د. هاشم عبود الموسوي
قبل مجيئي إلى ليبيا عام 1994 لم أكن مطّلعاً إلا على النزر اليسير مما كان يصلنا من نتاجات مبدعيها من الشعراء. ولا مفرّ من القول بأنّ الواقع العربي الذي كان قائماً ولا زال على التجزئة لعب دوراً كبيراً في عرقلة النمو الثقافي بشكلٍ متكامل ومتزامن في نفس الوقت، غير أن الأدب من أكثر عناصر الثقافة قدرةً على الإفلات من حصار الإقليمية، وهكذا فقد استطاع بعض شعرائنا من الاطلاع على نتاجات رواد الشعر الليبي مثل أحمد رفيق المهدوي وخليفة التليسي وإبراهيم الأسطى عمر وأحمد الشارف، وبعدهم جاء جيل علي صدقي عبد القادر (شاعر الحب) وعلي الفزاني وعلي الرقيعي ورجب الماجري.. والرعيل الثاني كانت له تأثرات بشعر عرب في المشرق العربي، وعلى سبيل المثال فإن تأثر الرقيعي بالشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي كان واضحاً في كثيرٍ من النصوص التي نشرها الأول.. أما جيل الثمانينات من الشعراء الليبيين، فكنتُ والحق أقول أجهل عنه كل شيء، وحتى مجيئي إلى ليبيا، واطلاعي على اهتمام هؤلاء الشباب ونزوعهم للإطلاع على التجارب العربية والعالمية، واعتمادهم على رصيد تراثي رصين ومواهب متميزة يمتلكونها.. وقد صهروا تجربتهم الملتزمة دائماً بالحقيقة.
أسماء كثيرة برزت على الساحة الأدبية الليبية برعت في بناء فني للقصائد، وهؤلاء الشعراء كانوا مسكونين بهواجس شعرية تؤرق مخيلتهم بإلحاح، وتمكّنوا من الأدوات الفنية الملائمة وللتقنيات الحديثة الموازية لحركة الشعر العربي والعالمي المعاصر.
وقد التقيت بعددٍ منهم وقرأت لكثيرٍ منهم، إلا أنّ واحداً شدّتني نصوصه التي أقرأها. وكانت توحي لي بالخيالات الجميلة وتمنّيت لقاءه، ولم يتم لي ذلك إلا بعد 9 سنوات من مكوثي في ليبيا.
في شهر تموز (يوليو) من عام 2003، تم لقائي الأول مع الشاعر الليبي، الصوفي الخجول محي الدين محجوب في مدينة الخمس في احتفالية ثقافية، كُنتُ فيها أحد أعضاء اللجنة العلمية المُحكّمة للنتاجات الإبداعية من قصة ورواية وشعر ونص مسرحي.
وقد كان شوقي كبيراً لألتقيه، وقد تصاعد اسمه وعلا نجمه دون ضجيج وواصل الارتقاء، حتى أنّه قد تمّ تكريمه في عام 2006 في محفل عربي (ملتقى الشعر المغاربي، بتونس).. وعلى إثر ذلك بادر اتحاد الأدباء فرع الخمس بدعوته لينال التكريم في حفلٍ لائق أقمناه له في المركز الثقافي بهذه المدينة الساحلية الجميلة بنفس العام.
ورغم أن كثير من الشعراء الليبيين المحدثين لا زالوا يستخدمون اللغة الصوفية، إلا أن محي الدين يتميز بأنّه يُحيل الكلمات إلى جمل تعبيرية مكتنزة المعنى، ثرية المغزى، في مقطع من أحدى قصائده يقول:
«حين أبصرته العصافير
محتشداً…
رفرفت إليه
تملؤها الدهشة».
وفي مقطع آخر مختصراً يقول:
«بئرٌ مَكسوٌ بأسراره،
كلما ألفت ظلي
رأيته».
وتبقى صُورهُ الصوفية ذاكرة تعود وتجدد لتعيش لحظات الحضور. ويبقى لديه المعنى أكثر احتمالاً من كونه ضرورة مؤكدة، حيث تنفتح نصوصه مُتيحة تعدد القراءات، ممتلكة قيمة التجدد والبقاء، ومنذ أكثر من ربع قرن، فهو شاعر يسعى إلى صياغة نصوصه الجديدة والمغايرة، ويحتفي بها ويمارسها في لجة نارٍ لا تُفضي إلى رماد.
والتصوف لدى محي الدين محجوب يعني السفر والبحث في الوجود، والوجود مبدؤه الإنسان، ومن هنا كان البحث والسفر إلى ذات الإنسان والحفر عميقاً في داخله بحثاً عنه والدخول إلى حقل المتناقضات: الباحث والمبحوث عنه هو الإنسان. وكان منهجه هو التماهي مع المطلق/ الغيب، فيما هو حاضر في واقع مادي هو الإنسان والعالم حوله.
نشأ وترعرع في بيتٍ أشبه بزاوية صوفية، وكان والده يحتفظ بمكتبة تضم أمهات الكتب، وبما أنّه كان (أي الأب) كفيفاً، فقد كان محي الدين وابن أخيه عبدالمنعم (الأديب والكاتب الليبي المعروف)، يتناوبان في القراءة له.. وبهذا نستطيع أن نقول بأنّه نشأ في بيتٍ يعشق التراث.
وعندما انتقل من مدينته الصغيرة إلى طرابلس للدراسة في عام 1977م تعرّف على الأديب الليبي الكبير يوسف القويري.. ثم بعد ذلك بسنين تعرّف على الشاعر الفقيد علي الفزاني، الذي يكبره في السن.. إلا أن شاعرنا محي الدين ظلّ يمثّل فرادةً في النثر داخل فضاء يلعب فيه كثير من الشعراء. وكان متوجساً وقلقاً يبحث عن فرادة لا تتعالق مع أرحام نصوص أخرى.
وعند وفاة الشاعر علي الفزاني في بيرن، رثاه محجوب بالقصيدة التي تضمّنها ديوانه «الغيمة في يدي»، والذي أهداني إياه في لقائنا الأول، هذه القصيدة كلما أقرأها أشعر برعشة تنتابني وتتساقط الدموع من عينيّ، لأنّها مغموسة بحرارة مشاعر إنسانية عالية.. ونحن العراقيون ربما جُبلنا على حب الحزن والشجن.. وصارت جيناتنا تنضحه في كل العصور.
ويُلاحظ على أكثر قصائده النثرية ابتعاده عن نظام السرد، وسعيه المتواصل نحو الاقتصاد باللغة.. وقد سعى لتحديث مشهده الشعري بإيجاده لتقنيات أسلوبية جديدة اختار لها الاستعارات الخفية، وعندما استل من أحد قصائده “لسان لقمان” هذا المقطع الذي يقول فيه:
«أنجز العالم/ إرم ذات العماد/ حدائق بابل المعلّقة/ سفينة نوح/ ريح صرصر/ عصا موسى/ وملوكاً مشعوذين/ يخربون الحكمة/ الأرائك الوثيرة/ نحب العصافير/ ونترك الحرب/ تزقزق للفخاخ/ نحب الحب/ وطمي الكراهية/ يتراكم في القلوب/ نحب النساء/ ونصطاد الأرائك الوثيرة».
لقد تمكّن من أن يؤطر نصوصه ببصمة خاصة مكنته من نقل المصطلحات الصوفية المغلقة دلالياً إلى ساحة الناس/ الواقع المنفتح على مصراعيه، جاعلاً من لغة التصوف كرنفالاً جماعياً غير محدد وغير مقيد، ففي مقطع من قصيدة «نصوص»:
«لا يعرفني بيتي/ بلا مفتاح!/ لا أعرف نهاري/ قبل أن يدخل!/ تحية الجرذان:/ تصبحون على خير/ أليس من تحية لائقة/ نتبادلها نحن الجرذان؟!/ أفظع ما في صباحنا/ تؤلب علينا القطط/ وتُحيق بنا المبيدات».
وأختتم مقالي القصير هذا بقولٍ لشاعر الحب في ليبيا المرحوم علي صدقي: «كلما استمعتُ إلى محي الدين محجوب تحسّستُ جيبي لأُخرج الحلوى».
________
نشر بموقع أطلس