في يوم ما من شهر مارس عام 1986، كنت اجلس في الفندق الكبير مع شيخ ادبائنا الاستاذ على مصطفى المصراتي، عندما نظر في ساعته، وقال انه تاخر عن حضور هذه الليلة الثالثة او الرابعة من ليالي مأثم فضيلة الشيخ المفتي، وبكثير من الاسى والذهور سألته ان كان يعني فضيلة الشيخ الطاهر الزاوي، وعندما اكد لي انه المعني وانه توفى منذ ثلاثة ايام اي في اليوم الخامس من ذلك الشهر، استغربت كثير كيف انني لم اقرا خرا ولا اعلانا ولا نعيا ولا كلمة رثاء في صحيفة او اذاعة او على لسان حكومة البلاد الذي افنى خمسة وتسعين عاما مناضلا في سبيل تحررها، وذهبت معى لاقدم العزاء لابنه القاضي احمد الطاهر الزاوي واسأله مغضبا كيف لا نراه واسرته يعممون علانا في الصحافة والاذاعة لكي لا يفوتنا شرف المشاركة في جنازته وللرجل قراء واتباع ومريدين، فجاء الرد مذهلا حقا، اذ قال انهم ذهبوا بخبر وفاته وموعد الصلاة والجنازة ومكان الدفن، لكي الصحف وكل الاذاعات في البلاد والى وكالة الانباء الليبية، فوجدوا الابواب مقفلة امام نشر الخبر، وان هناك تعليمات من اعلى جهة في البلاد، بمنع الاشارة الى رحيل الشيخ الفاضل، وهكذا كان حقد الطاغية عليه حيا وحقده عليه ميتا، ولم نقرا في الايام التالية لوفاته، كلمة رثاء واحدة في صحافة واعلام ليبيا، او تذكير بجهاد الابطال، الذي خاضه رجل كان حياته ملحمة متصلة من النضال في سبيل بلاده، ولم نجد انا وابنه والشيخ المصراتي غير الحسرة والاسف قائلين لو انه كان في بلاد غير هذه البلاد لاعلن الحداد العام، ولصدرت الصحف بعناوين سوداء تنعي هذا الرحيل الفاجع لقامة سامقة شامخة من قامات الوطن، وساقتصر هنا على ذكر خمسة اسباب فقط تكفي وحدها لتجعل له مكانة الرمز الوطني الذي يقف الوطن اجلالا لمنجزه واسفا على رحيله واحتفالا بنضاله:
أولا: الشيخ الطاهر الزاوي هو احد افراد الرعيل الاول لابطال الجهاد، وكان شاهدا لبداية الغزو الايطالي عام 1911، وواحدا ممن تصدوا له، راكبا على حصانه في معركة الهاني اولى معارك الجهاد، ليثبت الليبيون لجنود الاسطول الذي قاده الجنرال كانيفا، انها ليست نزهة بحرية يقوم بها جيشهم كما كانوا يقولون في صحافتهم وتصريحات قادتهم، وانما هي نار حمراء وجحيم يذيب جنودهم في اواره، وقد وصف وصفا دقيقا وامينا حالة التعبئة العامة التي عاشتها البلاد لمواجهة الغزو، ووقدم من واقع المشاهدة والمشاركة والتجربة الحية المباشرة صورة لملحمة الهاني، ووقف وقفة تامل واجلال عند قادة تلك المعركة امثال سوف المحمودي وسليمان الباروني ومحمد عبد الله البوسيقى. وكان وداعه يوم وفاته بتاريخ 5 مارس 1986، يجب ان يكون تكريما لجيل اولئك الابطال من قادة الجهاد ورموزه لانه اخر من بقى منهم، واخر من يتم وداعه بعد مرور خمسة وسبعين عاما على تلك المعركة.
ثانيا: بعد ان شارك في معارك الجهاد بسيفه، حتى انتهت مرحلة المقاومة العسكرية في البلاد، جرد قلمه سلاحا ضد الغزاة، وكان يكتب الكتابات التي تفضح وتعري مخازي الاستعمار الايطالي في ليبيا، وعندما انتهت تلك المرحلة لم يهادن الادارة البريطانية وانما واصل الكفاح السياسي ضد تلك الادارة، ولم يستسلم لاغراء الواقع الذي افرزته مرحلة الاستقلال ويواصل اصراره من اجل ان يكون استقلالا كاملا، ولذلك بقى معارضا، يرن ناقوس الخطر ضد اي انحراف، او اي انعطاف عن الخط الوطني خاصة في مواجهة اتفاقيات القواعد العسكرية البريطانية والامريكية، وظل كذلك الى نهاية العهد الملكي.
ثالثا: كرس عمره كاملا لتسجيل التاريخ الليبي الحديث، باعتباره شاهدا ومشاركا ومن واقع التجربة الحية والخبرة الشخصية، ولم تكن مراجعه الكتب وما قالته التقارير وانما استقاه من الرجال الذين صنعوا ملحمة الجهاد، والتي حتوتها كتبه عن عمر المختار وعن جهاد الابطال وعن جهاد الليبين في ديار الهجرة، ولم يتقاعس عن الذهاب اليهم وتسجيل شهادتهم التي انجزها من خلال جهاد الابطال، ولم يكتف بالتاريخ السياسي والنضالي وانما ذهب يفتش في بطون المخطوطات ليضع قاعدة للتاريخ العلمي والادبي لليبيا في كتبه مثل اعلام ليبيا واخرى عن تاريخ التمدن والمدنية في معجم البلدان الليبية وعاد الى التاريخ القديم فكتب عن تاريخ بلادنا منذ الفتح العربي وعن ولاة ليبيا وحكامها منذ ذلك الفتح الى اخر العهد العثماني
رابعا: هو عالم دين جليل وعالم لغة وادب، نال اعلى الشهادات من الازهر الشريف، واعتمده كبار علما بلاده امثال احمد الشريف العالم والمجاهد، ممن تتلمذ على ايديهم، ولم ينته دوره عند استصدار الفتاوى خلال توليه الافتاء، وانما انبرى لتاليف تصانيف في اللغة والدين تؤهله لان يكون من اساطين علماء اللغة واساطين علماء الدين.
خامسا: تعامل بعطف وتعاطف مع العهد الجديد الذي اطاح بالنظام الملكي، وقبل وهو في شيوخته ان يعاضد هذا النظام الثوري الذي راى فيه صورة للتجديد والتحديث خاصة انه لم يكن بعيدا عن الدعاوي الوحدوية والنهضوية التي عاصرها اثناء اقامته في مصر، وكان يتعامل مع الحكام باعتبارهم جيل الابناء والاحفاد، وليس كما كان مع الملك الذي كانت تجمعه به المرحلة العمرية والمجايلة وخوض المسار ضد المستعمرين، فكانت نظرته هي نظرة الاب لابنائه، وكان يمثل لهم ضميرا، ورايا حكيما لم يكن جائزا الغضب من انتقاداته وارشاداته وتوجيهاته، ولكن الحاكم العسكري وقد استحكمت فيه عقدة المؤله الذي لا يرد له خطاب، استكبر واخذته العزة بالاثم فكان لابد للشيخ الجليل ان يترجل عن مكانه مرشدا ومعلما، ويجلس حانقا في بيته، بعد ان صدع بصدق رؤيته وافكاره ولم يختفي وراء اقنعة المسكنة والطاعة وجاهر بكلمة الحق يرمي بها في وجه سلطان جائر.
هذه اسباب قليلة من اسباب كثيرة، لو توفرت لاي شخص في اي مكان في العالم، لكان موته حدثا جللا تهتز له الامة، وتنطلق من كل منابرها الاعلامية والدينية والسياسية، الرسمية والاهلية، اصوات التعبير عن التكريم والوفاء والتوقير لما اسداه الرجل لامته من خدمات عظيمة، لا ان يمر رحله في صمت وتجاهل ونسيان، ولا يفعل ذلك الا حاكم تضاءلت عنده الخصال الكريمة الى حد الصفر مثل الحاكم الليبي السابق.
لم التقي باستاذنا الجليل الشيخ الطاهر الزاوي الا مرات قليلة جدا عبر صديقه وتلميذه الشيخ على مصطفى المصراتي، وفي احدى هذه اللقاءات طلبت منه المشاركة في كتابة اليوميات في صحيفة الثورة في العام الاول او الثاني من عقد السبعينيات عندما اشرفت لفترة قصيرة على تلك الصحيفة، وفعلا شارك في كتابة اليوميات، التي كان يتناوب على كتابتها كل يوم ابرز كتاب ليبيا، وكان الاستاذ المصراتي يحذب على الشيخ الزاوي ويسهر على راحته منذ عودته الى ليبيا في عام 1967 بعد غياب في مصر استمر 43 عاما.
واذكر انني ذهبت الى دار الافتاء مع شيخنا المصراتي لحضور حفل الاعلان عن ظهور شهر رمضان وجاء طاقم الاذاعة الذي سينقل عقائع الحفل على الهواء، وبدأ الاستعداد لتلاوة القرآن، يتبعه خطاب المفتي الذي يبلغ فيه الناس بان يوم غد هو اول ايام الصيام، الا ان مكالمة هاتفية جاءت في تلك الاثناء من باب العزيزية، قلبت الامر راسا على عقب، فحواها تعليمات من رئيس مجلس قيادة الثورة تقضي بعدم الاعلان عن بداية شهر رمضان الكريم واعتبار يوم الغد هو المتمم لشهر شوال، والمشكلة انه لا احد يعرف على اي شيء بنى السيد العقيد هذا الراي، ولماذا وكيف، ولم يكن هو شخصيا متوفرا للرد على هذه الاسئلة، لانه لن يتنازل للامساك بسماعة الهاتف ومناقشة المفتي. وعمت دار الافتاء حالة من الغضب، وكان اكثر الناس غضبا الشيخ محمود صبحي عضو مجلس الافتاء، الذي اصر على ان موقف دار الافتاء هو الموقف المتسق مع الحقيقة التي تقول ان غدا هو شهر الصيام، وهو ما يجب ان تذيعة الاذاعة، وما يبلغه المفتي الى الناس، ولكن الاذاعة ليست جهازا حرا، يستجيب لما تريده دار الافتاء ولا تنقل الا ما يريد صاحب السلطة العليا، ولم يحصل احتفال ذلك العام ولم تنقل الاذاعة اي خطاب لان الشيخ المفتي رفض ان يقول غير ما وصلت اليه دار الافتاء من نتائج، وتم اخبار الناس عن طريق نشرة الاخبار ان غدا هو المتمم لشهر شوال، كما يريد الحاكم.
وسمع الناس الشيخ الطاهر الزاوي، ينتهز مناسبات اخرى يعارض فيها مصادرة املاك الناس ونهب ارزاقهم والسطو على اموالهم تحت ذريعة التأميم، وحصل شقاق بينه وبين السلطة العسكرية التي الغت دار الافتاء، وبقى الشيخ ملازما داره حتى لاقى وجه ربه بعد ذلك بعدة اعوام.
وتقتضى دواعي الانصان ان اقول بان النظام العسكري، نظر في ايامه الاولى باكبار واجلال الى مواقف الشيخ الطاهر، المعارضة للنظام الملكي، وكافأه بان اصدر قرارا بتعيينه مفتيا للديار الليبي، ومنحه بيتا فخما في احد احياء طرابلس الراقية، حي بن عاشور، لكن ذلك لم يفلح في ان يجعل الشيخ الذي كان قد بلغ الثمانين من عمره، ان يحيد عن مبادئه في الجهر بقول الحق ومعارضة ما يراه مجافيا للشرع والحكم الرشيد، او الاستسلام في خنوع لاوامر حاكم عسكري قفز من ادنى رتبة في السلم العسكري وهي رتبة ملازم ثاني، الى الحاكم المطلق للدولة الليبية.
اما قصة معارضته للملك السنوسي فهو قصة معروفة لمتابعي الشأن السياسي الليبي، وساتناولها هنا بمنتهى الاختصار، اذ كان شيخنا الجليل جزءا من حركة الجهاد الليبي منذ بدايتها، وبعد حضوره ومشاركته في معارك الجهاد الاولى، سافر الى التحاق بالازهر وعاد لتلبية حاجة الوطن عام 1919، للمساهمة في الحراك السياسي الذي ادى الى قيام الجمهورية الطرابلسية وانشاءحزب الاصلاح الوطني، وكان احد اعضاء الوفد الذي ذهب للقاء الامير ادريس السنوسي في اجدابيا لمبايعته اميرا على كل البلاد، الا ان الزحف النازي على الحكم في ايطاليا قلب الموازين، وادى الى انهيار كل فرص المصالحة او الهدنة، واستانف الشيخ دراسته في الازهر عائدا الى مصر لاقامة استمرت 43 عاما، مختلفا مع الامير السنوسي في سياساته، مكبرا حركة الجهاد التي كان لصمود وصلابة القائد الميداني عمر المختار اكبر الاثر في استمرارها، وكتب بعد استشهاد المختار كتابه الذي اسماه باسم الشيخ الشهيد، انصف فيه عمر المختار ونحى باللائمة على الادريس السنوسي، الى حد كبير، اعتبر الكثيرون انه يتضمن شيئا من التجني على الامير، وازداد الخلاف حدة مع ى التحالفات التي عقدها الامير مع البريطانيين، وجيشهم المرابط في مصر، وكان ماخذ المعارضين لسياساته وبينهم الشيخ الطاهر الزاوي، انه يدخل بليبيا الحرب لصالحهم دون تعهد رسمي بمنح ليبيا حريتها في حالة انتصار الحلفاء، وكان الملك قد اكتفى بوعود شفهية، وقام بناء على هذه الوعود بتأسيس الجيش السنوسي الذي دخل الحرب لصالح البريطانيين وحلفائهم،وليس هنا محل الحكم على الطرف المصيب او المخطيء، المهم ان خصومة كبيرة حصلت بين الشيخ الطاهر والامير السنوسي وصلت الى المحاكم والقضاء المصري، وفي عام 67، وقد وصل الشيخ الطاهر الى مرحلة متقدمة من العمر هي 77 عاما، ارسل التماسا الى الملك ادريس، يطلب العودة الى بلاده، فوافق الملك على التماسه وعاد معززا مكرما الى اهله ووظنه، وقبل انتهاء العام الثالث لوجوده في ليبيا حصل الانقلاب.
ملحق بتصانيف الشيخ الطاهر الزاوي واثاره الادبية والتاريخية والفقهية والسياسية
• مؤلفاته التاريخية
1- عمر المختار، القاهرة (د. ت) (أتَّم تأليفه سنة 1932) وصدرت طبعته الأولى باسم مستعار (أحمد محمود).
2- جهاد الأبطال في طرابلس الغرب، القاهرة 1950.
3- تاريخ الفتح العربي لليبيا، القاهرة 1954.
4- أعلام ليبيا، طرابلس 1961.
5- معجم البلدان الليبية، طرابلس 1968..
6- ولاة طرابلس من بداية الفتح العربي إلى نهاية العهد التركي، بيروت 1970.
7- جهاد الليبيين في ديار الهجرة (1343 – 1372 هـ / 1924 – 1952) طرابلس 1976.
• تحقيق النصوص والكتب
1- التذكار فيمن ملك طرابلس ومن كان بها من الأخيار لابن غلبون، القاهر 1349 هـ(1930).
2- الجزء الثاني من : النهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب.
• الوثائق السياسية
1- نبذة عن أعمال إيطاليا في طرابلس الغرب، القاهرة (د. ت) صدر باسم مستعار (الشيخ عبد الحميد محمود).
2- تقرير بشأن القضية الطرابلسية وما يتصل بها من أعمال الإنجليز في طرابلس : ترفعه اللجنة الطرابلسية بالقاهرة إلى جامعة الدول العربية والهيئات الإسلامية، اشترك في إعداده مع بقية أعضاء الهيئة التنفيذية للجنة القاهرة: اللجنة الطرابلسية 1946. (ضمه إلى كتابه: جهاد الليبيين في ديار الهجرة).
3- الكتاب الأبيض في وحدة طرابلس وبرقة، القاهرة 1949. صدر باسم اللجنة الطرابلسية بالقاهرة، وهو مجموعة نصوص تتصل بحلقة من حلقات القضية الليبية، وهي الوحدة بين برقة وطرابلس (ضمه إلى كتابه: جهاد الليبيين في ديار الهجرة).
• اللغة والأدب
1- ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنيروأساس البلاغة، القاهرة 1959.
2- مختار القاموس : مرتب على طريقة مختار الصحاح والمصباح المنير، القاهرة 1964.
3- الكشكول، تأليف بهاء الدين العاملى، القاهرة 1961.
4- النهاية في غريب الحديث والأثر، تأليف أبي السعادات مجد الدين المبارك ابن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري، تحقيق الزاوي وآخرين، القاهرة 1963 (5 أجزاء).
من الأدب الليبى: ديوان البهلول، القاهرة 1966.
5- مثلثات قطرب، نظم الأستاذ إبراهيم الأزهرى، بيروت 1984.
6- منظومة الفروخى في الكلمات التي تنطق بالظاء والضاد، بيروت 19840
7- الدرر المبثثة في الغرر المثلثة للفيروز آبادى، الدار العربية للكتاب 19870
• الفقه
1- مجموعة فتاوى، بيروت 1973.
2- تحقيق مختصر خليل، للشيخ خليل بن إسحاق المالكي، القاهرة (د.ت).
3- الضوء المنير المقتبس في مذهب الإمام مالك بن أنس، تأليف محمد الفطيسي، القاهرة – 1966.
4- محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
___________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل