هشام عبد الحميد الشلوي
“لا نريد أن نحيا في يوتوبيا، تلك المروج التي تقع تحت الأرض، ولا على جزيرة سرية يعلم الله وحده أين تكون. بل في هذا العالم نفسه، الذي هو عالمنا أجمعين، هذا المكان الذي نجد فيه سعادتنا في آخر المطاف، أو لا نجد شيئا على الإطلاق” وليم وردزورث.
يقول سيمور مارتين ليبست في كتابه الإنسان السياسي (السياسة اليوم أصبحت أمرا مضجرا) وينقل عن صحفي سويدي “إن القضايا الوحيدة الآن هي ما إذا كان من حق عمال المعادن أن يحصلوا على أجر أكبر مقابل ساعات العمل، أو ما إذا كان من الضروري ارتفاع أسعار الحليب، أو التوسع في تعويضات المتقدمين في السن “. ويقول راسل جاكوبي في نهاية اليوتوبيا ” وعند ليبست – كما هو الأمر عند آرون – فإن المشاكل الأساسية للثورة الصناعية لم تعد تؤدِ إلى خلافات أيديولوجية وهو يؤكد أن هذا الانتصار ذاته الذي حققته الثورة الديمقراطية الاجتماعية في الغرب قد وضع النهاية للسياسة على المستوى الداخلي أو المحلي بالنسبة لهؤلاء المثقفين الذين يجب أن تكون لديهم أيديولوجيات أو يوتوبيات تدفعهم إلى العمل السياسي .”
مع أن هذا النقل السابق لا يمثل رأي السيد راسل جاكوبي أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا ، إلا أنه يمثل قاعدة فكرية تروج لنهاية ما أسمته بالتاريخ وبالتالي تسليم القياد لليبرالية الغربية أو بالأحرى الآن الأمريكية . إلا أنه يطرح فكرة قد تكون جديرة بالمناقشة ومحاولة تمثيلها وعرضها بصورة تناسب الواقع السياسي والثقافي المحلي للشعوب الناطقة باللغة العربية، حيث أنها هي الشعوب الأكثر تعرضا للقهر والطغيان والاستبداد بسبب أحلام أيديولوجية تبلورت هذه الأحلام في شكل سياسات وواقع شديد الضبابية والسواد لاعتلاء قادة حالمين بخلق فراديس أرضية تشبه نهمهم نحو المطلق سواء الديني أو الأرضي .
وبالتالي انعكست هذه الطوبويات على التنمية الداخلية وحقوق الإنسان. كانت خطتهم هي زرع منظومات عن طريق خلق ما يشبه الميلشيات الغوغائية التي دائما ما تصرخ ويعلو صراخها عند وضوح فشل ما في ركن من أركان النظرية الطوباوية . هذه الميلشيات تُستخدم عادة للقمع المادي والفكري ، إلا أنها كانت هي الكبش السخي الذي يٌقدم عند أول منعطف تحاول فيه القيادات تبرئة ذمتها مما أُلصق بها من أسباب تحول الدولة إلى سلطة وفقدانها لثقة الشعب وعجزها عن التنمية .
إن النموذج الشمال إفريقي الذي انشغل كنتيجة للحماسة التي شاعت جراء المد الثوري الناصري، لهو دليل ماثل على الفشل الذريع الذي مُنيت به هذه الأنظمة لانشغالها السياسي على حساب مشاريع التنمية التي خفقت في النمو كنتيجة لتهميشها وتهميش تنمية نظم التعليم وتوسيع دائرة المشاركة في برامج التنمية. مما يجعلنا نطرح سؤالا قد يكون مهما في نظر البعض، هل تحتاج المنطقة العربية إلى ساسة ذوي ميول أيديولوجية طوباوية حالمة قدر احتياجها إلى تكنوقراط ينهض ببرامج تنمية تعي أن إنسان هذه الشعوب ليس مجرد رقم عابر في برامج الإحصاء؟
المفارق أن هذه الطبقة السياسية- وهي طبقة عسكرية نزعت عنها الزي العسكري وتلبست إما بأزياء وطنية أو البدل ذات القطع الثلاث أو الأربع- تتبنى يوتوبيات حالمة إلا أنها لم تستفد من جماع معاني هذه الكلمة التي من ضمن ما تتضمن من معان هو النظر على أن المستقبل لن يشابه الحاضر وأنه سيكون أفضل منه بمعنى من المعاني . فقد كانت تتبنى وجهة نظر عملية تقول إنه يجب إفناء الذات وقتل الروح الفردية الطامحة والراغبة في تغيير الواقع محتجة أن ذلك الفعل التاريخي والإنساني والوجودي الجانح إلى التغيير سيهدد منجزات ثورية مزعومة . فهي تتبنى الراهن اليوتوبي وتعدل عن الشق المستقبلي .
لقد أكدت ماريا لويزا برنيري في كتابها المدينة الفاضلة عبر التاريخ في عرضها لليوتوبيات، الطابع التسلطي غير المتسامح لمعظم هذه الرؤى . لقد أذابت هذه اليوتوبيات وأصهرت شخصية الفرد وإنسانيته وكرامته في المجموع العام، ومارست عليه قهرا واستبدادا أخلاقيا وماديا لصالح رؤاها الفردية والتي أرادت من خلالها التعميم على كافة أنماط وسلوكيات المجتمع.
إن استمرار هؤلاء الحالمين في تكريس عقائدهم ليشكل خطرا داهما على مستقبل الإنسان والتنمية، كونهم لا يستطيعون سماع نداءات الاستغاثة التي تنبعث من أركان النظام الاجتماعي القائم، بل إنهم في سبيل فرض رؤاهم يتحولون إلى قتلة ومجرمين، لقد تجاوز العالم مرحلة فرض الأحلام إلى مرحلة محاولة التقليل من الشرور.
_________________________
عن موقع ليبيا اليوم
02.08.2009