أنهم انتقدوا بعض السياسات سراً أو علناً فاستحقوا العقاب من وجهة نظر النظام الذي كان يحسب للكلمة ألف حساب ويخاف المعرفة أكثر من أي شيء أخر ولعله لهذا السبب وضع ضمن أولوياته نشر الجهل وعرقلة العملية التعليمية وهذا واقع يشهد به كل من عاش تلك الحقبة.
ومن بين سجناء الرأي في ليبيا سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي الشعراء أحمد بللو والسنوسي حبيب ومحمد الشلطامي وعبد الفتاح البشتي، الذين سجنوا لمدد متفاوتة، وكونهم شعراء كان لابد ومحتماً أن تتسرب تفاصيل هذه التجربة المريرة شأنها شأن تجارب الحياة الأخرى، القاسية منها خاصةً، كان لابد أن تتسرب إلى قصائدهم وتصبغ بعض شعرهم، فالشاعر في حاجة لأن يعبر بشعره عما يعتمل بداخله من آمال وآلام من أحلام وخيبات من تطلعات وانكسارات، وإن لم يقُل الشاعر نفسه فماذا سيقول!!، ونستطيع أن نتلمس هذا الأثر في شعر هؤلاء الأربعة بيسر وإن كان قد كُتب أحيانا بطريقة مضمرة ومواربة تلمح أكثر مما تصرح وتومئ أكثر مما تذهب إلى المعنى مباشرة، لأن الكتابة تمت في زمن لا زال النظام فيه يُحكم قبضته على مقاليد الدولة، وكان من شأن أي انتقاد أو حتى ذكر صريح لتجربة السجن في أي قصيدة أن يجر الكثير من المشاكل والمتاعب للشاعر هو في غنى عنها، فالنظام مثلما له عيون منتشرة في كل مكان تتتبع حركات وسكنات الناس، كانت له عيون تنبش في الكلام وتحفر في الحروف التي قد يتم تأويلها على أساس أنها رأي مخالف للرأي الأوحد والتوجه الأحادي وبالتالي يتعرض قائلها للأستجواب والمسائلة.
ويمكن أن نعتبر كل قصائد هؤلاء الشعراء الأربعة التي تحتفي بالحياة وتنشغل بتزين الواقع وتتغنى بالحبيبة وبالوطن وبالأرض وبالحرية، يمكننا أن نعتبرها رغم أنها لا تشير إلى ذلك ذماً للسجن وتعريضاً بالسجان، ففي الأحتفاء بشيء ذماً لنقيضه وما احتفاء الشعراء بالحياة إلا تطهيرا للنفس من آثار تلك التجربة وإدانة للجلاد في ذات الوفت.
وبالعودة إلى أنتاج الشعراء الأربعة نعثر على تصريحات وتلميحات إلى هذه التجربة كما نتلمس أثر شعور بالغبن وبالظلم وبالمرارة وإحساسا فادحا بخسارة أعمارهم التي ذهبت هدرا كونهم سجنوا أو تعرضوا للأضطهاد في أعمار مبكرة.
فها هو الشاعر أحمد بللو صاحب المجموعة الشعرية “متاح لك الآن ما لا يتاح” التي كُتبت أغلب قصائدها داخل السجن، وهو الشاعر الذي وجد في الشعر ملاذاً آمناً ونافذة يطل من خلالها على الآخر إذ لم يكن الشعر ضمن أولويات الشاعر مثل المسرح سوى أنَ العزلة فرضت نسقها وجعلته من الأولويات، إذ يقول ذات مقال “حين فُصلتُ من الجامعة بعد ثورة الطلاب وسُجنت.. في ذلك الخريف لم يكن ثمة مفر من الشعر.. وقد غدا ملاذي الأثير ونافذة وجداني وأحاسيسي على الآخر.. كان زفرة الروح وشهقتها.. وكتبت دون اعتبار لأي الجهات أو التيارات أو المدارس أنتمي.. ما كان يعنيني هو أن أُغني.
هو الغناء إذاً الذي جاء شاهق الحزن مليئاً بالشجن ففي قصيدة “حصار” يغني.
وتدري السجون التي استنزفتني…
بأني اقتدار
وأن المسافة بيني…
وبين الذين استناموا على الدرب
محض انفصال عن الحلم
والأغنيات والجدارة.
ثم يعود ليغني
أعترف وتهوى السياط
الحديد المُحمى
سباب الشوارع
تاريخ أُمي الذي لم تعشهُ
نقر العصافير على غصن قلبي
وتذهب إلى الأُفق حتى انتشاري
وأعترف الآن
إني انفسحت
وإني اختلطت بما لا يُحد
من الورد والخبز والأمنيات
وإني أُصبت بما لست أدري
وقالوا موت
وقلت:- أُحب
ولم يكفها نزف هذا النشيد نافذة للحنين
للسجن وحشته..
وللقلب ابتسامتها..
وقلبي مفعم بحضورها هذا المساء
تنهد الوقت المشاكس فوق راحتها
وفي العينين شوق الأرض للمطر..
أستريحي عند نافذة الحنين
إن شئتِ ناراً..
أو غزالاً عاشقاً…
هذا أوان تراشقي وعذوبة الإفصاح
في عينيكِ…
لا تتساءلي عن سر قلبي…
ليس غير عرائشي أرجوحة القصائد…
وفي هذه القصيدة يختلط الغزل بالعذاب الذي عاناه الشاعر، وفي قمة فرحه تداهمه الذكرى الأليمة فيُشير إليها عابراً في قصيدته، رُبما لتثبيت إحساسه بالمرارة ولإحالة قارئه إلى تاريخه الشخصي، فالقصيدة هنا تترجم قائلها ولا تُحلق بعيدا في أجواء الخيال، وبدلاً من ذلك تغوص قصياً في نفس الشاعر لتترجم مشاعره وترسم انفعالاته، ورُبما ليصبح الفرح ذا جدوى يجب مقارنته بنقيضه ولتأكيده ينبغي مقارنته بضده.
أما الحبيب السنوسي الشاعر الراحل الذي قضى سنوات داخل السجن، فقد كتب متساءلاً متحسراً على سنوات عمره المسروقة، سنوات الجمر ذات قصيدة أسماها “الليل”.
كيف هي فظاظة الجدران
لم يُجب
جلسنا مع الليل مرات ومرات
وكان نفس الصمت والسؤال
أفرغت كؤوس الجمر في جوفه
وحدهُ يبوح بالأسرار
يتألم دونما كلام
أسكرهُ الليل مرة
وقال
هذا الليل يتكئ على الأريكة
ينصت كمخبر
يقف كحجر ثقيل
يقتلني كالظمأ
الليل جدران مطبقة
وللوطن فجوة وسجّان.
ولا أجد ضرورة لتحليل القصيدة وشرح مقاطعها فهي تشرح نفسها بنفسها وتُفصح عن معانيها ومفردات وردت بها مثل الجدران والليل والجمر والمُخبر والحجر والظمأ وفظاظة ومطبقة، وأخيراً سجّان، تُحيل إلى السجن وعذابات مصادرة الحرية.
وللشاعر محمد الشلطامي وهو من رواد قصيدة التفعيلة في ليبيا، للشاعر الذي ألِفتهُ الزنازين واستأنست بهِ السجون حين زُجَ بِها ذات رأي تبناه، إذ دخل السجن في ثلاث مناسبات عام 67 لمدة عامين وأعوام 73 و 76 ضمن أحداث ما يُعرف بثورة الطلاب، والذي يقول عنه الناقد منصور ابوشناف ” كان شعره منشورا سياسيا مهرباً يعلقه المتمردون على جدران الشوارع أثناء الأنتفاضات ويخطه السجناء على جدران زنازينهم ويحفظه الطلاب كمناشير تمرد ورفض، لهُ قصيدة مُعبرة يُشي عنوانها “على باب الزنزانة رقم 6” يشي بتفاصيلها، وفيها يتطلع إلى غدٍ مُشرق وربيع واعد، مُخاطبا رفاقه بنبرة متأسية حزينة متجاوزاً من خلالها الحاضر الملتبس والراهن المدلهم إلى مستقبل زاهر وأُفق ساطع ناشراً أسئلته الحارة وحيرته المتفاقمة على الورق.
رفاقي…
أتعشب في الفجر هذي الصخور؟
أتُزهر فوق جدار الردى الأمنيات
وهذه البذور؟
وترد عبر الصدى الأغنيات
وتعبق في الموقد الذكريات؟
هُنا منذُ شهرِ مضى
منذ عامِ مضى
هنا منذُ قرنٍ مضى قام سور
وسجن وجيل من الهالكين
أتُشرق شمس الربيع الحزينة
فتوقظ أحلامنا الميتات؟
وكون الشاعر يكتب قصيدة التفعيلة فقد استمالته القافية ومنحته إيقاعها متمثلاً في مفردات كللت الجُمل والأسطُر الشعرية مثل أمنيات، ذكريات، الميتات، القبرات، الصخور، سور.
ولكي يطفئ حرقته ويتطهر من أدران التجربة التي حكاها أيضاً في كتاب حمل عنوان “المحنة الملحمة” يقول الشاعر عبد الفتاح البشتي الذي أمضى خمسة عشرة عاماً من عمره في سجون النظام السابق في ليبيا متساءلاً في قصيدة من ديوان “قسمات الرمل والورود”.
هل يستفيق القلب..؟
أم تتجدد الرؤيا بنار الكشف
هل زنزانة في السجن؟
تصبح باحة للحب
هل كوة سوداء معتمة الهواء؟
تصير نافذة على الشطآن.
أيضاً يقول وهو في قلب المحنة في هذا القصيد الذي كتبهُ العام 1979.
وأبقى والرفاق وحسرتي
والبرد، مقروراً وحيداً
والقلب يعصرهُ انكسار فادح
والأغنيات تكسّرت في الحلق زفرات
وهذا الشعب يعلو بالمسيرة صاعِداً
نحو اندحار
والغبار يسُد أنفاسي
فأخترع القصيدة شُرفة خلف الجدار.
بعدَ أن فاض كأس الصبر وبعد أن فقد كل شيء وراء الجدران الصلدة لم يتبقى له إلا القصيدة ليتخذ منها شُرفة تطل على الحلم على الحياة على الحبيبة التي يستحضرها تالياً في القصيدة.
ليقول بعد ذلك في ذات القصيدة.
أما الكلام، وشعرنا
فالسجن يُنهك دفقه
بطيئاً ركيكاً شاحباً
فتموت في الأفواه حرقته
ويُتعبهُ الوصول.
والسجن حينَ يطول ويصبح الأُفق مغلقاً تخمد معنويات الإنسان وينطفئ فيه بريق الحياة، وهذا ما حدا بالشاعر إلى أن يقول ما قاله بشأن الشعر الذي يصير شاحباً وركيكاً ويموت قبل أن يولد لو لم تدركه الحرية بنسماتها ولطافتها، فللصبر حدود وللشعر مقومات لابد منها ليقوم في ظلها ولعل الحرية هي أهم المقومات ولنتذكر دوماً أنَ الشاعر في هذه القصيدة يكتب من داخل المحنة وليس بعد انقضائها ولعل نفاد صبره جعلهُ يُجاهر برأيه ويكتب ما يكتب وعين الرقيب عليه قبل أن يقوم بإخفاء ما يكتب وتهريبه إلى الخارج ليُحفظ في مكان آمن لا تطاله يد المحو والمُصادرة ويُعاقب عليه.
كثيرة هي الأشعار التي كتبها الشاعر عبد الفتاح البشتي عن السجن، فخمسة عشرة عاماً من تقييد الحرية كفيلة بالأستحواذ على كل اهتماماته وجعله لا يُفكر إلا فيها وفي ما مرَ عليه خلالها من مكابدة، يعود الشاعر في قصيدة أُخرى ليكتب من قلب المحنة.
هو الجب يا يوسف الآن
سبعٌ عجاف
فهل بالمسرات وعد
أم أنهُ الجُب دوماً
وما لسنين القِطاف عود.
من قلب المحنة يكتب وهذا ما يُفسِّر نبرة الحزن والأسى التي تتلبس المقاطع الشعرية، وحتماً يُخاطب الشاعر نفسه هنا حين يهمس الفتى الذي طالت غيبته.
ذاك المساء
فاحت زهور البرتقال
ولم تعُد للدار
طالَ الغياب، وطالت الأسفار
ألِفتكَ كل سجون هذا القفر
والحراس
جافتك الأماسي الحلوة والأنفاس والسهرات
والحضن الحنون
وغابَ نجم السعد.
تُرى كيفَ سيكون شعور شاعر سجين يلفه الصقيع واليأس والأغتراب بين الأربع جدران حين يتذكر الصِحاب حينَ يتذكر الأماسي الحلوة الأنفاس والسهرات والحضن الحنون، لابد أنهُ شعور فظيع وإحساس حارق لا يطفئه أو لا يُخفف من حرقته إلا الشعر ولا يُلطِّف من وقعه القاسي سوى القصائد.
وعموماً لا يمكن قراءة أشعار البشتي بديوان قسمات الرمل والورود، بمعزل عن مِحنة السجن وهي المحنة التي تستأثر بالكثير من قصائده ومقاطعه الشعرية، ومثلما لا مفر من نسيان التجربة لا مفر من تدوينها.
____________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل