مصطفى السعيطي
من أشهر الكتاتيب في ستينيات اجدابيا كتّاب (الاسياد) .. وهو اسم كان يُطلقه الناس على عائلة المرحوم أحمد بن إدريس ابن عم الملك ، وقد منحته الدولة الليبية آنذاك منزلاً من المنازل التي أمر الحاكم العسكري الجنرال ماليتي ببنائها لكبار موظفي الدولة الإيطالية بالمدينة سنة 1926م .. عندما عهدت السلطات الإيطالية للمقاول الإيطالي (بيتشي) ببناء المتصرفية وإقامة بيوت فارهة بجوارها لكبار الموظفين .. وظلت هذه الأبنية كما هي بالرغم من تهاطل دانات المدافع وقذائف الطيارات خلال الحرب العالمية الثانية ، عندما كانت اجدابيا مسرحاً لحرب ضروس قامت بين قوات المحور والحلفاء ، فتقشرتْ كالقوقعة .. وحين آلت الأمور لقوات الحلفاء وطرد القوات الإيطالية والألمانية منها ، استخدم الحاكم العسكري الإنجليزي ذات المبنى وما جاوره من فيللات لكبار مساعديه .. حتى إعلان الدولة الليبية سنة 1951م.. وكان البيت الملاصق للمتصرفية من نصيب السيد أحمد بن إدريس الذي عاش فيه هو وعائلته الكبيرة وأتباعه حتى قبيل انتقاله إلى بنغازي ليلقى ربه هناك .. وكان آباؤنا يقذفون بنا كل صيف لكتّاب الاسياد لسببين لا ثالث لهما .. أولهما هو تعلّمُ شيء من كتاب الله ، وثانيهما (وهو أيضاً سبب وجيه ) هو تخلصُ أهلنا من مشاكلنا في الشارع أو البيت .. وكانت الدراسة فيه على فترتين ، صباحية ومسائية ، وهي دراسة لا تكلف الكثير .. لا فصول ولا مقاعد ولا مناهج محددة ولا كراسات وما يتبعها ، بل إن الأمر لا يتعدى لوحاً لا يزيد حجمه عن 40×20 سم وقطعة قصب مشقوقة قطرياً وعلبة (من أي نوع) مملوءة حبر محلي وقطعة صوف مغمورة بالعلبة .. وكان الله يبقى الله !! .. والشيء الوحيد الذي نكتشفه منذ الوهلة الأولى حين ولوجنا الكتّاب هو نوع سوط الفقيه وطوله ويد الفقيه التي تحمله وشخصية الفقيه الذي يحفظ وجوه تلاميذه كما يحفظ كتاب الله .. وهو أيضاً يستطيع من نظرة خاطفة للتلميذ أمامه أن يعرف نوعية هذا التلميذ ومقدار شقاوته ومقدرته على الحفظ والتعلّم !.. ولعل أول ما يصادفك عند دخولك كتّاب الاسياد هو تلك الألواح المرصوصة في مواجهة الشمس مطلية (بالطفلة) ينتظرها أصحابها لتجف تحت وهج الشمس كي يبدأوا الكتابة عليها من جديد .. وأجمل كلمة نسمعها من الفقيه حين نسأله : ” نمحى يا سيدي ؟ .. فيقول لك : نعم .. وهذه الـ نعم يسبقها عرض ما في رأسك الصغير من قرآن على الفقيه ، فتدير وجهة اللوح التي كتبت عليها سورتك أو آيات السورة ناحية الفقيه وتعرضها عليه يوم التسميع (وهو يوم عسير على غير الحافظين غير يسير !).. والعجيب أن الفقيه بالرغم من الصخب حوله وتنوع القراء واختلاف ما يقرؤون لكنه لا يتغاضى أبداً أبداً عن خطأ صغير في الآية التي تسمّعها عليه .. ولا يسمح لك برفع منصوب أو جر فاعل أو نصب مبتدأ .. فهذه من أكبر مهامه آنذاك .. ولا يتورع في إعادة القراءة مرة ومرة حتى تنطق الكلمة صحيحة معافاةً من أي عيب .. وقد كان شيخنا الذي التقطنا الحبَّ من يديه الناعمتين هو الفقيه (السنوسي الحبيب).. رحمه الله الذي تجاوز السبعين من عمره ، لكنه لا يسمح لك بتجاوز أي خطأ أو ( تكسير) لأي آية من آيات الله حتى لو تطلب الأمر ألا تمحو لوحك يومها .. وبالرغم من كبر سنه إلا أنه لا يعفيك من العقاب والفلقة مهما كان الأمر .. وإن استعصى عليه أي شقي استعان بأقوى طالبين في المجموعة ليربطا لك رجليك بالفلقة ويتولى بعدها ضربك بسوطه الذي كان يقول عنه أهلنا أنه من الجنة .. (سوط الفقي جنة)!!.. ولا أعتقد أن مثل هذه السياط ذُكرت في الجنة بأي نوع .. لكن هذا الأمر رسخ في رؤوسنا الصغيرة ردحاً من الزمن .. (ولعل بعض مدرسي هذا الزمن السيء ورثوا هذه العادة من فقهاء الكتاتيب بالرغم من الفارق الكبير جداً بينهم ! .. فاستبدلوها بالعصي سيئة المنظر والذكر) !!..وخارج الكتّاب يتحول الفقيه إلى شخص آخر يحمل في ثنايا جبته الحلوى التي يوزعها على كل من يعترض طريقه من الصبيان الذين يتقاطرون للسلام عليه طمعاً في الحلوى طبعاً .. لكنّي لا أستطيع أن أتجاوز مشهداً ظل محفوراً بودّ في الذاكرة على مدى السنين .. وهو وجود بعض الأفارقة القادمين من منطقة السودان الأوسط مثل النيجر وتشاد والسودان حيث يكتظ بهم منزل السيد أحمد .. فتراهم فرادى وجماعات يرتدون أزيائهم المختلفة ، وتتطاير رطاناتهم فيما بينهم على اختلاف بلدانهم التي أتوا منها .. ولعل تنوع هؤلاء الناس هو ارتباطهم الروحي بالحركة السنوسية حين كانت تتقدم الصفوف في تشاد والنيجر وكانم وكوار ودارفور وهي تتصدى للمد التنصيري الذي تزعمته فرنسا ومن بعدها بريطانيا (وهذا الدور العظيم للسنوسيين لم يوغل فيه كتّاب التاريخ بالتفصيل ، إنصافاً للسيد محمد بن علي السنوسي وابنه من بعده السيد المهدي ، حتى إعلان السيد أحمد الشريف الجهاد ضد المستعمر النصراني الإيطالي ! ) .. وحين كنت أنتظر لوحي ليجف كنت أقترب أكثر من بعض هؤلاء الوافدين أسترق السمع لموسيقاهم البدائية على آلات بسيطة تشبه العود إلى حد كبير .. وهي عبارة عن قدح كبير مُحاطٍ بجلد ، وشُدّ عليه قضيب طويل ورُبطتْ عليه أوتار .. وهذه الآلات تصدر نغمات دافئة على السلم الخماسي المنتشر في السودان وكل أفريقيا .. وقد يسمح لي أحدهم بلمس آلته أو أتجرأ بتمرير أصابعي على أوتارها .. ولست أدري كيف يستطيع كل هؤلاء الوافدين العيش في هذه المنزل الكبير .. وكنا نرى تحلق هؤلاء الوافدين حول موائد الطعام الذي يأتي من داخل البيت .. هذا البيت الذي لم نتمكن مرة واحدة من دخوله أو التعرف على ساكنيه وأهله رغم الزمن الذي قضيناه بين جنباته نقرأ كتاب الله .. ولم نكن نرى السيد الكبير إلا يوم الجمعة في جامع الصمعة حين كان يخطب الجمعة فيه .. وكان يلفت أعيننا الخف (المِستْ) الذي كان يرتديه وهو يتقدم نحو المنبر ، وكنا نستغرب دخوله للمسجد بحذائه ، ولم نكن ندري أنها رخصة منحه إياها المشرع الحكيم ، وهات لعقولنا أن تستوعب ذلك !! التفسير الوحيد الذي دار في أفكارنا آنئذ هو أنه من الأسرة الحاكمة وحذاؤه ليس كحذاء الآخرين !!.. سقى الله تلك الأيام .. وجازى الله عنا كل هؤلاء الرائعين الذين كانوا يمنحوننا بهجة المعرفة .. ليس هذا فقط.. بل كانوا يمنحوننا حب الحياة وحب الوطن وكل ما يتصل به .