(ذكرياتُ سفيرٍ ليبيٍّ في أُوروبا) هذا هو العنوان الذي اختاره السفير المتقاعد الأستاذ الدكتور قدري مفتاح الأطرش ليسرد علينا فيه بعض المواقف والذكريات الدبلوماسية، والأحداث السياسية التي شارك فيها أو شهدها إبان عمله بالخارجية الليبية سفيراً أو بدرجة أدنى خلال عقدي الستينيات والسبعينيات لدى فرنسا وتشيكوسلوفاكيا وإيطالياً ودول اتحاد البنيولكس (بلجيكا، هولندا، لكسمبورغ) أو مشاركاً في مؤتمرات ولقاءات دولية بعدد من الدول الأوروبية وبعض الملتقيات على الساحة العربية والافريقية.
ولم يقتصر هذا الكتاب على سرد الذكريات الشخصية لمعالي السفير المتقاعد فحسب، بل احتوى مواضيع فكرية أخرى تتعلق بتاريخ دول حوض البحر الأبيض المتوسط وما تعرضت له من مواجهات وصراعات لعل أبرزها المد الإسلامي في المنطقة وإسهامه في النهضة الأوروبية الحديثة، ثم التوسع العثماني أثناء حكم الامبراطورية العثمانية وما تبعه من حروب وتقسيمات دولية.
ومعالي السفير قدري مفتاح الأطرش من مواليد سنة 1931م بمدينة درنة بالشرق الليبي متحصل على درجة الدكتوراة سنة 1957م من جامعة لوفان بالعاصمة البلجيكية “بروكسل”، وهو أول شخصية عريبة تنال شهادة الدكتوراه في مجال القانون الدولي على مستوى الوطن العربي في ذلك الوقت البعيد. وقد أصدر الدكتور قدري الأطرش عدداً من الكتب والمؤلفات في بعض المواضيع القانونية والسياسية والتاريخية والثقافية وغيرها. وعلى الصعيد الوظيفي فهو يعد من الليبيين القلائل الذين عملوا بهيئة الأمم المتحدة المتحدة ودبلوماسياً خلال عقدي الستينيات والسبعينيات الماضيين.
وقد قسّم المؤلف الدبلوماسي كتابه (ذكرياتُ سفيرٍ ليبيٍّ في أوروبا) إلى قسمين، الأول يتضمن خمسة فصول كالتالي:
الفصل الأول: مواقف على الساحة الفرنسية، ويتفرع إلى العناوين التالية:
العلاقات الفرنسية العربية في عهد الجنرال ديجول، إنسانية السفير (علي بيّ الجربي) عميد السلك الدبلوماسي، رحيل الجنرال ديجول أفقد العرب صديقاً دولياً وفياً، قصر الأليزيه وحوار باريس عام 1973م، تقدير ليبيا لأعلام الفكر الإنساني العربي، محاولة إنقاذ الرهائن المحتجزين في مبنى السفارة السعودية في باريس، احتجاز السفير الليبي كرهينة في مكتب الجامعة العربية بباريس، عملية اغتيال المناضل محمود الهمشري ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، محطة بئر حكيم في العاصمة الفرنسية.
الفصل الثاني: مواقف على ساحة البنيلوكس، ويتفرع إلى العناوين التالية:
أولاً: مواقف في نطاق المملكة البلجيكية، واشتمل على (الملك “بو دوان” يشيد بالسفير الليبي السابق) و(الرئيس “موبوتو سي سيكو” غير قادر على تلبية الدعوة لزيارة ليبيا).
ثانياً: مواقف في نطاق المملكة الهولندية، واشتمل على (ملكة الأراضي المنخفضة تعتز بزراعة الزهور) و(مسئول كبير يعثر على ابنته المفقودة في معابد التبت).
الفصل الثالث: مواقف على الساحة الإيطالية، ويتفرع إلى العنوانين التاليين:
1 – الاستعدادات في مطار روما لاستقبال الطائرة الليبية في عملية هبوط خطرة.
2 – جهود ليبيا للافراج عن مطران القدس.
الفصل الرابع: مواقف على الساحة التشيكية، ويتفرع إلى العناوين التالية:
1 – ترحيب ليبيا بالتحولات الاصلاحية في تشيكوسلوفاكيا (أبريل 1968م).
2 – استنكار ليبيا لغزو قوات حلف وارسو لتشيكوسلوفاكيا في أغسطس 1968م (خريف براغ).
3 – المقاومة السلمية لقوات حلف وارسو الغازية.
الفصل الخامس: مواقف على الساحة الافريقية، ويتفرع إلى العناوين التالية:
1 – إدانة قادة أفريقيا في مؤتمر “أكرا” للتجربة النووية الفرنسية الأولى عام 1960م وبحث مستقبل القارة.
2 – الزعامات الوطنية العربية في مؤتمر قمة الرباط 1961 تقرر تصفية الاستعمار وتنادي بتأسيس منظمة وحدة إفريقية
3 – مؤتمر قمة الدار البيضاء عام 1974م من أهم المؤتمرات في تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
أما القسم الثاني فقد تضمن أربعة فصول تناول فيها عرض أفكاره وأراءه حول عدة مواضيع تاريخية وجاءت كالتالي:
أولاً: أثر الحضارة العربية على النهضة الأوروبية، واشتمل على المحاور التالية: أساليب نظم الحكم في الدولة العربية الإسلامية، مخاطر الهجمات التي تعرضت لها الدولة العربية الإسلامية، أثر الحضارة العربية في النهضة الأوروبية الحديثة.
ثانياً: أوضاع الوطن العربي أثناء الحكم العثماني، واشتمل على المحاور التالية: الأوضاع الحضارية في الوطن العربي قبل وصول الحكم العثماني، تردي الأوضاع العامة في الوطن العربي أثناء الحكم العثماني، تخلف المنطقة العربية أثناء الحكم العثماني عن مواكبة تحولات العصر الحديث.
ثالثاً: وقائع التاريخ المعاصر، واشتمل على المحاور التالية: بوادر الحرب العالمية الأولى وأسبابها وتسوياتها، بوادر الحرب العالمية الثانية وتسوياتها وتداعياتها، مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، تحول النظام الدولي إلى أحادية القطب الأمريكي بعد اختفاء القطب السوفياتي.
رابعاً: مراحل الأوضاع السياسية في ليبيا، واشتمل على المحاور التالية: وضع ليبيا من بداية الغزو الايطالي وحتى الحرب العالمية الثانية 1945م، مرحلة توتر وتأزم العلاقات بين ليبيا وبعض الدول العربية، مرحلة تحسن واستئناف العلاقات مع بعض الدول العربية.
ويقول الدكتور قدري الأطرش في مقدمة كتابه الصادر سنة 2012م عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني (يقتصر هذا الحديث على طرح بعض المواقف والوقائع ذات الطبيعة الإنسانية والقيمة الثقافية التي تعرضتُ لها أثناء أداء عملي سفيراً لبلادي لدى مجموعة من الدول الأوروبية) ويضيف (هذه المواقف والوقائع التي واجهتها أثناء مهماتي سفيراً لبلادي في بعض الدول الأوروبية، أعرضها تباعاً كما حدثت على الساحة في كل دولة على حدة، وفي إطارها الزمني سواء كان في عهد الثورة أو العهد السابق لقيامها). ويختتم مقدمته بالقول (وفي جميع الأحوال فإن تلك الذكريات موضوع هذا الكتاب، لا تخرج عن كونها جزءاً من أدبيات العمل الدبلوماسي. وهي ذكريات راسخة في الذهن عن بعض المواقف الإنسانية التي تجسد مجموعة من التجارب الشخصية ذات القيمة الاجتماعية والثقافية، أعتقد أنها تنطوي على دروس مستفادة، ربما يسترشد بها كل من يرغب في خدمة بلاده في المجال الدبلوماسي بالشكل المناسب والصحيح).
مطالعة الكتاب الشيق أبرزت مدى حرص مؤلفه السفير المتقاعد على الوفاء لعميد السلك الدبلوماسي الراحل الأستاذ علي الجربي رحمه الله، ويظهر ذلك من خلال استذكار مواقف الراحل في الوسط السياسي داخل ليبيا وخارجها. كما يبرز الكتاب اعتزاز المؤلف بالكفاءات الوطنية الماهرة، والغيرة على الوطن والهوية الليبية المستوطنة في فكره ووجدانه وذلك من خلال تسليطه الضوء على عدد من الأحداث التي وقعت على الأرض الليبية وشهادات زعماء العالم حولها، وكذلك توثيق قصة محطة (بئر حكيم) إحدى محطات (مترو الأنفاق) بالعاصمة الفرنسية “باريس” في كتابه (ذكريات سفير ليبي في أوروبا) والتي يحكيها في الصفحة السادسة والستين كالتالي:
(تتوقف تلك القطارات السريعة عند العديد من المحطات المنتشرة في الميادين والشوارع الرئيسية، وتعرف بعض محطات الركوب بأسماء الميادين والشوارع التي تمر تحتها قطارات المترو، والبقية تحمل أسماء بعض المواقع التاريخية المهمة وأسماء بعض مشاهير الشخصيات التي تحرص الدول المتقدمة على تذكير الأجيال بدورها في التاريخ الوطني.
من المدهش أن إحدى محطات مترو باريس الشهير تعرف بمحطة “بئر حكيم” Station Bir Hakim وقد لاحظتُ عندما كنتُ أستعملُ ذلك المترو في الستينيات، أن غالبية الركاب الفرنسيين يجهلون أن “بئر حكيم” بلدة ليبية، ولا يعرفون لماذا سُميت تلك المحطة باسم بئر حكيم، في حين يعلمون جيداً أن محطة “واتر لو” Station Waterloo تحمل اسم المعركة الشهيرة التي هزم فيها نابليون عام 1815 أمام الجيوش البريطانية والنمساوية.
وبالنسبة لمعركة بئر حكيم، وحسب ما أعلم من اطلاعي في الماضي على مذكرات عسكرية قديمة، لا أتذكر بالتحديد إذا كانت “للجنرال ديجول” De Gaul أو “الجنرال لكلير” Le Clair تحدّث فيها عن أهمية معركة بئر حكيم وصمود الجنود الفرنسيين فيها أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وخلاصة المدونة العسكرية القديمة تفيد بأنه تحت ضغط تقدم الفيلق الألماني بقيادة الجنرال رومل، انسحبت القوات الانجليزية من برقة إلى داخل الحدود المصرية تاركة قوة عسكرية كبيرة في طبرق للاحتفاظ بموقعها الاستراتيجي ريثما تستطيع استعادة المبادرة في عملية هجوم مضاد).
ويضيف (دارت معركة بئر حكيم في يونيو 1942 في شكل عمليات قتالية في دوائر متداخلة لمدة ثلاثة أيام، في مركز دائرة القوات الفرنسية محاطة بقوات ألمانية تحاصرها أيضاً قوات بريطانية .. رأى قائد القوات الفرنسية خطر بقاء وحدته في مركز دائرة المعركة، فقرر اختراق الحصار من خلال حقول الألغام، بأقل الخسائر الممكنة.
لأسباب استراتيجية معقدة قرر رومل الانسحاب السريع إلى العقيلة فتمكنت القوات الفرنسية من الالتحاق بالقوات البريطانية التي استعادت مدينة طبرق، لذلك تعد معركة بئر حكيم في التاريخ العسكري الفرنسي معركة مهمة تجسّد صمود الجنود الفرنسيين ومقاومتهم.
قد يكون من المفيد لكل من يرغب في المزيد من المعلومات عن أهمية معركة بئر حكيم ودور معركة طبرق الكبرى في سياق المعارك الحاسمة في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) أن يراجع كتابي عن أحداث ومعارك الحرب العالمية الثانية على الأرض الليبية، للتعرف على مدى أهمية هاتين المعركتين بالنسبة للتاريخ العسكري الأوروبي وتحليلاته لاستراتيجيات الحرب العالمية الأخيرة).
وفي موقف أخر يتعلق بإحدى طائرات شركة الخطوط الجوية الليبية يقول الدكتور قدري الأطرش سفير ليبيا السابق في إيطاليا: (لا أتذكر كيف تم إبلاغي بالحضور فوراً إلى مطار روما عام “1978”، للوقوف على عملية الهبوط الاضطراري للطائرة الليبية التي عانت من خلل فني خطير. وكانت تحلق في الأجواء الايطالية انتظاراً للانتهاء من استعدادات لإعداد المهبط الخاص بحالات الطواريء.) ويضيف بعد أن (تمت عملية الهبوط الاضطراري في سلام ونجا ركاب الطائرة والطائرة ذاتها… طبعاً شاركتهم الفرحة والابتهاج، وهنأتهم على نجاحهم وشكرتهم على جهودهم .. ]و[ توجهتُ من برج المراقبة إلى تفقد الطائرة والركاب الذين تعالت زغاريدهم وهتافاتهم بشجاعة وبراعة قائد الطائرة وهو الكابتن طيار “علي الزرقة”، ومساعده، عندما صافحتهم وهنأتهم على شجاعتهم لاحظتُ أنهم جميعاً دون الثلاثين من العمر، يتمتعون برباطة الجأش والشجاعة واللياقة والأناقة المميزة التي تجعلنا نتفخر ونعتز بهم. وقد أبلغتهم بأنهم في ضيافة السفارة لمدة شهر كامل، كما تقتضي بذلك تعليمات الطيران حسب ما أبلغني رئيس المراقبين.)
ومن الملاحظات التي سجلتها على الكتاب أنه يفتقد إلى صور فوتوغرافية أو نسخ من المستندات والوثائق الرسمية التي تعزز الأحداث والمواقف التي يتناولها معالي السفير المتقاعد، وكذلك مما لفت نظري واستغرابي هو أن المؤلف الدكتور قدري الأطرش قد ضمن كتابه بالصفحة رقم 173 نص الوعد الشهير الذي أعلنه وزير الخارجية البريطاني “آرثر جون بلفور” للحركة الصهيونية ونشره مكتوباً باللغة الفرنسية، وبلا شك فإن الوزير البريطاني لا يمكن أن يعلنه رسمياً بتلك اللغة التي أوردها المؤلف، لأن لغة الوزير البريطاني الرسمية هي الانجليزية والتي تصدر بها البيانات الرسمية لوزارة الخارجية في بريطانيا ومستعمراتها كافةً وبالتالي كان من الواجب – إن تطلب الأمر- إدراجه بلغته الرسمية الأم وليس بغيرها.
ورغم هذه الملاحظات الفنية البسيطة فإن كتاب (مذكرات سفير ليبي في أوروبا) يعد إثراء لتاريخ الدبلوماسية الليبية التي تفتقد الكثير من مثل هذه الكتب التي توثق جهود السفراء والدبلوماسيين الليبيين، وتعرّف بدورهم ونشاطهم في المحافل الدولية خلال توليهم مناصبهم الدبلوماسية خارج ليبيا، ولذلك فالشكر واجب وضروري لمؤلف الكتاب السفير المتقاعد الأستاذ قدري الأطرش على إصداره الكتاب الممتع، ولعل عمله هذا يحفز آخرين لمزيد الإصدارات التوثيقية المهمة.