طيوب المراجعات

إطلالة على كتاب “إطلاق طاقات الحياة” للدكتور مصطفى حجازي (1)

هذا كتاب يتمحور حول رؤية إبداعية، ودعوة إلى الحياة بأسمى وأصوب معانيها، ويمكن لنا أن نرى فيه من منطلق كونه… قراءات في علم النفس الإيجابي… تعريفا للقارئ العربي بمنحى في علم النفس جديد، يرتكز على الإيمان بالحياة وبالإنسان، وإسهاما نوعيا في جهود التنوير والتنمية لمجتمعاتنا العربية الراسفة في ظلاميات الجهل وحبائل التخلف، ويجئ هذا الكتاب إضافة إلى إسهامات الدكتور حجازي في إطار تلك الجهود والتي جسدتها مؤلفاته السابقة… التخلف الإجتماعي / سيكولوجية الانسان المقهور… و… الإنسان المهدور… و… علم النفس والعولمة… و… الصحة النفسية / منظور تكاملي… و… حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوات الأصولية… ومن هنا تراأت أهميته التي دعت إلى هذه الإطلالة على محتواه، دون إدعاء إيفاءها بحقه، وحسبها أن تقول: هذا كتاب قيم لن يذهب الوقت الذي يكرس له هدرا…

غلاف كتاب_إطلاق طاقات الحياة

يضم كتاب إطلاق الحياة بين دفتيه مقدمة وثمانية فصول… يؤكد الدكتور حجازي في المقدمة على أهمية المقاربة السيكولوجية لمشكلة التخلف، مذكرا في السياق بمساهمته في ذلك من خلال كتابيه… الإنسان المقهور… و… الإنسان المهدور… دون أن يغفل الإشارة إلى أن تركيز الكتابين آنفي الذكر على تشخيص معوقات تنمية الإنسان والمجتمع العربيين، وعلى مخلفاتها وآثارها على النفس العربية في حاجة إلى تكملة، وذلك من خلال تغيير المنظور والرؤية والإنتقال من التشخيص المرضي إلى التركيز على الإمكانات الثاوية في النفس بمستوياتها الفردية والجماعية، والمعبرة عن… طاقات الحياة… الأساسية التي لا تموت مهما تعرضت للقمع والبتر والهدر، بل تظل دوما في حالة انتظار لأية فرصة تتاح لها للتعبير عن ذاتها وتحقيقها، إذ أنها التعبير والتحقيق الفعلي لقانون الحياة بالذات…

الفصل الأول:

ممهدا للفصل الأول من كتابه يعرفنا المؤلف بعلم النفس الإيجابي من حيث تقديمه لمنظور جديد في التعاطي مع قضايا الإنسان النفسية والوجودية يركز على دراسة أوجه النماء والإقتدار والفضائل التي تمكن الأفراد والجماعات من أن تنطلق وتحقق إمكاناتها، ليشكل بذلك الإتجاه الموازن والموازي لاتجاهات علم النفس العيادي الذي يركز على الأسباب المرضية، وهو يأتي بمثابة الرد على التركيز المنتظم لعلم النفس على المرض العقلي والاضطرابات النفسية، ثم يحدثنا عن الإنطلاقات الاولى في تسعينيات القرن الماضي على يدي… مارثن سليمان… مع إضاءات على سيرة سليمان العملية من علم النفس الإنساني إلى العلاج المعرفي ثم علم النفس الإيجابي، ويشير إلى أن مقومات علم النفس الإيجابي كانت مهيأة عمليا من خلال أبحاث… ماسلو وروجرز… علم النفس الإنساني… وحركة العلاج المعرفي والعلاج العقلاني، أما عن جذور علم النفس الإيجابي فمتجذرة مثلما يخبرنا الدكتور حجازي في ذلك الإتجاه في الفلسفة اليونانية الذي يربط السعادة الإنسانية بالفضيلة، وإلى نظرية أرسطو في السعادة والحياة الطيبة، وكذلك في إسهامات… يونغ وآدلر…

التفكير الإيجابي:

إنه أهم مرتكزات علم النفس الإيجابي، وهو لا يعني التغاضي عن سلبيات الحياة الفعلية أو تجاهلها بحيث يتحول إلى تهويم خيالي، بل انه التفكير الذي يتناول السلبيات إلى جانب الإيجابيات التي يطرحها موقف حياتي ما ليوازن بينها، ويتركز عمله على تعظيم الإيجابيات وتفعيلها بمقابل تقليص حدود السلبيات وتجريدها مما قد يحيطها من تضخيم، وهو ينبني أساسا على نظرة إيجابية إلى الذات، ينقلنا الطرح بعد ذلك إلى… حسن  الحال والإنفعالات الإيجابية… الذي هو كما يخبرنا الدكتور حجازي، وليد تزاوج التفكير الإيجابي والعواطف أو المشاعر الإيجابية، ويتجسد في الصحة النفسية، ليخلص بنا الفصل الأول من ثم إلىب بناء الاقتدار كأحد الأهداف الرئيسية لعلم النفس الإيجابي، حيث أن الإمساك بزمام المصير وصناعته يحصل على مختلف أصعدة الوجود الإنساني (الاقتدار النفسي) المتمثل في الصحة النفسية ومتانة الشخصية (الاقتدار المعرفي) المتمثل في القدرات الذهنية القادرة على التعامل مع قضايا الحياة بإيجابية وفاعلية، والتي يجسد التفكير الإيجابي أحد مظاهرها (الاقتدار المهني) في مجالات الاختصاص وامتلاك الفاعلية المهنية (الاقتدار الاجتماعي) المتمثل في المهارات الاجتماعية والقيادة والمشاركة والإنتماء (المناعة الاخلاقية) بإزاء إغراءات الانحراف والفساد، أو هو كما يقول مؤلف الكتاب باختصار، التفتح الإنساني الفاعل والكيان الناشط على جميع أصعدة الحياة…

الفصل الثاني:

في التمهيد للفصل الثاني من… إطلاق طاقات الحياة… يؤكد الدكتور مصطفى حجازي على أهداف علم النفس الإيجابي التي تصب في قناة تحقيق السعادة وحسن الحال الوجودي للإنسان،   ودون أن يفوته تذكيرنا بأنفسنا من خلال ما يعانيه إنسان مجتمعاتنا وما يلقاه  من مثبطات ومعوقات تحول بينه وبين ذلك الهدف، كما لم تفته الإشارة الى الأنظمة الديكتاتورية والقمعية وما غرسته وتغرسه في ذلك الانسان من عجز متعلم ( بتشديد وفتح اللام )، ليخلص إلى ضرورة تحرير الطاقات الانسانية من قمقمتها وطمسها، كشرط مبدئي في ذلك المسعى، وتلك هي مهمة علم النفس الإيجابي…

العجز المتعلم:

ويجئ العجز المتعلم عن آلية استبطان تتسبب بها ممارسات القهر والهدر، حيث يستبطن الانسان ما يوقع عليه من تبخيس وإهانة من الأنظمة التسلطية أو الأفكار الاجتماعية أو الايديولوجيا القاهرة القمعية، لتصير جزءا من تكوينه النفسي، تضفي عليه مسحة من السوداوية وألعجز وتغرقه في البؤس والتشاؤم، لتنتهي به الى التبلد واللامبالاة بالمصير الشخصي والجماعي، وإلى جانب السلبية التي تجسد كل ذلك يضيف المؤلف، أن العجز المتعلم يورث الناس كآبة المزاج ومشاعر انعدام القيمة وفقدان تقدير الذات، واجتياح العدوانية وبعض خواطر الانتحار، كما أنه يؤدي الى كثير من ردود الفعل العدوانية والتأزم الانفعالي، والى مشكلات في الإنتاجية في العمل والدراسة والحياة، والى بروز المواقف الهروبية والعديد من المشكلات الصحية، كما لا يقتصر العجز المتعلم عَل الأفراد بل هو ينتشر بين الجماعات والمجتمعات حيث تشيع مظاهر فقدان السيطرة والاستسلام بين الجماعات العاجزة التي لاحول لها ولا طول، سوى اجترار المعاناة والاستمتاع بالالم والانغماس في العذابات وانتظار المخلص (بتشديد وكسر اللام) أو البطل المنقذ أو العناية الإلهية أو الحظ والنصيب، وذلك ما تستهدفه أنظمة القهر كي يستتب لها زمام السلطان…

تلك بعض مفاعيل العجز المتعلم الذي اذا طال أمده وسدت  آفاق الخروج منه يمكن أن يتحول الى عجز داخلي تترسخ معه هوية الفشل، حيث تتعطل كل الطاقات الحية ومبادرات تغيير المصير الذي يتخذ طابع… المقدر والمكتوب… وبدلا من توجيه العدوانية الى قوى القهر والقمع  ترتد في شكل تبخيس وادانة للذات الفردية والجماعية، وتتم مجابهة العجز المتعلم بصورة ناجعة  تأسيسا على حقيقة أن كل تعلم قابل لإعادة تعلم أو لتعلم مضاد في الاتجاه، ولأن العجز المفروض ليس قدرا محتوما، وطمس الطاقات الحية أو تعطيلها لا يعني غيابها او زوالها بل هي تظل حاضرة في وضعية كمون، فطاقات الحياة الخلاقة الوثابة تأبى الانقراض والزوال، ولو انها استكانت ودخلت في مرحلة سبات، تعرضت للإعاقة والتعطيل، فالمصير يصنع بواسطة تفعيل الطاقات الحية المتوثبة للنماء ولا يفرض بمثابة قدر محتوم…

مجابهة العجز المتعلم والتخلص منه:

وتلك مهمة تتأسس لتكون مجدية على الوعي بذلك العجز المفروض ذاتيا عن طريق التمثل والاجتياف والتحرر منه، ذلك أن التحرر من مشاعر العجز الذاتي هو ركيزة التحرر من التعطيل والقيود المفروضة من خارج الذات، فالقيود الذاتية هي التي ترسخ القيود الخارجية التي من أجل مجابهتها والتحرر منها لابد من الوعي بالافتراضات التي تتحكم بالإدراك والوعي وتوجه التفكير مولدة الانفعالات السلبية والرؤى المعوقة للطاقات الحية الذاتية وهو ما يطلق عليه  إلليس… الألعاب الذاتية البائسة… المبخسة للذات وإمكاناتها والمعطلة لنماءها، والتي تدفع الى العطالة والوقوع ضحية للصراعات الذاتية، وتدورالالعاب الذاتية البائسة والتي يقع المرء أسيرا لها حول أفكار مغلوطة عن الذات وإمكاناتها، وحول احكام قطعية جامدة… إما الكل أو لا شئ… وحول تعميمات جزئية او سلوكات معممة على كل الوجود، وكلها تزيد من وطأة القيود الذاتية على الامكانات والطاقات، كما تطمس إمكانية رؤية الفرص والاستفادة منها…

ويلتقي مفهوم… الألعاب الذاتية البائسة… لدى  إلليس مع مفهوم سليغمان عن … أسلوب التفسير المتشائم… ليفسرا وضعية الاكتئاب والعطالة، إذ يتحكم بمن وقع ضحية للعجز المتعلم هذا الأسلوب المتشائم في التفسير وفي التعامل مع الوقائع والوضعيات والسلوكيات من خلال ثالوث يحاصره ويكرس استسلامه، وحول ذلك يقول علم النفس الإيجابي : ان على من وقع ضحية للعجز المتعلم ألا يستسلم لليأس ويقعد ملوما محسورا، وإنما يتعين عليه أن يعي العابه الذاتية البائسة ويحاول التحرر منها ومن تفسيره المتشائم لذاته وللدنيا، وان يعي إمكانيات مقاومته الذاتية لذلك، كما انه اضافة الى إمكانيات المقاومة الذاتية هذه والتي  تتوفر عليها النفس الانسانية، لابد من جهد مواز للوعي بأوجه القدرة والامكانيات والطاقات والفرص وإبرازها وتعزيزها، والامر كله يتلخص في التنقيب عن طاقات الحياة واسترجاعها لدى الفرد والجماعة والمجتمع، وهو ما يشكل واحدة من أهم أولويات علم النفس الإيجابي…

مقالات ذات علاقة

عبداللطيف حويل … عميدُ الطرب

يونس شعبان الفنادي

رواية زنزانــة لـ”حمد هلال”

المشرف العام

العدد الثالث من تاريخ ليبيا

المشرف العام

اترك تعليق