يوسف القويري
إنه رجل اختصاص، رفيع المستوى، يتقيَّد تقيُّداً تامّاً بتخصُّصِه، ولا يخرج عن نِطاقه إلاّ نادراً صوب رِحاب المطالعة والتحصيل الإضافي.وهو يعكفُ ذ حتى في أوقات فراغه ذ على أدقّ شؤون ذلك التخصُّص، وقد زوَّدته خبرة التلقين والشرح ذ الذي مارسه على مَرّ السنين ذ بقوة ووفرة في المعارف، وأمدَّته أيضاً بنصاعة إيضاح وتحديد فائقين.لذا كان تلاميذه دَوْماً من أوائل الناجحين الذين قُيِّضَ لهم أنْ يُوجدوا حيث معلمهم الذي مكَّنهم من استيعاب مادة معيَّنة على خير وجه. والواقع أنّ النزعة الرأسِيَّة في التعمُّق المقترنة بعزلة اختصاص نسبية، أو الاستغراق فيه عَمّا سواه، لا تُعَدّ مَنْحَى فريداً في بابه، فمعظم أهل الاختصاص يجدون الالتفات إلى حقول أخرى من المعرفة يأتي على حساب الوقت الذي ينبغي ذ في تقديرهم ذ أنْ يمنحوه لمادة تخصُّصِهم وللمستجدات التي تطرأ عليه ولا تكفّ عن المراكمة الخلاّقة في حقل بعينه.
إلاّ أنّ أهل الاختصاص ليسوا جميعاً على المنوال السابق، فبعضهم يُوثر ألا يبقى سجين تخصُّصِه.وغالباً ما يلجأ إلى أقرب المجالات لتخصُّصِه، ثم بعدئذٍ يَتَشَعَّع مُنتهجاً خط الثقافة الأفقي العريض، و مُيَمِّماً جبهته نحو حقول معرفية شتّى، إلى درجة يكون فيها ذ بحكم السّعة والعُمق ذ صاحب اختصاصات أخرى متعدِّدة. والأمثلة على ذلك كثيرة، مِن تاريخ العالم، ومِن التاريخ الثقافي للمنطقة، فهناك : هربرت جورج ويلز، وجورج برناردشو، وألدوس هُوكسلي، و وِلْ ديورانت، وغيرهم من القُدماء والمعاصرين.ومِن المنطقة تجيء منتجات : سلامه موسى، ويعقوب صروف، وإسماعيل مظهر، وميخائيل نعيمة، وطه حسين، والدكتور لويس عوض، والدكاترة زكي مبارك كما كان يناديه أصدقاؤه.
ومن الميسور ذ في بعض الأحوال ذ العثور على متخصِّص في الاقتصاد والفلسفة “يحمل درجتيْ دكتوراه في هذين المجالين”على أرفع مستوى، وفي ذات الوقت مُتناولاً ذ غزير العطاء والدِّراية ذ لعلم الاجتماع والعلوم السياسية والأنثروبولوجيا والتاريخ العامّ.ويُسمى المؤلِف حينئذٍ بالمؤلِف الموسوعي دون أنْ يَعْنِي ذلك بالضرورة أنّه كاتب يشتغل بإصدار الموسوعات، فالمقصود اصطلاحا ذ بهذا التعبير هو صفة الشمول والدِّقة البالغتين.
واستطراداً لذلك، هنالك طرائف غير مُماثلة لِما سبق، لكنّها تدور في نفس الفلك والدَّلالة، مُفادها أنّ قِلَّة من الاختصاصيين عمدت إلى هجر اختصاصها كليّاً وتعاملت مع اختصاص آخر مختلف.وفي حالات وارِدة تركت اختصاصها من بداية الحياة العملية دون أنْ تشتغل به إطلاقاً.فثَمَّة مَنْ ترك اختصاصه في الطب أو الكيمياء أو الرياضيات العليا أو القانون أو الهندسة ثم اتجه إلى تخصُّصات ومجالات مُغايرة كالأدب والمسرح والسينما والموسيقا والسياسة والإدارة أو غير ذلك.
ولعل أبرز الأمثلة التي تؤكِّد هذا الموضوع هي : الدكتور يوسف إدريس والدكتور مصطفى محمود والدكتور سعيد عبده والأستاذ يوسف وهبي والممثل السوري الشهير الأستاذ “دريد لحّام” الذي اشتغل بالتدريس الجامعي ثم دَلَفَ مسروراً إلى السينما والتليفزيون حيث تنفّسَت مَلَكاتُه الفنية واستقطبت حولها ملايين المتفرجين.وهناك أيضاً من شاء أنْ يُبارح مجال تخصُّصِه ويسير على دَرب رجال الأعمال والمشروعات الاقتصادية مُحرزاً نجاحاً تلو آخر لأنّ ميوله العميقة وضغوط ظرف ما وبصيص الثراء، كلّ ذلك صَنَعَ أو وَضَعَ أمامه طريقاً مختلفاً. ويبدو أنّ المسألة ذ في آخر المطاف ذ مُرتَهنة أو يمكن أنْ تُعزَى إلى عامل مؤثِّر سائد هو الموهبة قبل أيّ مؤثّرات أخرى.فكلّ دافع قويّ يتضاءل في الحقيقة بجوار مِهْماز المَلَكَة أو الموهبة أو الميل الأصيل إلى اتجاه دراسي أو عملي أو هواية تنقلب احترافاً في الحياة.
والشاعر المصري المعروف خلال النصف الأول من القرن الماضي الدكتور أحمد زكي أبو شادي هجر كلّ شيء وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يُشَكِّل مِثالاً ساطعاً لسطوة الموهبة البنّاءة، فقد التحق في المهجر بالشعراء الرومانطيقيين الكبار:إيليا أبو ماضي وخليل مطران وجبران خليل جبران وغيرهم ممن جدَّدوا القصيدة العربية شكلاً ومضموناً.والمغزَى أنّه وَهَبَ الشعر والأدب عمره كاملاً ولم يَعُد مُهتما بالطب الذي تخصَّصَ فيه والشهادة العالية في علم الجراثيم بمرتبة الشرف التي نالها من الجامعات البريطانية. وبالطبع فإنّ سائر الناس الآخرين هم ذوو طُرُز عامة مختلفة من حيث الانسياق وقبول الأمر الواقع.ولا يَعْنِي ذلك بأيّ حال ترجيح التذبذب في المِهن والأعمال، فهذا في الظروف العادية يَنُمّ عن اضطراب في الملابسات العامة أو في تكوين الشخص ذاته المنطوي على قلق غير مفهوم البواعث. إنّ الموهبة كما أسلفنا هي العامل الأكثر تأثيراً في مُجمل الاتجاهات، خاصة إذا ما كانت أصيلة ومسيطرة على كلّ مناحي الشخصية.وغالباً ما يَفْلَح الفرد إنْ سار على درب الميول البنّاءة التي تجد صداها في أعماق نفسه.
15.05.2009