قراءات

هل للجوع رائحة

عفـاف عبدالمحـسن

ناجي الحربي اشتم رائحة الجوع ونثرها لنا عبر مجموعة قصصية، هذا الأديب الذي استشعر أنه يؤمن أن الجنس الأدبي أنثوي ليس بفعل التاء المربوطة في كلمة “قصة، قصيدة، مقالة” ولا لأنه يحفظ عن ظهر قلب ما كتبته هدى شعراوي “الذي لا يؤمن بحقوق المرأة ينسى أمه وأخته وزوجته من النساء”.

بل لأنه يتقمصها في ذاته ويحبها لدرجة أنه أهدى لها مجموعته الأولى القصصية التي صدرت في العام 2000 عن مجلس تنمية الإبداع الثقافي ويجمعها تحت عنوان “هل للجوع رائحة” إحدى قصص مجموعته بل أقواها وأعمقها وأصعبها وأكثرها مأساوية على الأقل في نفسي لأنها جعلتني اكتئب بل ورحلت بي إلى أعداد من الناس ربما عاشوا ويعيشون نفس المعاناة مع الجوع.. ويموتمون جوعى.. فيما آخرون على الضفة الآخرى من الحياة تقتلهم التخمة.

أعود بكم.. لتلك التي استشفيت منها أن القاص ليس كبعض الكتاب مصاب “بشيزوفرينيا” الأدباء بين شخصية الإنسان والأديب ونظرته للأنثى.. ولكنها في كل الأحوال.. مسه قريته المجاورة لمدينة البيضاء التي أهداها مجموعته يبدوا لأنها مصدر استلهاما ته  بل هي الملهمة التي يحاورها فترد عليه بمحبة وترشده حيث السكينة، ويعود إليها فتربت على قلبه بحنو وتتقاسم معه الرغيف الفارغ فلا تقلقه تفاحات تعطب بسهولة ولا تشعره بالشبع، والكاتب جوعه يختلف نهمه للمعاني والعمق الرؤيوي فيما بعد الأمكنة والأزمنة لتبقى كلماته صالحة لكل العصور وشعوره بالشبع حين تتجسد استنطاقاته عبر كل متعانقات العمل الأدبي تلك لتتلخص قصة أو مقالة أو قراءة وتتماوج بين عالم من العيون والأيدي والأذهان والقلوب التي تتلقفها وكل يراها من زاوية، وعن تلك اللمسة في حياته التي تركت بصماتها بقوة على أعماله القصصية يقول ناجي الحربي:

“أما الدالية” مسه “مراتع الطفولة.. كم هم ظرفاء وطيبون أبناؤك.. وكم هو جميل معك الحوار”.

الصحفي القاص ناجي الحربي قبل إصدار هذه المجموعة رائحة الجوع قرأنا له في الصحف قصصا ً قصيرة كما عادة ً هذا الإنتاج الأدبي ما ينحني توقيرا ً لخادمته الوفية الصحيفة فهو يدين لها برواجه وانتشاره..

فالمحافل لا تعني كثيرا ً بالقصة كل من الإنتاج الأدبي الفني الذي يمكن إلقاؤه كما الحكاواتيه في أزمان سابقة ربما مع اختلاف روح العصر ومتطلبات اللهاث وراء الزمن المتكالب وراء التوقيت لمزيد من الماديات، وربما لأن الحكاواتيه كانوا يستخدمون الأسلوب الشعبي الجذاب للسامع والرائي.. أما كتاب القصة الآن تأخذهم مظاهر الاحتفالية الأدبية بجمودها فيجمدون معها لدرجة أنهم يملون قبل أن يملهم الحضور.

لذا كانت الصحف مرتعا ً وملاذا ً ووسيلة ً مهمة ً وقناة ً إعلامية ودعائية مهمة تهتم بالقصة القصيرة والقاص فيعرفه القارئ قلما ً قبل أن يتعرف عليه إنسانا ً وربما نتوقف معه في رائحة الجوع أولاً فنستنبط الجانبين فيه:

مهزوما ً كعادته عاد إلى بيته الذي يحوي أسراره.. ويتسع لهمومه القابعة داخل صدره الضيق!!.

دلف إلى المطبخ جذب باب الثلاجة وسحب صحنا ً به ثلاث تفاحات من النوع الرخيص، قضم الأولى ملء شدقه، فوجد طعمها مرا ً. رمى بها في جوف كيس القمامة !! أمسك الثانية.. تفحصها بنظرات ملتهبة.. لاحظ اجتياح الفساد لها فأسود لونها.. ألحقها بأختها.. أغمض عينيه وأزدرد الثالثة بنهم، متنازلا ً عن نتانة مذاقها من أجل نداء أمعائه الخاوية !!.

ابتسم ببؤس، وغادر المطبخ، يجر قدميه بهدوء.. تململ فوق حافة سريره.. مرخيا ً جسده المثقل بالآلام مسندا ً رأسه على وسادته المحتفظة برائحة عرقه.. أشعل سيجارة، وسحب منها أنفاسا ً عميقة متلاحقة جال ببصره في أرجاء غرفته التي تعج بالفوضى، حاور نفسه.. ماذا أفعل اليوم ؟ كان يوما ً من طراز دامع، كلما تقدم لجهة ما تغمره وعود الأمل.. لكن البطون المترهلة على مقاعد دوارة تصدمه بالرفض، والأنامل الناعمة تنهره معلنة عن انتهاء المقابلة.. فالأبواب سدت في وجهة بإحكام.!!

تسربت قطرة دافئة من الدمع إلى زاوية فمه.. فيما أيقن أن بكاء رجل مثله لا يعني الجبن أو اليأس !.

تسلل النوم إلى جفنيه خلسة.. بعد أن تمرد في النصف الأول من الليل، وارتخت يده فسقطت على الفراش وتدحرجت منها بقية لفافته الثانية.. فأحرقت غطاءه وسرعان ما بدأت تلتهم كل شيء، تصاعدت ألسنتها الشرسة.. توالت الطرقات القوية على الباب.. تعالت صرخات النساء، وانهمرت مياه الجيران ودموعهم تطفئ الحريق..

أخمدت النار.. وتزاحم الناس عند مدخل الحجرة.ز لم يروا شيئا ً سوى كتلة من الفحم تكومت فوق أسلاك حديدية تفوح منها رائحة رجل جائع فارق الحياة قبل أن يحترق !.

ربما لاحظتم معي انه فعلا ً في قصته أظهر المخزون المعمق ما بين الحداثة والكلاسيكية والفترة الزمنية بينهما مع السياق السائد ولكنه شكلها بروحانيات خاصة بأنفاس الأدب الشفهي الذي تناقل قديما ً كونها تحفر فينا عميقا ً..

ولأنها تتسم بالسلاسة وربما بالواقعية فنحن نسمع عن أناس أهلكتهم محكات الحياة الصعبة رغم صراعهم المرير من أجل البقاء بصورة الفاضلة.

ربما يتساءل القارئ ماذا بعد ؟.

وكان لزاما ً أن أوضح بداية أن هذه قراءة أقول من خلالها – هذا قاص آخر ولج عوالم القصة القصيرة فأيناه من القارئ والناقد ؟؟.

ولماذا تقبع إصدارات البعض في الظل بينما يروج الآخرين لحد الملل ؟ !!.

ولأنني لا أنتقد ولا أنقد في وقت يفترض أن تطرح فيه كل المذاقات والحكم هو القارئ المتلقي للإبقاء على الأصلح والأقوى كونه المستفيد الوحيد والمتضرر الوحيد، ولأن النقد لم يعد مسألة قراءة ثانية للنص الأدبي ولا حتى ثالثة لبناءات رؤيوية  قد تفيد الأديب أكثر من كونها قواعد يتشكل على أساسها بمنهجية وحيادية دون النظر لاسم الكاتب وعلاقته بالناقد بقدر علاقة الناقد بالنص ولأنه أصبح لعبة غريبة بين المصطلح والإبداع لدرجة التقعر الذي تكثر أمامه علامات التعجب وقد نقول أحيانا ً هل يستحق النتاج الأدبي برهافته وحساسيته ورقة حشاياه مهما كان جنسه.. لكل علامات التعجب تلك ؟.

وقاص كناجي الحربي يلاحظ من يقرأ مجموعته الأولى تطابق ملاحظة  أ. بشير الهاشمي في كتابه الدراسي ” وهج الكلمات – في الأدب وما يسطرون ” واقتبس عنه بتصرف..

” القصة القصيرة بشكلها الأدبي وبخصائصها الفنية الإبداعية نتاج متداخل من نتاجات التفاعل والتأثر والانصهار بين معطيات ثقافية وفكرية وحضارية متشابكة “.

انتهى الاقتباس – ومصداقا ً للعلاقة التي تربط بين القاص وهذه العبارة للهاشمي – التنوع الإبداعي الراقي والتأثر الملحوظ بالبيئة حديثا ً وقديما ً أو بالعكس والتحديث هو الأقرب كونه موجوداً في يومياتنا بينما نحن أو هو عادة ما نستحث القديم ليظهر ونستنطقه ليكون حاضرا ً حين ننفض عنه غبار السنين، اقرأوا معي هذه القصة تحت عنوان.. العفريتة – في ذات مجموعته:

كم هي مزعجة تلك الحكايات التي كانت تغزلها جدتي قبل أن يداعب النوم أجفاني… كثيرا ً ما كانت تؤرقني حتى الخيط الأول من الفجر.. عندما كنت صغيرا ً..

أذكر منها فيما أذكر قصة – العفريتة – التي ابتلعت عقلها.. فأصبحت تصطاد الأطفال، تتسلى بقصف أعناقهم.. وتتمتع باغتيال البراءة في أعينهم..

ذات مرة..

معلنة عن قدوم ضيف جديد لهجت نساء الحي بالزغاريد إنه طفل.. اختاروا له من الأسماء –سامح-.

كبر سامح.. وكبرت أطماع  – العفريتة – أنه بلغ السادسة.. ولا بد أن يرافق زملاؤه إلى المدرسة وليس ثمة ما هو أروع من الطفولة..

حمل – سامح – حقيبته بين كتفيه.. وبداخلها كل الأمنيات الطيبة.. والأحلام الصغيرة.. وعندما ولج أول باب للعلم.. في أول يوم.. قضى كل وقته.. وكأنه حلم جميل..

في طريق عودته إلى وكره المتواضع.. كأنه الريح ليخبر أمه بيومه الممتع.. وبألف حكاية.. وقصة.. كانت العفريتة تنتظره بحقدها الدفين.. وفي أحد الأزقة المؤدية إلى بيته هجمت العفريتة بأظافرها المسعورة.. ومنظرها البشع.. ورائحتها الكريهة.. تقضم عنق الصغير.. تطبق على أنفاسه.. حتى خرجت روحه.. ثم تركته كخرقة بالية..

رجعت العفريتة إلى مخبئها النتن تقهقه.. منتشية بنصرها.. هكذا تظن نفسها.. ! واستلقت مرخية أذنيها.. فربما تسمع في أرجاء الحي زغرودة لولادة أخرى.. !.

مسكينة جدتي فقد كانت تعتقد – فيما تعتقد أن خراريفها المنسوجة بخيوط الخيال تجلب النوم… وتبعث على الاطمئنان لكنها في الواقع كانت تلاحقني كالظل.. فقد علقت بذهني.. وسيطرت على عقلي حتى عندما غزا الشيب رأسي.. وداهمني الصلع..

فجدتي تجهل أن تراثنا وتاريخنا فيهما ما يغرس الفضائل الحسنة.. ! هذا القلم المتخيل السابح في دنيا الخيال للحظات هو ذاته التقريري الواقعي الذي ينقلك فجأة لمراده من كل ما سرد في تعرجات الكلام الإبداعي المنسوج كقصة ربما هكذا أقول أنا ولن يعجب ببساطة طرحي للموضوع بعض المتفذلكين ولكنه هكذا عميق ببساطته غامض بوضوحه، حالم باصطدامات رأسه ولو تهشم، حين يرمي بخيالنا السابح معه من أعلى قمة الوجد لقارعة الحقيقة الجافة، اقرأوا ذلك في نموذج آخر من أعماله ” الفقر ” واشهدوا الواقعة مابين البداية في: ” كان الفقر يأكل قلبينا ” والختام في نهاية الحوارية ” هل معك نصف دينار ثمنا ً للقهوة “.

كان الفقر يأكل قلبينا بشدة.. لم يكن أمامنا إلا أن نلوذ بذلك المقهى القصي..بعد آخر رشفة نظر صديقي إلى فنجانه بعينين دامعتين، قال لي:

هل ترى ؟ المستقبل في ذيل هذا الفنجان ؟.

قلت له:

هراء.. خرافات.. لست مقتنعا ً بها !!.

ارتسمت على وجهه خيوط الحزن والغموض !! لكنه بنصف ابتسامة قال:

ماذا لو أصبحنا فجأة أنا وأنت أثرياء.. أنا ملياردير.. وأنت مليونير.. فماذا تفعل ؟.

كان لغرابة السؤال أن فقدت الإجابة.. تلاشت كل أحلامي التي رسمتها في ساعات خلوتي بالفقر..

لكن شيئا ً من الحنق بدأ يعتمل في داخل كياني.

تساءلت في ذات نفسي:

” يا لحقد البشر.. حتى في الأحلام لا يوجد حب إيثار !! هو ملياردير وأنا مليونير !! هل من الضروري وجود هذا الفارق المادي ؟ اللعنة !!.”

بدأ الملياردير يسرد أمنياته المتزاحمة في رأسه الصغيرة، فقال ضمن ما قال: سأشتري بيتا ً يليق بأطفالي الثمانية.. وأعيد ترتيب أثاثه على أحدث طراز.. وستكون عندي سيارة.. بل سيارتان جديدتان مناسبتان لمكانتي الاجتماعية.. وسأشتري ملابس ثمينة لأولادي وبناتي.. وسألتزم بأصناف أكل فاخرة.. وأسدد كل ديوني المتراكمة هنا وهناك.. وسأ…

كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا ً فيما بدأ النادل يجمع الأكواب المتناثرة من على المناضد.. ويضع المقاعد بطريقة مقلوبة معلنا ً عن اقتراب موعد قفل المقهى.. أمنيات صديقي كثيرة.. لا حد لها.. لكنها تافهة وصغيرة.. فعندما وقفنا كانت آخر أمنياته أن يتزوج سكرتيرة المدير الجميلة.. ضحكت بسخرية وانتظرت أن يضع يده في جبيه ليخرج ثمن فنجاني القهوة.. وبوجه شاحب وارتباك مفضوح قال:      هل معك نصف دينار ثمنا ً للقهوة ؟ !.

سأضع نقطة آخر سطر وأقف معكم، ولتعرفوه أكثر اقرأوا عبر رائحة الجوع التي تضوع من حين لآخر فتزكم أنوف المتشبعين من كل شيء وبكل شيء والتي جمع فيها أربعا ً وعشرين قصة قصيرة بدأت..

“بالوطن، واختتمت بآخر كذبة في العام 1999 وتوسطتها.. الرجال، لحظة احتضار، الميراث، الكابوس، نهاية كل عام، لا تتوقف.. الخ”.

لا أدري مع ابتعاد المسافة بين الكاتبين والنمطية والروح والأسلوب – لماذا حين اقرأ لناجي الحربي أتذكر الحلاج ؟!.

____________________

عن موقع جـلـيـانـا

مقالات ذات علاقة

الفيلم الليبي القصير “العشوائي” يرصد ظاهرة التصنيفات الحادة بالمجتمع

إيناس المنصوري

مراجعة كتاب الشخصية الليبية… ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة 2/2

فوزية بريون

أرسان الروح: مواجهة الحصادي لمرآة ذاته

مهنّد سليمان

اترك تعليق